تتصل الفلسفة بكل مفردات الحضارة الإنسانية، فتحددها وتعرفها وتضبط حدودها المفهومية بهدف تشكيل الحقول المعرفية النظرية ذات الأطر الواضحة والمحددة، حتى صارت كما وصفها الفيلسوفان الفرنسيان دولوز وغوتاري بقولهما “هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم”.
فلسفة اللغة
قد يتعجب القارئ: وهل للغة فلسفة؟
نعم، وقد كان اليونانيون من أوائل من عني بحديث اللغة وربطه بالفلسفة، فاهتموا بالعلاقة المنطقية التي تربط بين الدال والمدلول ومدى دقته وإصابته.
وكتبت حول الموضوع كتب ومقالات عدة؛ وقال الفيلسوف جون سورل أستاذ فلسفة العقل واللغة في جامعة كاليفورنيا في كتابه (ما اللغة؟) “أعتقد أن أعظم الإنجازات في الفلسفة خلال الـ100 عام الماضية أو الـ125 عاما كانت في فلسفة اللغة، لا يوجد فرع في الفلسفة نال عملا رفيع المستوى للغاية مثلما نالت فلسفة اللغة”.
ويذهب الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين إلى أن الفلسفة برمتها مبنية على نقد اللغة، ويؤكد أن اللغة صورة الحياة فهي مدخل أساسي في تفكير المرء وأفعاله وعلاقاته الاجتماعية أيضا. وهي مرآة العقل على حد تعبير تشوموسكي، وهي فن اجتماعي كما وصفها كواين عالم المنطق في مجال الفلسفة التحليلية.
ومما يجب ملاحظته هو ذلك التحول الكبير والجلي للفلسفة المعاصرة باتجاه اللغة، إذ اتخذت الفلسفة من اللغة موضوعا مركزيا للنظر والمقاربة، علما أن الفلسفة المعاصرة في تحولها وانعطافها نحو اللغة لم تأخذ صيغة واحدة، بل تجلت مقارباتها في صيغ متعددة واتجاهات مختلفة كالاتجاه التحليلي، والتأويلي، والألسني، والتفكيكي، والتواصلي.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى وجود تلازم واضح بين الفلسفة المعاصرة وفلسفة اللغة، يظهر لنا المنزلة المهمة التي تشغلها فلسفة اللغة في تاريخ الفلسفة المعاصرة، إذ لا يمكن لأحد فهم المبادئ الأساسية للمشروع الحداثي وما بعد الحداثي ومناقشتها دون فهم فلسفة اللغة، مما يجعل فلسفة اللغة جسرا ينبغي أن يسلكه كل من أراد توسيع فهمه للتيارات الفلسفية المعاصرة وتعميقه.
وتضم فلسفة اللغة مواضيع تعليمها وتعلمها واكتسابها، ودراسة بنيتها، والتطرق إلى محاور المعنى والإشارة والصدق في اللغة، ويتطرق إلى دراسة الدلالة والاستعمال اللغوي.
ما الفرق بين اللغة والكلام واللسان البشري؟
لا بد لنا من التفريق بينهما بداية للانطلاق بعد ذلك نحو فلسفة تقعيد اللغة العربية وتنظيمها وفقا لعلمي النحو والصرف، إذ يرى فريناند دو سوسير عالم اللغة السويسري الشهير أن اللغة جزء من اللسان، فهي “النتاج الاجتماعي لملكة اللسان، ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة”، فاللغة هي العنصر الأول من عناصر اللسان الذي يعد ملكا للفرد والمجتمع معا، وله جانب فيزيولوجي وآخر نفسي ومجتمعي وغير ذلك، في حين تكون اللغة كيانا قائما بذاته يعتمد على توظيف ملكة النطق في اللسان.
إن الكلام جوهر اللغة، ويتعين مكان اللغة في دائرة الكلام عند ارتباط الفكرة والصورة الذهنية بالمخرجات الصوتية المسموعة، فاللغة عبارة عن نظام محدد من الإشارات والعلامات التي تهدف إلى الربط بين المعاني والأصوات أي بين الصور الذهنية والصور السمعية. أضف إلى ذلك أن اللغة عامة ظاهرة اجتماعية، فقد يستبدل بالصوت فيها الحركة والإشارة كما هي الحال في لغة الصم.
علم النحو واللغات
لا يعد علم النحو حكرا على اللغة العربية، لكن علماءنا تركوا تراثا نحويا غنيا ومنظما وهائلا، فالكلمة إما أن تكون اسما أو فعلا أو حرفا، وعلم النحو يدور برمته حول هذه الأقسام الثلاثة وتنظيم العلاقات فيما بينها.
فبالعودة إلى آراء عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ/ 1078م) النحوي المتكلم صاحب نظرية النظم ومؤسس علم البلاغة -على سبيل المثال- ومقارنتها بما ذهب إليه تشومسكي أستاذ اللسانيات والفلسفة الأميركي؛ نجد أنهما يتفقان في أن العلاقة بين الكلمات في اللغة تستند إلى الجانب التنفيذي التطبيقي، إذ قال الجرجاني “معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها يحدث بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسم وفعل وحرف، وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعليق اسم باسم وتعليق اسم بفعل وتعليق حرف بهما”.
إن نظرية النظم التي قال بها الجرجاني تصلح للتطبيق على لغات العالم أجمع، فما اللغة إلا ترتيب للكلم، وربط أجزائه ببعضها، وتقديمه وتأخيره وترجيح بعضه على بعض سواء في الاختيار اللفظي أو ترتيب الجمل، بهدف تقديم الفكرة بأسلوب يؤدي المراد منها وفقا لصورتها الذهنية في عقل الناطق المتحدث بها. وهذا تماما ما قصده تشومسكي حين سماه النحو العالمي، وامتطى في تقديمه صهوة المنطق الرياضي واعتمد الترميز. أما دو سوسير فيختلف عنهما في ربطه للغة بالبعد الاجتماعي بالدرجة الأولى.
