الجبل الأخضر- تسببت الفيضانات والسيول القوية جراء الإعصار “دانيال” في تغيرات كبيرة بالبيئة الطبيعية في المناطق المنكوبة شرقي ليبيا، بعد الدمار الذي طال مناطق ومدن الجبل الأخضر الذي يحوي مناطق أثرية مدرجة من اليونسكو في قائمة التراث العالمي.
الأمر الذي دعا بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا إلى إطلاق القمر الصناعي “كوبرنيكوس” التابع للاتحاد الأوروبي لإنتاج خرائط توفر معلومات جغرافية مكانية ضرورية لمساعدة فرق الإنقاذ على التنسيق ودعم الأشخاص الأكثر تضررا، حسبما جاء عبر الحساب الرسمي للبعثة على موقع فيسبوك.
وأكد الناطق باسم المؤسسة العسكرية في بنغازي أحمد المسماري، في مؤتمر صحفي، أن كل الطرق في المناطق المنكوبة أصابتها أضرار كبيرة أسهمت في عرقلة جهود الإنقاذ بداية بمنطقة أسلنطة شرقي مدينة المرج، مرورا بمناطق البيّاضة وسوسة وشحات ورأس الهلال حتى منطقة المخيلي جنوبا، وصولاً إلى درنة أكثر المدن المتضررة.
وتحدث المسماري، في المؤتمر ذاته، عن دمار كبير طال السدود والمعابر وجرف التربة، مما تسبب في تخريب الطرق الرابطة بين أغلب مناطق الجبل الأخضر، وأدى إلى تغير كبير في جغرافيا المنطقة وبيئتها الطبيعية بشكل واضح. الأمر ذاته أكده عميد بلدية “سوسة” عبد الحكيم بشير للجزيرة نت، موضحا أن مدينة سوسة باتت شبه معزولة عن مدن درنة وشحات.
وانهار الجزء الجبلي الوعر من الطريق بين مدينتي شحات وسوسة، مما أدى إلى زيادة صعوبة التنقل في تلك المنطقة. كما حذر السكان من حدوث انهيارات في الطريق الضيقة بعد انهيار سد “المحجة” الترابي بالقرب من قرية “اشنيشن” في جنوب الجبل الأخضر.
تغير بيئي غير مسبوق
من جهته، يقول فتح الله الحداد -رئيس جمعية “بالغراي” للبيئة والآثار والسياحة وعضو هيئة التدريس بقسم الآثار بجامعة عمر المختار- إن تربة الجبل الأخضر “السلكاتية الحمراء” تشهد انجرافا كبيرا وغير مسبوق، نتيجة تعرضها لعوامل التعرية على مدى ملايين السنين.
وكانت السدود قد شيدت في هذه المنطقة منذ العصور القديمة مثل الفترة الإغريقية والرومانية والبيزنطية، واستمر هذا النشاط في العصر الحديث لتعوق الانجراف.
وتسبب دمار هذه السدود في جرف مساحات شاسعة جدا من الأراضي الزراعية، وقذف ملايين الأطنان من التربة في البحر المتوسط، ونتج عنه تدمير عديد من المزارع والأراضي الزراعية. ووفقا لتصريحات الخبير، تم القضاء على عديد من الأشجار، خاصة تلك الموجودة في مجاري الأودية وعلى جوانب الجبال والتلال.
وأضاف الحداد أن السيول جرفت عبر الأودية إلى البحر وادي “الكوف” (غرب مدينة البيضاء) الذي كان يشتهر بعدد كبير من أشجار السرو والبطوم والخروب والبلوط والعرعر الفينيقي والصخاب والأثل والقندول والسلوف، إضافة إلى الشجيرات المتوسطة والصغيرة الحجم كالشبرق والبربش والدرياس والعنصل واعنيب الذيب وغيرها، وعى غراره جُرف وادي “جرجار أمه” الذي رصدت به كميات كبيرة جدا من جذور وأغصان هذه الأشجار.
