فنجان حبر مع المنصف المرزوقي

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 24 دقيقة للقراءة

إذا كنت دقيقًا في مواعيدك مع أصدقائك، فستصل إلى المكان قبل 5 دقائق من الموعد. لكن ماذا تفعل حين تواعد رئيس جمهورية سابق؟ لا أعرف إجابتك، لكني أعرف أني جئت قبل موعدي بـ40 دقيقة. لا تلمني، لا ألتقي برؤساء كل يوم.

وصلتُ إلى فندق شيراتون الدوحة في الثامنة وخمسين دقيقة مساءً، كان موعدي مع الدكتور المنصف المرزوقي، أول رئيس منتخب في انتخابات حرة بعد الربيع العربي، في التاسعة والنصف. وكنت أطمع بأن يتاح لي وقت إضافي إذا بدأنا في اللقاء قبل الموعد المحدد بنصف ساعة.

جلستُ في البهو أقلّبُ أوراقي وأنتظر أملًا في أن يؤذن لي قبل الموعد فآخذ نصف ساعتي منضافًا إليها دقائق من الهوامش.. فتحت هاتفي وأرسلت صورتي لوالديّ وكتبت لهما: أتجهّز الآن لإجراء حوار مع أول رئيس عربيّ منتخب. بابٌ من أبواب البرّ تعلّمته من زكي مبارك، ولكن بطريقة معكوسة. قرأت لزكي مبارك مرةً أنه لم يشكُ يومًا لأبيه صعوبات عيشه، مخافة أن يهمّه. وأنا لا أشارك والديّ إلا الأخبار السعيدة. ولعل الفتى زكي المغروس في التراث العربيّ اقتبس هذا الخلق الرفيع من مقولة إبراهيم بن إسحاق الموصلي: “الرجلُ كل الرجل، من يدخل غمه على نفسه، ولا يدخله على أهله”.

في التاسعة إلا 5 دقائق، وقف شاب أنيق في قلب البهو، عرفت من إمساكه بهاتفه وتلفّته أنه من فريق المنصف، فمشيتُ نحوه.

مرحبًا، أنا عبد القدوس.

مرحبًا، أنا المختار، الدكتور مستعدٌ لاستقبالك الآن. ومشينا نحو المصعد. إذا كنتَ ممن يحتمل الصمت الرهيب، في المساحات الضيقة كالمصاعد، فلستُ أفهمك، ذلك شيء لا أطيقه. قطعت الصمت المزعج بسؤاله عن مكان إقامته، وعن عمله، ففهمت أنه يملك مخبزًا في فرنسا منذ وقت طويل. التفتّ إليه بكلّي، واستقبلته، ومددت إليه يدي لأصافحه للمرة الثانية.

“حسنًا سي المختار هذا سؤالٌ خارج عن الحوار مع فخامة الرئيس، لكن لا بدَّ لي منه” سألته بكل جديّة.

“تفضل” قالها وهو يشدّ يده على يدي، ليعكس جديّته في تلقي السؤال.

“ما هو سر الكرواسون عندكم، الناس عندنا يأكلون عجينًا صرفًا على شكل هلال ويسمونه كرواسون، وهو مختلف لما ذقته في فرنسا، هل السر في تخمير العجين، أم جودة الأفران، أم ماذا؟”.

“هذا سؤال جيّد، سأبوح لك بسر الصنعة، السرّ في الزبدة! لا بد أن تكون ذات جودة ليكون الكرواسون ممتازًا” قال هذا وانفتح باب المصعد، وظن أن السؤال قد انتهى.

تشبثت بيده لأشعره أن الموضوع لم ينتهِ بعد، وسألته: وما هي الزبدة التي تستخدمونها. بنصف ابتسامة ونصف دهشة قال: “نشتري زبدتنا من إقليم فرنسي مشهور بجودة ألبانه قريب من بواتييه، واسمه (grand fermage)، ها قد أصبح لديك كل أسباب المنافسة”. أردف ممازحًا. دوّنت اسم الزبدة، ووضعت الورقة في جيبي.