إن نظام مبادئ النحو أشبه بالعمود الفقري للغة، وهو الشبكة الثابتة التي تضبط حركة الكلمات وتوزعها، وتنظم تراكبها وتعتني بانسجام تعابيرها، وقبولها لدى المتلقين ودقتها في إيصال المعنى المقصود دون أدنى خلل.
وتمايز المتحدثين في اختيار الكلمات ونظمها واختيار التعابير وقصدها يحدده اختلاف الأسلوب فيما بينهم، فلو تماثلت لغة الناطقين واتفق نظامها، يبقى اختلاف الأسلوب عنوانا خاصا بالفردانية اللغوية.
فالجرجاني يذهب إلى أن النظم هو أساس اختلاف المتكلمين لغة واحدة، ويقول في ذلك: “إنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها، ثم ترى هذا قد فرع السماك، وترى ذاك قد لصق بالحضيض، فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة في النظم، لما اختلف الحال، ولكانت إما تحسن دائما أو لا تحسن دائما”.
فلسفة النحو
يعرف ابن فارس في معجم مقاييس اللغة كلمة النحو بقوله “النون والحاء والواو كلمة تدل على قصد، ولذلك سمي نحو الكلام، لأنه يقصد أصول الكلام، فيتكلم على حسب ما كانت العرب تتكلم به”. ويضيف ابن منظور في لسان العرب فيقول: “وهو في الأصل مصدر شائع، أي: نحوت نحوا، كقولك: قصدت قصدا، ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم”.
حظي علم النحو بحصة الأسد -إذا جاز التعبير- من عناية اللغويين والنحويين والمتكلمين وفلاسفة اللغة، فهو أقدم أبواب اللغة، وهو العصب الرئيس فيها، يعكس عمل اللغة وينظم العلاقات بين الكلمات والجمل، ويحفظ اللغة من اللحن والتحريف والضياع، ويقوم على الملاحظة والقياس، وميدانه هو الجملة ونظم الكلمات واصطفافها فيها وفقا لمنطق اللغة وهدف المتحدث.
وقد قرنت أهمية إتقان علم النحو بثقافة المرء ومنزلته علميا في أيام الأندلس الغابرة، إذ قال ابن سعيد المغربي (ت: 685هـ/ 1286م) معبرا عن ذلك “والبحث فيه (أي في علم النحو)، وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتميز ولا سالم من الازدراء”.
يتطابق النحو العربي مع فكرة الإعراب عامة، والإعراب يقوم على فكرة الإسناد، إذ يقول ابن جِنّي (ت: 392هـ/ 1002م) في “الخصائص” معرفا علم النحو: “هو انتحاء سمت كلام العرب، في تصرفه من إعراب وغيره”. ويقول عن الإعراب هو “الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت (أكرم سعيد أباه) و(شكر سعيدا أبوه)، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر، الفاعل من المفعول ولو كان الكلام شرجًا (نوعًا) واحدًا لاستبهم أحدهما من صاحبه؟”.
ما فلسفة علم النحو العربي؟
هي تفسير الظواهر النحوية بذكر العلل، أو بذكر الشروط الضرورية لتحقق الظاهرة النحوية، وهي اجتهاد علماء النحو ورؤاهم في تفسير الأساليب النحوية والتراكيب اللغوية، وبيان العلاقات التي تربط بين الكلمات في الجملة الواحدة، وبين الجمل في الفقرة نفسها، فتفسر الإسناد والوصف والإضافة وغير ذلك من الأساليب النحوية.
ولأن فلسفة النحو تقوم على آراء النحاة واتجاهاتهم الفكرية تعددت مدارسهم فاتفقوا على الأصول وافترقوا في تفسير الفروع فاختلفت الأهواء وتعددت المشارب النحوية، ونتج عن ذلك مدارس نحوية عدة، أشهرها مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، اللتان تنافستا أمدا بعيدا في تحقيق السبق واستحقاق الصدارة في مجال النحو، فاختلفتا في تفسير بعض القضايا النحوية، واتفقتا في بعضها. على أن نشأة مدرسة البصرة سابقة في الزمن بنحو 100 عام تقريبا.
تميزت مدرسة البصرة باتباع المنطق والتأثر بمنهج المعتزلة وتتبع الشواهد الشعرية الموثوقة، في حين تميزت مدرسة الكوفة بالتوسع في القياس والرواية وضبط قواعد اللغة.
وعلى الرغم من كثرة مباحث علم النحو وكثرة الآراء والتوجهات فيه، فإنه علم محصور يمكن إدراكه وتعهده، وهو علم يقوم على المنطق، لذلك تجد كثيرا من البارعين في مجال الحساب والرياضيات يبرعون كذلك في مجال اللغة وإتقان قواعدها.
ومما لا بد من تأكيده في ختام الحديث هو أن فلسفة النحو بوصفها علما مستقلا تأثر أيضا في نشأته بمناهج الأصوليين، إذ أينعت أزهاره مع بدء المحاولات التفسيرية اللغوية لآيات القرآن الكريم ونصوص الحديث النبوي الشريف، لذلك نجد أن فلسفة علم النحو العربي تحوطها روح المنطق وتكسوها مناهج الأصوليين، وكل ذلك إنما جاء لخدمة اللغة العربية؛ عنوان الحضارة العربية والإسلامية، وروح هوية العرب والمسلمين، فهي لغة الوحي الخالد.