يبدو أن فيلم “فريلانس” (Freelance) أخفق في استعادة أسطورة الجندي الأميركي الخارق التي شكلتها هوليود على مدى عقود، إذ ترجمت الإيرادات المتواضعة محليا وعالميا ذلك الفشل في تحقيقه 8 ملايين دولار، رغم أن تكلفته الإنتاجية بلغت 40 مليونا. فإن الأزمة الكبرى جاءت في تقييمه النقدي، والذي جاء أشبه بالنكتة، إذ حصل على 0 على موقع “روتين توميتوز” المتخصص.
وكانت هوليود استطاعت رسم ملامح جنود أميركيين ذوي قدرات قتالية وأخلاقية أسطورية في القرن الماضي، وخاصة من خلال أفلام سلفستر ستالون الذي قدم الجندي “رامبو” عبر 6 أجزاء، بدأت عام 1982، وانتهت بالجزء السادس في 2019، ودارت حول المقاتل المحبط العائد من فيتنام، والذي يصبح بمفرده بمثابة جيش يحارب الفساد والعصابات من أعداء أميركا.
وأغرى وجود مصارع شهير ومحبوب مثل جون سينا منتجي هوليود بتكرار طريقة العمل القديمة التي أفلحت مع أبطال سابقين اقتحموا السينما من بوابة الرياضة البدنية، فجاء فيلم “فريلانس” للمخرج الفرنسي بيير موريل، الذي يعرض منذ 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتدور أحداثه حول جندي أميركي يصاب ويقتل زملاؤه، ويتم تسريحه من الجيش، لكنه لا يستطيع التكيف مع واقعه الجديد، فيبحث عن بطولة.
تجاهل صناع العمل التأثير الذي يمكن أن يحدثه مرور نصف قرن على بدء أسطورة الجندي الأميركي في هوليود، وخاضوا المغامرة بعمل يجمع بين الاستسهال والإهمال، وحققوا مقولة أحد أبطال العمل التي تنص على أن “فشل الإعداد هو إعداد للفشل”.
صحفية وحارس شخصي
يدور الفيلم حول الصحفية التلفزيونية كلير ويلنغتون (أليسون بري)، التي تقرر إجراء حوار مع الدكتاتور الأفريقي فينيغاس (جوان بابلو رابا). وتستعين الصحفية بالحارس الشخصي ميسون بيتيتس (جون سينا)، والذي كان في السابق فردا في القوات الخاصة بالجيش الأميركي، لتوفير التأمين لها أثناء الرحلة، لكن يحدث انقلاب عسكري في دولة “بالدونيا” أثناء المقابلة الصحفية، مما يضطر الصحفية وحارسها والرئيس للهروب إلى غابة قريبة.
رغم شعبيته كمصارع، فإن سينا لا يملك حضورا حقيقيا أمام الكاميرا، وقد بدت ملامحه بدوره في ميسون بيتيتس جامدة تتراوح بين تعبيرين لا ثالث لهما وهما الغضب، والتعبير عن الألم الناتج عن تعرضه للإصابات والضرب من خصومه.
لم يتغير أداء سينا الذي أصيب وقتل زملاؤه في بالدونيا منذ وطأتها قدماه، وحتى بعد أن علم بحقيقة مهمته وهي اغتيال الرئيس فينيغاس، ظل على عهده بملامحه الجامدة كتمثال شمعي، ومحاولاته اليائسة للسخرية باعتبارها كوميديا، والأداء الزاعق والصوت الغاضب تعبيرا عن حنقه على قاتل زملائه.
أما أليسون بري، فلم يتم اختبارها على مستوى التمثيل، فجاءت مشاهدها أقرب للكوميديا الخفيفة، ولعل الممثل الوحيد الذي قدم أداء متنوعا -أفسده السيناريو- هو جوان بابلو رابا في دور الدكتاتور فينيغاس، إذ تنوعت انفعالاته بين الغضب والرضا والتعالي، واستطاع أن ينفذ إلى عمق الدور بشكل أفضل نسبيا من الآخرين.
سيناريو غير أصلي
من السهل التعرف على التغييرات التي طرأت على السيناريو قبل الاستقرار على النسخة النهائية، فرغم وجود اسم جاكوب ليبنز على لوحات الفيلم، فإن ما ظهر على الشاشة يؤكد أن أيادي كثيرة عبثت بالسيناريو، حيث تبدو مساحات التعامل الجاد مع محاولات الشركات الكبرى لاستغلال دول العالم الثالث ونهب ثرواتها، وذلك عبر تمويل انقلابات عسكرية وغيره واضحة.