ربما لو انتصر عبد الرحمن الغافقي على شارل مارتل في معركة بواتييه أو بلاط الشهداء 114هـ/ 732م، لكان الوصول إلى هذه الزبدة الجيّدة أسهل..

في الطابق الخامس ينفتح الباب رقم 34 على جناحٍ واسع أنيق، سرنا في الممر المفضي إلى جلسة واسعة وغرفتين تتوزعان على الممر يمينيًا وشمالا. في نهاية الممر يقف رجلٌ على رأس الـ70، في بدلة زرقاء داكنة وقميص أبيض. انتهينا إلى غرفة الجلوس المتسعة بمكتب وأريكتين، تطل من شاشة الحاسوب المفتوح على المكتب صورة لطفلتين جميلتين، فهمتُ لاحقًا أنهما حفيدتاه.

رحبَ بي، وأجلسني على أريكة مفردة، وجلس مما يليني على الأريكة الممتدة. وقال لمساعده: قبل أن تذهب، أرجوك تفاهم مع آلة القهوة هذه لم أحسن التعامل معها.  قدّم لنا مساعده القهوة وودعنا.

بعد السلام والرسميات، بادرته قائلًا:

“فخامة الرئيس أستأذنك في مسألتين”

فقال: بحفاوة “بالتأكيد تفضل”

أولا، في طرح الألقاب، حتى ينطلق لساني بالأسئلة، وأنت تعلم أن أول ما فاتح به أبو حيان التوحيدي الوزير ابن العارض في ليالي الإمتاع والمؤانسة أن قال له: [أيها الوزير] يُؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جَدَد القول من غير تقيّة”.

وثانيا، أن الصحفيّ إذا لم يتواقح في بعض أسئلته بقيت غصَّة في قلبه، وشجًا في حلقه. فاحتمل لي جرأتي في السؤال، واغفر لي تطاولي في التنقيب.

فقال متبسمًا: “شيء طبيعي، خذ راحتك!”

ففتحتُ مذكّرتي، وتوجهت له بأول سؤال مُعدّ “حسنا، ما الذي يفعله المنصف المرزوقي الآن، رجل في الـ70، كان معارضًا ثم وصل إلى سدة الرئاسة حين نفخت رياح الربيع في شراعه، ثم انقلبوا عليه وصار اليومَ شبه مشرّد يلاحقه القضاء التونسي كما يطارد المجرمين، فلماذا لا يستريح ويتقاعد عن العمل السياسي، فقد بلغ الغاية في الجهد، ولم تعد بوارق الأمل تشي بتغيير قريب. كثير من الشباب -والتفاؤل أقرب إلى أخلاق الشباب من الشيوخ- كفروا بالتغيير حين رأوا ما آلت إليه الأمور، فلم لا تستريح؟.

كان يستمع إليّ بتركيز، ولم أكد أفرغ من طرح السؤال حتى انقض مجيبًا وكأن الجواب كان مختمرًا في ذهنه “شوف، أنا لا أنغمس في الزمن القصير بل أنا منغمس في الزمن الطويل، أنا قارئ جيّد للتاريخ، وقد عشتُ معركة والدي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي ودخل السجن بسبب نضاله، ثم وجد نفسه في الصف الخاسر بين صالح بن يوسف الذي كان عروبيًا إسلاميًا وبو رقيبة الذي كان فرنكفونيا، اختار والدي الشق الخاسر، ووُصِم بالخيانة، بالمناسبة، وصف الخيانة يلاحقني منذ كنت طفلًا حين كان يطلق على والدي، والآن صار يطلق عليّ، لقد بقي والدي معارضًا للسلطة 33 سنة، ولا بد أن أحطم رقمه وأصمد 34 سنة” قالها باسمًا، كالممازح.