آثار تضررت وأخرى ظهرت
إلى جانب الأضرار التي لحقت بالبيئة وبالبنية التحتية، يوضح الأستاذ بقسم الآثار بجامعة عمر المختار بالجبل الأخضر أحمد عيسى التأثيرات التي حلت بالموقع الأثري “قوريني” (شحات) وبالبنية التحتية مثل الطريق المؤدية إلى المقابر الشمالية، فيقول إنها “قاومت السيول لوجودها بأعلى جرف صخري، لكن معالم جديدة ظهرت بالمنطقة تحتاج إلى تقييم ودراسة”.
وأضاف المتخصص بالآثار أن شارع الوادي باتجاه حرم أبولو تعرض للجرف، حيث كان محطة لتجمع السيول القادمة من الأعلى والمتجهة نحو الوادي، التي جرفت منطقة واسعة، ولحسن الحظ لم تهدم المباني، لكن السيول رمت كثيرا من الصخور في مجرى الوادي، وكشفت لأول مرة عن معالم لقنوات تصريف مياه ضخمة تحتاج إلى الدراسة والتقييم من قبل فريق علمي مختص.
وتداول شهود عيان ظهور أساسات لمبانٍ أثرية في مدينة شحات لم تكن معروفة من قبل، وظهور بعض المقابر في الأودية المحيطة بالمدينة مثل وادي البقّارة حيث ظهرت أيضا في مجرى الوادي أساسات مبان وآثار مجهولة.
لم تعد قنوات ومجاري “مياه أغسطس” (Aqua Augusta) مرئية بشكل كبير، إذ تم سدّها بواسطة كميات كبيرة من الصخور التي جلبتها السيول. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت ساحة أبولو لتدفق كثيف لمياه السيول القادمة من شارع الوادي ومن جراء فيضان مياه النبع نفسه، وبالتالي غمرت بشكل كبير أجزاء كبيرة من الموقع، حسب أستاذ الآثار عيسى.
كذلك تعرض لانجراف كبير وادي بلغدير (حرم ديمتيرا والمقابر الغربية) الذي يعد من أغنى المواقع الأثرية في المنطقة، حسبما يؤكد عيسى للجزيرة نت، مشيرا إلى ظهور معالم جديدة ابتداء من بوابة الحرم، كما ظهرت أسس وجدران ذات تفاصيل معمارية مميزة، وظهرت معالم جديد بالوادي نفسه، وظهرت الأرض الصخرية للوادي.
تاريخ يهدده الماء
وكانت وكالة الصحافة الفرنسية قد تحدثت عن خطر الانهيار بفعل الفيضانات في موقع “قورينا” (شحات) الإغريقي الأثري المصنف منذ عام 2016 من اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، ناقلة عن المتخصصة في الشؤون الليبية في “مجموعة الأزمات الدولية” كلوديا غازيني أن الموقع لا يزال مغمورا بالمياه إلى حد كبير، وقد تعرض لانهيارات عدة.
وأضافت الوكالة الفرنسية -نقلا عن الخبير فنسان ميشال الذي تمكّن من تحليل صور للمكان بعد الفيضانات- أن “لا دمار كبيرا في قورينا حاليا، ولا تزال الآثار قائمة”، لكنه أبدى تخوفه من “سيول المياه والتراب والحجارة التي قطعت الطرق، وخصوصا الطريق الملكية، منبّها إلى أن “الضرر الرئيسي آت، لأن المياه انتشرت على نطاق واسع، وأضعفت أساسات الآثار”، مضيفا أن “الآثار معرضة للانهيار، بسبب عدم وجود أساسات قوية”.
وتضم مدينة قورينا الأثرية (شحات) في الجبل الأخضر شرق ليبيا واحدا من أعظم المعابد في العصور القديمة، وهو معبد زيوس الذي يعد أكبر من معبد البارثينون في أثينا، وفق ما يؤكده الخبير ميشال للوكالة الفرنسية. وتثير المقبرة الضخمة الموجودة شمال الموقع قلقًا آخر، حيث تتعرض لتدفق كميات كبيرة من المياه، وهذا قد يؤدي إلى إزاحة المقبرة وغمرها بالماء.