لكن الإطار الكوميدي الذي حاول أن يتقمص جزءا من حالة فيلم “الدكتاتور” (The Dictator) الذي أنتج عام 2012 للمخرج لاري تشارلز، واضحة في بناء شخصية الرئيس فينيغاس.
ورغم التغييرات التي جعلت السيناريو تكوينا غير متجانس، فإن الاستسهال كان سيد الموقف، إذ استنسخت العديد من المشاهد والمواقف من أفلام سابقة، وخاصة تلك التي قام ببطولتها سفراء الجندي الأميركي في العالم مثل أرنولد شوارزنيغر وسيلفستر ستالون.
ورغم ضعف جون سينا كممثل، فإن التعديلات التي أدخلت على الدور وضعته في إطار كوميدي بشكل متعمد، وهو ما جعل من محاولاته للسخرية من الرئيس فينيغاس، وتسخيف مقولاته هو نوع من التسخيف للمشهد نفسه، وليس مشهدا كوميديا للإضحاك أو التخفيف من حدة الدراما.
امتدت حالة الفوضى في السيناريو إلى خطايا درامية لا تغتفر، إذ ظهرت الصحفية ذات الطموح الوحشي، والتي تواصلت بنفسها مع الدكتاتور لتخوض مغامرة إجراء مقابلة معه، وكأنها فتاة سطحية عابثة، جاء من عالم مجهول بلا ماض يدفعها لكل هذا التوحش، حاولت أن تراود حارسها الشخصي الذي أثبت إخلاصه لزوجته التي كانت قد طردته للتو.
حاول السيناريو أن يعالج تناقضاته بين أن يكون نسخة من الفيلم الكوميدي “الدكتاتور”، والذي كان واضحا خلاله أن بطله مكروه من شعبه، وبين دراما “فريلانس” التي ظهرت فيها المشاهد الصريحة لكراهية الشعب لحاكمه، وذلك بتقديمه كشخص صاحب شعبية في القرية التي ولد فيها، لدرجة أن أهل القرية يواجهون جيشا من المرتزقة من أجله.
كارثة إخراجية
بعض الأخطاء قد تؤثر على مصداقية صانع الفيلم ومهنيته نفسها، خاصة إذا كان تصوير مشهد يفترض (خارجي) داخل الاستديو بخلفية خضراء ومجموعة من أوراق الشجر، وقد بدت مشاهد الغابة التي يهرب إليها أبطال الفيلم الثلاثة غريبة، لا تشبه غيرها إلى أن ظهرت الأرضية الخضراء (الكروما)، والتي كشفت أن التكلفة الإنتاجية التي بلغت 40 مليون دولار قد أهدرت على أجور الممثلين فقط.
وتحدى صناع العمل كل قوانين الطبيعة بمطاردة لا تنتمي إلى الواقع من قبل جنديين مسلحين بمدافع رشاشة وطائرة تطلق قذائف الرصاص والنار في منطقة سهلية لكل من الصحفية وحارسها الشخصي، وعلى مدى 5 دقائق لم يصب أي منهما رغم أمطار الرصاص.
لم ينجح المخرج في تقديم لغة بصرية موازية للمحتوى، فأغلب مشاهده جاءت محاولات لنقل الحكاية التي أراد أن يحكيها، وهي قديمة للغاية أيضا، وبدا الأمر كما لو أن كل ممثل يرتجل حركته، بينما يطارده المصور دون تحديد لحجم اللقطة أو زاوية التصوير.
يقدم الفيلم درسا حقيقيا في ما يجب ألا يقترفه صناع أي عمل من الأخطاء، والتي جمع “فريلانس” أكبر عدد منها في الأداء والسيناريو والإخراج، وخاصة في المشهد قبل الأخير، إذ يسامح الرئيس ابن عمه الذي حاول الانقلاب عليه ويعانقه، لكن أحد قادة جيشه يطلق عليه الرصاص، وينقلب عليه جيشه، فيموت ابن العم، ثم يحاول الجيش الهجوم عليه داخل مكتبه، فيقنع جيشه بالتوحد، وعدم الدخول في حرب، لكن مرتزقة الشركات الكبرى يهاجمون الجميع، وهكذا احتشد العشرات داخل الكادر، وتم ترتيبهم داخل الكادر في صفوف عرضية، فيما لعب المونتاج دوره في زيادة فوضى الحواس.
لم يكن مرور 50 عاما هو السبب الوحيد لفشل صناعة صورة جندي أميركي أسطوري في طبعة جديدة، لكن التحولات التي طرأت على هوليود، وعلى الجمهور نفسه، فمهما بلغ سوء تمثيل أرنولد شوارزنيغر أو سيلفستر ستالون لن يكون بالسوء الذي ظهر به المصارع الأميركي جون سينا، أو زملاؤه من الممثلين فضلا عن السيناريو والإخراج.