ثم عادت ملامح الجدِّ على وجهه الراسخ في السحنة العربيّة وقال “نحن بدو، والبدويّ عنيد بطبعه، تعوّدنا على شظف العيش والصراع، الدرس الذي حفظته من التاريخ أن زمن الأفراد ليس هو زمن الشعوب، الذي قد يمتد لمئة أو مئتين سنة.. دورك أنت أن تكون حلقة في مسار التحرر” قال الجملة الأخيرة، وقد لانت ملامحه، وعاد كمعلّمٍ ينصح لتلميذه، أو شيخ يلقي بوصيته الأخيرة إلى حفيده.

متى توفي الوالد؟

“في عام 1988، لقد قاوم والدي الاستعمار، وأنا أقاوم الاستبداد، والاستبداد والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وسأورِّث هذا لابنتي التي تدرِّس الآن في هارفارد، سأنغّض عيشهم إلى أن أموت، وبعد الموت سأنغّص عيشهم أكثر لأني تركت كتبًا وكتاباتٍ كثيرة.. حتى بعد موتي سأواصلُ النضال!”.

لا يمكن أن تمنع نفسك من التأثر بتيّار الحماسة السياسيّة، الذي يولّده المنصف المرزوقي حتى وهو جالس على الأريكة، وكأنه أمام حفل جماهيريّ في ميدان من ميادين التحرير. أردتُ أن نكسر نمط الحديث السياسيّ الذي بدأ ساخنًا منذ البداية فقلبتُ أوراق مذكرتي إلى السؤال الأخير.

“حدثني عن القناعات التي توصّلتَ إليها بعد كل هذا العمر المديد” ولأوضّح السؤال أكثر، ضربتُ له مثالًا “قرأتُ مرة في مذكرات مراد هوفمان، أنه كان يكتب خلاصة قناعاته ومعتقداته الفكريّة التي انتهى إليها في دفتر صغير، فلما شبَّ ابنه، دفع الدفتر إليه في عيد ميلاده الـ18”.

“خلاصاتي الحياتيّة ستجدها في كتابي الرحلة، وهو كتاب سمين في 600 صفحة، فلا يمكن تلخيصه في جلسة، ولكن دعني أقول لك خلاصة رئيسة وصلت إليها، وهي أن البشريّة تهددها 3 آفات طبيعية و3 آفات من صنع الإنسان، أما الآفات الطبيعية: فالزلازل والطوفان والأوبئة وهذه الأخيرة أعرفها لتخصصي فيها.

وأما تلك التي من صنع الإنسان فهي: الاستبداد، والاستعباد، والاستعمار، وإذا استطعنا أن نخلص البشرية منها فسنصنع عملًا عظيما. في تونس عام 1846 كان البشر يباعون على قارعة الطريق، كالبهائم، وقد كانت تونس رائدة العالم في إلغاء نظام العبودية، قبل سنوات من قرار إلغاء الولايات المتحدة له، وأنا فخور بهذا. إذن، الاستعباد قد انتهى إذا استثنينا تجارة الجنس، والاستعمار كذلك انتهى ما عدا في فلسطين، وبقي الاستبداد الذي هو من بقايا النزعات الحيوانيّة التي في الإنسان، فهو من شريعة الغاب. إذا أرادت البشرية العيش بكرامة لابد من القضاء على هذه الآفات. ودوري كمثقف وسياسي دفع البشرية للتخلص من الاستبداد”.

قلتُ في نفسي لقد عدنا إلى السياسة، وبالتالي يبدو أن محاولة الخروج عنها جهدٌ ضائع، يقول الفرنسيّون في أمثالهم: بائعة السجائر مهما بلغ جمالها، لا يمكنها أن تبيعك شيئًا غير السجائر.

هذه خلاصة طيّبة، لنعد إلى المشهد اليوم، كيف تنظر إلى “طوفان الأقصى” وهل أحدث لديك تغييرًا أو مراجعات؟

“لديّ نظريّة في مسألة الربيع العربي، فالتسمية واردة إلينا ولا تعبر عن واقعنا، أما أنا فأشبّه وضعنا في المنطقة العربية بالبراكين التي تحصل بدون توقع ويكون أثرها هائلًا، فنحن لا نعلم متى وأين سيثور البركان، لأنه لا يثور إلا فجأة، وكذلك كان الربيع العربي، والطوفان هو بركان ثانٍ من البراكين التي انفجرت في منطقتنا، وهو من جهة تصفية لفاتورة الانقلاب على الربيع العربي، انفجار هذه البراكين وتغيير الواقع أمر حتمي”.

“لكن البراكين تخمد لقرون!” قلتُ معلقًا، بعد أن أعجبتني الاستعارة، وأردتُ مجاراته فيها ولكن بنظرة تشاؤميّة.

“صحيح لكنها إذا ثارت تغيّر كل ما حولها. وتصبح أراضيها من أخصب الأراضي للعيش من بعد”.

عشتَ في الغرب طويلًا، ألم يغيّر الطوفان نظرتك إلى الغرب، ألم يبدِ لك وجهه القبيح؟

“بالعكس، ما حصل تجميل لوجه الغرب!” وصاحبت كلمته التالية تعابير وجهي التي قرأها سريعًا فقال: “وهنا ستفاجأ!”

كيف؟

مد يده إلى كوب القهوة أمامه وارتشف منه، ثم قال:

“أين خرجت المظاهرات لمناصرة غزة؟ في لندن، ونيويورك، وسيدني. أنا حضرت مظاهرة في باريس كان 90% من المتظاهرين من الفرنسيين البيض! هؤلاء لم تخرجهم القرابة، وإنما القيم. نحن دائما ما نخلط بين الشعوب والأنظمة. الغرب ليس هو الحكومات الغربية. أضف إلى ذلك الحديث عن الاعتراف بدولة فلسطينية لدى إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا. لقد حسّن الطوفان نظرتي إلى الغرب، أرادتها إسرائيل حربًا ضد اليهود وضد السامية لكنها بدت حرب تحرر عند الغرب!.

لكن يا سيدي، تخرج المظاهرات في الغرب وتملأ الشوارع هتافًا، وبعدها تطير الطائرات بالأسلحة لإسرائيل لتذبح الفلسطينيين، وبالتالي ما الفائدة من موقف الشعوب، والفعل المؤثّر يحتكره السياسي؟

“في البلاد الديمقراطية تؤثر الشعوب في القرار. ليس كدول الاستبداد، صدقني أن الحراك في فرنسا غير قليلا في موقف الحكومة، وهذا الشارع الأميركي يحاصر بايدن في سياسته مع إسرائيل. من أحرق نفسه تظاهرًا لغزة؟ طيار أميركي. هل تصورت هذا من قبل؟ أنا منذ 50 سنة أعيش في أوروبا ولم أر تفاعلًا أوروبيا مثل المظاهرات الحالية” عاد ليرتشف من كوبه، وأردف “هذا جيل جديد. ولا يشبه الأجيال القديمة، أجيال الاستعمار، ولا بد أن نتواصل ونتفاعل معه”.

أغراني شربه للقهوة بأن أمدَّ يدي إلى كوب القهوة أمامي، وأرتشف منه، لم تكن قهوةً رئاسية، غسلت بقاياها في فمي، بشربة من كأس الماء، ثم وجهت إليه سؤالا كان يلوح في ذهني وأنا أتابع مسيرة ذلك الرئيس الذي يشبه شعبه، ويشبهنا.

لماذا يكره المنصف المرزوقي المال؟

“كيف قلت لي؟” نظر إليّ باستغراب

لقد خرجتَ من الرئاسة بذمة مالية نقيّة، وبقيتَ رافضًا لكل عروض الثراء المقدمة لك من قوى الرجعية، هل تكره المال، هل أثرت ميولك اليسارية في نظرتك له؟

“المال وسيلة وليس هدفًا. يساعد على تسهيل حياة الناس، لكن عندما يكون وسيلة لشراء الضمائر..”

قاطعته قائلًا “أتكلم عنك أنت، ألا يداعبك خيال المال والغنى وتكوين ثروة؟”

أبدًا، أنا أظن الثروة هي ثروة ثقافية، أعتبر نفسي غنيا جدًا، غنيٌّ بالكتب التي قرأتها، بكل السيمفونيات التي استمعت إليها، والأشخاص البديعين الذين صادقتهم وتعرفت عليهم هذه هي الثروة بالنسبة لي”.

هذا مفهوم غريب للثراء، هل هو شيء نشأت عليه أم اكتسبته؟

“بل نشأت عليه، لتربيتي البدوية، اللذة عندنا في العطاء لا في الأخذ!”.

على قضية البداوة من أين جئت بهذه الفصاحة؟ كيف تكوّنت قدرتك على كَبْسَلَة الأفكار في عبارات مشرقة؟

“نحن المرازيق قبيلة عربية، أختي شاعرة بدوية، جدي كذلك كان شاعرًا، يقال إننا من بني سُليم [إذن، فالخنساء منكم]، هاجرنا إلى مصر ثم طردنا الفاطميون فاتجهنا غربا. لماذا أحب القطريين؟، لأن لهجتهم تذكرني بلهجة أختي وأرضنا”.

كان نظام بن علي موغلًا في الدناءة تجاه خصومه السياسيين، ويعرف أن مسألة الشرف مسألة حاسمة لدى التونسيين. في الوقت الذي فرض النظام البائد على المرزوقي الإقامة الجبرية في منزله، مطوقًا إياه بكتيبة من الشرطة، دسّ إليه سيدة لتتهمه بنفسها، وفي اللحظة التي خرج فيها المنصف ليودّع ضيوفًا نزلوا عليه، تسلطت الكاميرا على الباب، وقفزت السيدة على الرجل وتعلقت به وأخذت تصرخ “سي المنصف لقد فعلت بي وفعلت” ليقاطعها الشرطي من خلفها، “ليس هذا هو، لقد أمسكت بالشخص الغلط، المرزوقي يقف إلى جانبه!” وتحولت هذه المكيدة إلى كوميديا سوداء.

بعد أن أُجهِضَ حلم الربيع العربي على أيدي العسكر وقوى إقليميّة، هل ترى أن قضيّتنا قضية استقلال أم تحوّل ديمقراطي؟

“لا تفصل المعركتين، الاستعمار والاستبداد شيء واحد في منطقتنا، كيف يمكننا أن نقيم نظاما ديمقراطيا في بيئة استبدادية، لا يمكن، ولذلك يجب علينا أن تكون معركتنا معركة ديمقراطية واسعة، يجب أن تكون جماعات الديمقراطية متواصلة ومتعاونة فيما بينها في الدول العربية، وهذا ما أعمل عليه الآن من خلال شبكة الديمقراطيين العرب”.

من يستمع لخطابات المنصف المرزوقي في مسائل الهوية والثقافة والحضارة، يظنه إسلاميًا، لتشابه الخطابين، لماذا لست إسلاميًا؟

“أولا أنا مسلم بطبيعة الحال، لكن ما أخشاه لدى الإسلاميين هو الاستبداد بالصبغة الدينية، هذا خوفي الأكبر. إيران نموذج لدولة إسلامية لكنها استبدادية. وعليه فأنا لا أقبل الاستبداد سواء كان علمانيًا أو إسلاميًا ما أريده هو نظام ديمقراطي. أما ثقافيًا، فأنا مؤمن بأن العمود الفقري لهذه الأمة هو الإسلام واللغة العربية!”.

تقرأ الأدب الفرنسي؟

بعد ضحكة مجلجلة وكأن السؤال كان مقلوبًا، “لا أكاد أقرأ إلا الأدب الفرنسي. قرأت كثيرا منه. يغيظ الفرنكفونيين هذا، يقولون أنت منا ولست منّا! أنت منتج للمدرسة الفرنسية، ومطلع على الثقافة الفرنسية. فأقول لهم أنا جئت لفرنسا وتعلمت الفرنسية وقرأت للكتاب الفرنسيين لآخذ أسباب القوة لا لأصبح فرنسيًا!”.

إذن بقيت بدويًا حتى في فرنسا!

“تمامًا. أنا أحب الثقافة الفرنسية لكني لن أكون خادما لهم، أنا عربي مسلم!.

ما الذي تقرؤه هذه الأيام؟

“أقرأ ذلك الكتاب” وأشار إلى كتاب يستلقي على مكتبه “وهو كتاب في الاقتصاد أوصتني به ابنتي. كما أني حصلت قبل يومين على رواية صديقي الكاتب أحمد فال ولد الدين “دانشمد” وسأبدأ بقراءتها.

والأدب العربي كيف اطلاعك عليه؟

أنا شغوف بالأدب العربي، لو اطلعت على موقعي ستجد كتابًا عن مسامراتي الأدبيّة. في أيام كورونا قلت لأصدقائي الذين التقيهم على شاشة الجهاز، نحوا عنا السياسة. أريد شعرًا وأدبًا، لنتناول في كل مجلس شاعرًا. في كل مرة كنت أحضر صحبة أحد الشعراء: المتنبي، أو الشابي، أو المعري، أو الشنفرى ..”.

صار يتكلم بحماسة مختلفة عن حماسته السياسيّة، وهو يتذكر مجالس سمره، حين دخل علينا مساعده، ليقول له إن لديه ضيوفًا يحبون أن يودعوه قبل سفره، ويسأله كم تبقى لكم من وقت الحوار، نظرتُ إلى ساعتي، وإذا هي العاشرة، لقد انقضت نصف الساعة المخصصة للحوار، نظر إليّ وما زالت نشوة الحديث عن الأدب تيّارًا يسري بيننا، فقال نحتاج إلى ربع ساعة أيضًا، ويمكن أن يسلموا عليّ الآن، أدخلهم.

ثم عاد إليّ، ليكمل حديثه “في أحد المجالس جئتهم: ببيت للشنفرى يقول فيه:

دَعَسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتِي ** سُعارٌ وإِرْزِيزٌ ووَجْرٌ وأَفْكَلُ

هذا البيت تعلمتُه في الثانوية ولم أعرف معناه، فصار تحديًا بالنسبة لي، ودار المجلس على غطش وبغش وسُعار ووجر وأفكل وكانت جلسة ممتعة” انفجرنا بالضحك، وقد فُتح الباب ودخل الضيوف مسلمين، فاستأذن وقام إليهم.

لنترك فخامة الرئيس يودّع ضيوفه، وتعال لأشرح لك هذا البيت الوعر، الذي يصف فيه ذلك الصعلوك الفاتك إحدى لياليه في الغزو، وهي ليلة معتمة باردة، يسخو فيها المرء بقوسه وسهامه فيشعل فيها النار مستدفئًا بها، يقول إنه مشى فيها مسرعًا فهذا معنى (دعست) يلفُّه الغطش وهو الظلام، والبغش وهو المطر الخفيف، وقد اصطحب معه جوعه الشديد الذي تسميه العرب (سعار) وجلده المتغضّن من البرد وهو (الإرزيز) والخوف والارتعاد وهما (وجر، وأفكل) على الترتيب.

ثم عاد إلى مجلسه وهو يقول:

“تحولت هذه المجالس إلى كتاب شعراء بلا حدود، مسامرات أدبية معفاة من السياسة” وهو على موقعي.

حين عدت للكتاب وجدت المنصف قد صدّره بهذا الإهداء:

((إلى المصرين على قراءة الشعر والأدب، يهيئون من حيث لا يعلمون لمرحلة ما بعد الخراب)).

ألا تعترف بحقوق النشر؟

“كل كتبي مجانية”

من أين جاءتك هذه الأفكار الاشتراكية؟

“كنت اشتراكيا في شبابي، وحججت إلى قبر ماوتسي تونغ في 1975”.

كنتَ ماويًا؟

“نعم، لكني تركت هذه الفكرة، لأنها تحولت إلى دين”.

لكني تعلمت في زيارتي من الصين، فكرة الطب من أجل الشعب، وحين عدت منها تركت تخصصي في الأعصاب إلى الطب الجماعي. كانت اشتراكيتي طبيّة أكثر من أي شيء آخر.

سألت أحد أصدقائي من الشيوعيين اللبنانيين، وقد جاوز الـ60، ما الذي بقي من شيوعيّتك، فقال: حبي للعدالة!.

“وأنا كذلك” قال معلقًا. ثم أضاف “أكبر عدو للناس هو الفقر، حاولت إخراج مليوني تونسي من الفقر محاكيًا تجربة لولا دي سيلفا في البرازيل، لكن الثورة المضادة لم تمهلني لتحقيق المشروع، والحمد لله أني خرجت منها حيًّا، لأن مرسي خرج منها ميّتًا!”.

الحمد لله على سلامتك، أعرف أنك بقيتَ عربيًا صِرفًا فترة إقامتك في فرنسا، لكن ألم تؤثر فيك الثقافة الفرنسية؟

بلى، درسنا فولتير، وتأثرت منه بكلمة واحدة هي “الواجب” وارتباط فكرة الشرف بالواجب. مشكلتنا نحن العرب أن مفهوم الحرية لدينا مرتبط بالمتعة، الحرية مرتبطة بالواجب، والواجب هو ضابط الحرية!”.

كيف أنت مع المطبخ الفرنسي؟

“مطبخ طيّب، لكن المطبخ المفضل لدي هو المطبخ اليمني. حين أذهب إلى أميركا أو أي مكان أقول لهم خذوني إلى مطعم يمني، لديكم الحلبة وهذا المرق العجيب! أحسن طبخ!”.

لم تكتمل فرحتي بهذا التصريح أو يتم حديثي لنفسي مفكرًا في نسبة الحقيقة من المجاملة في هذا التصريح، حتى تذكر المنصف بدويّته ونفوره من المجاملات، فاستدرك “كنتُ عاشقًا للمطبخ المغربي، حسنًا دعني أكون صريحًا معك، المطبخ المغربي لا يقارن، لكن بعده يجيء المطبخ اليمني”.

“لن أعتبر هذا الاستدراك في كتابتي للحوار، سوف أحتفظ بالتصريح الأول فحسب” قلت ممازحًا، ثم سألته:

هل تتعاطى الملوخية بطريقة أخرى غير طريقتكم الرهيبة؟

أبدًا، بالنسبة لي فالشرقيون لا يعرفون الملوخية، الملوخية هي ملوخيتنا احنا، ذاك السائل الخفيف ليس ملوخية! [يقصد الملوخية المصرية].

لكن فخامة الرئيس تطبخونها لـ 10 ساعات، أليس هذا تطرفًا؟

“دعني أحكي لك نكتة، حين زرنا المغرب أحبت أمي أن تكرم جارتها المغربية، وتقدم لها أفخم طبق لدينا وهو الملوخيّة، وظلت تتفنن في طبخها وإعدادها لـ6 ساعات بعد قليها مع الزيت واللحم، وحين قربته للجارة المغربية، قفزت الجارة بعد أول لقمة، وخرجت تصيح وتقول: التوانسة يأكلون الحنّاء بالزيت!”.

استغرق الأمر بعض الوقت لنعود إلى جو الحوار بعد حكاية المغربية وضحكنا على فعلها.

بمناسبة جارتكم المغربيّة آكلة الحنّاء، كيف كانت علاقتك بجيرانك حين صرت رئيسًا؟

“تلك قصة محزنة للغاية. بنيت بيتي في منطقة نائية، ثم تحولت هذه المنطقة إلى حي سياحي، وسكن حولي أصحاب المال من النظام البائد، فعشت بينهم كما يعيش اليهودي بين النازيين. اضطهدوني اضطهادًا، حين خرجت للانتخابات كانوا يسبونني من النوافذ، يا عميل النهضة! لقد كانوا ينظرون لي أني خائن طبقي، خنت الطبقة التي ينتمون إليها. في الرئاسة وبعدها كنت أشعر بغربة في داري.. فكرت في بيعها، لكن بناتي يحبونها، كنت أريد توسيعها وبناء حديقة في فنائها، لكني أجلت المشروع حين توليت الرئاسة اتقاء لقالة السوء، حتى لا يقال وسّع داره من مال الشعب. ثم جاء الانقلاب ولم يمهلني، ولن أبني الحديقة، ولن أموت في داري!” قال الجملة الأخيرة بصلابة مهيبة.

أغرتني صلابته، أن أسأله عن اسمه، سُميتَ بالمنصف، لتعيش في عالم السياسة الذي يقوم على الخداع والمناورة، هل ترى لاسمك تأثيرا في طباعك؟

لم يدقّ السؤال على وترٍ في نفسه، فقال: “سماني أبي على (المنصف باي) ملك وطني، سُميَ عليه الكثير من التوانسة بعد الاستقلال. وحين وصلت إلى القصر، أعدت الاعتبار لذلك الملك الوطني، وجمعت المؤرخين، وأحييت سيرته، تمنيت أن يكون والدي قد رأى فعلي هذا، ودخولي إلى قصر قرطاج!”.

لقد وصلت إلى القصر، رجلٌ من الشعب يصل إلى القصر بأصوات الشعب، لا بد أنه شعور لا يُنسى، ماهي أسعد لحظاتك في فترة رئاستك؟

“أسعد لحظاتي عندما وقعت الدستور، لقد كُتب عقد اجتماعي حر بين سكان هذا البلد لأول مرة منذ 3000 سنة.

ولم يكتبه شخص واحد، بل انتخب مجلس تأسيسي، وعين المجلس أشخاصًا فقدموا مسودة دستور ثم وقع النقاش على المسودّة لمدة عام ونصف، لقد صرنا شعبًا من الفلاسفة. عُقدَ 400 اجتماع في البلد. وبعد تسوية الخلافات، تم إقراره.

لقد اتفقنا على هويتنا وكيف نريد أن نعيش مع بعضنا البعض. وحين أمهرت الدستور شعرت بفخر رهيب. بعدها اتصلت بزوجتي وقلت لها سآخذ إجازة لـ3 أيام. منذ 3 سنوات لم آخذ عطلة!”.

هذه أسعد اللحظات، فما هي أصعبها؟

“أصعب لحظة عندما جاء هذا المنقلب ورمى الدستور في سلة المهملات!”.

وما هي أمنياتك اليوم؟

“أمنياتي، أن تقف الحرب في غزة، ويخرج السجناء، وأن ينتهي الكابوس في تونس”.

“حزين ولكني لست يائسًا. الحياة أقوى من كل شيء”.

هل أنت نادم على شيء؟

“ندمت على عدم حزمنا مع أعداء الثورة، كان ينبغي أن ننظف النظام! تلك هي ندامتي العظمى والدرس الأكبر” أجاب على هذا السؤال ونظر إلى ساعته، ففهمت أنها علامة لنهاية المجلس، كانت علامة انتهاء مجلس معاوية بن أبي سفيان أن يقول: “إن شئتم”، فيفهم جلساؤه أنه يريد أن يقوم. وعلامة يزيد بن معاوية أن يقول: “على بركة الله” وعلامة عبد الملك بن مروان، أن يلقي الخيزرانة من يده. أما المنصف، فالنظر إلى ساعته.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *