مدينة غزة- تعد الحرب حالة استثنائية في حياة الإنسان، خلالها لا يمكن للمرء أن يمارس حياته بالطريقة المعتادة، وتخرج كافة التفاصيل اليومية عن الروتين المعتاد.
قد يقوم أفراد ذوو التجربة في الحرب بتبني سلوكيات مختلفة، إذ تنشغل عقولهم بشكل مستمر بشأن كيفية البقاء على قيد الحياة وتأمين مكان آمن، على الرغم من عدم وجود أي مكان آمن في المنطقة التي تدور فيها الحرب. فإن البشر يحاولون استغلال أي فرصة ممكنة للنجاة.
في قطاع غزة، يعيش السكان حروبا متصلة منذ أكثر من 15 عاما، وكأن حياتهم حرب تتخللها أوقات متباعدة من الهدوء.
وخلال الحرب، يختبر الإنسان مشاعر مختلفة، تخرج عن المألوف، إذ يكون عليه أن يعرف الخوف في أقصاه، ويستمع لصوت صراخه الداخلي، مع كل لحظة يشتد فيها القصف من حوله.
مشاعر أخرى، تشمل القلق الوجودي، الخوف من الموت، الرعب، والذهول من رؤية الموتى، والأشلاء، والمباني المنهارة على رؤوسهم، التيه والنزوح والألم والتشتت، مشاعر جمة يختبرها أهل غزة مع احتلال لا يراعي سلامة البشر ولا الحجر.
ورغم صعوبة الحياة في وقت القصف أجرت -الجزيرة نت- لقاءات مع شعراء وكتاب في غزة، حول تفاصيل إنسانية غائرة لا يكاد صدى صوتها يبلغ المسامع بين أصوات الحرب، وقد أجابوا عن الأسئلة من تحت أزيز القصف المستمر في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
جدل الكتابة والحرب
خلال عملية الكتابة، يمكن للكاتب أو الشاعر أن يختبر أفكارا جديدة داخل وعيه، لم تكن في البال، ولا خلال الحرب كذلك، إذ تبدو الحالة نوعية في كلتا الحالتين، وتتجلى مشاهد غير مسبوقة، في التصارع ما بين الحرب والكتابة.
وتصف الكاتبة نيروز قرموط الحرب باعتبارها محاولة لاختبار كل الظروف في آن واحد، وكل المشاعر في الوقت ذاته، وتكمل “أن تخرج من جسدك وتعود إليه. أن تعبر إلى منطقة أمان متخيلة ترجوها واقعا آنيا. أن تكون أنت كلهم، وكلهم أنت. أن تعيش الجماعة كفرد واحد يتألم ويحاول أن يبتسم على ريحان أوجاعه، ويشتم رائحة البارود، ويشعر بخفقان القلب في صدور عارية تتوسل الحرية بعد أن كابدت حصارا لا ينتهي، هكذا أختبر نفسي في الحرب، في الكتابة”.
أما الشاعرة روان حسين، فتقول إن “الكتابة قد تكون المُنجي إثر تعرضنا لصدمات متتالية في الحروب، نلجأ للكتابة لنواسي ذواتنا؛ مما نشاهد من الأسى والرعب. أن تعيش لحظات الحرب بذهول وذعر مستمرين بالضرورة، يُراكم بداخلنا الحاجة إلى التفريغ بأي شكل كان، سواء بالرقص أو الغناء أو الرسم أو النحت أو الصراخ أو الكتابة وغيرها، لكنني أكتب. فالكتابة بالنسبة لي علاج لأنجو”.
ويرى الكاتب عامر المصري أن الكتابة عبارة عن “حروب صغيرة” ولكنها على الورق، لأنها أصلا تكون نتيجة لاصطدام بين الأفكار والواقع، وبين المنطق واللامنطق، وبين الواقع والخيال. فكلاهما تجريبي وغير مضمون النتائج.
ويردف “في الكتابة إما أن تكون النتيجة إشادة “نجاة” وإما ذم “موت”. أما في الحرب فإما أن تكون النتيجة موتا أو نجاة”.
نزيف وجداني
فيما ترى الشاعرة مريم قوش أن “الكتابة نزيف وجدانيّ، وهي خلاصة تجربتنا في الحياة والموت، وهي نافذتنا الرؤيوية للفلسفة والكون”.
وتضيف “حينما نكتب فنحن نعبر بشكل حقيقي عن رغبتنا في الوجود، نحن نمارس طقوس الحياة كما نحب، نحقق مدينة فاضلة تتسعُ لكل ما تأمله أرواحنا”.
وتتابع “الكتابة بطريقة أو بأخرى تمردٌ على ما هو كائنٌ لتحقيق ما ينبغي أن يكون. فالكتابة طاقة كونيةٌ متمردة على الواقع لخلق واقع أجمل، وتحقيق تلك السعادة المرهونة بتحقيق مدينة فاضلة، تتسع للخلق حيثما وأينما كانوا”.
قد تتقاطع الحرب والكتابة في أن كليهما رغبة حقيقة لتحقيق حياة وخلق مناخ مغاير، وإن اختلفت الطريقة
وتقول إن “الكتابة بسموها الفلسفي قد تبدو حربا بطريقة أو بأخرى، بين الكاتب والكتابة، بين الفكرة والكتابة، وبين الكتابة والواقع، هي رحلة من القلق المستمر الذي توقده الذات المتأرجحة بين المنطق والفلسفة”.
أما عن الحرب، فتقول قوش “لا فلسفة فيها ولا منطق! الحرب نزيف وقوده شعوب ودماء أمم يلوكها محراث القتل. قد تكون رغبة في الحياة أو رغبة في الموت، وقد تكون هربا من كليهما! هكذا هي الحرب، منجل لا يتوقف عن حصد السنابل، وأضراس لا تمل من سحق الرمال. قد تتقاطع الحرب والكتابة في أن كليهما رغبةٌ حقيقةٌ لتحقيق حياة وخلق مناخ مغاير، وإن اختلفت الطريقة”.
وتضيف “لا مقارنة بين قسوة الكتابة وضراوة الحرب، حتى وإن كان في كل منهما رغبة بالتمرد على الواقع وصياغة واقع آخر”. وتختتم الشاعرة بالقول “شيءٌ ثابتٌ بين فكرة الكتابة والحرب، إنهما تمردٌ على الواقع لخلق واقع مغاير”.
حرب مختلفة
وبالرغم من أن سكان قطاع غزة قد خاضوا من قبل عدة مواجهات حربية مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن هذه الحرب، كانت مختلفة، حيث كانت المباغتة من فصائل المقاومة للعدو، وتبعتها اعتداءات وحشية من قبل الاحتلال على المدنيين في غزة.
وترى نيروز قرموط أن هذه الحرب تختلف عن سابقاتها في “الفجأة، والتسارع، وتوسع رقعة المواجهة، مما دفع الناس للشعور بالخوف بعد غبطة ملموسة كقطعان تائهة”.
لا وقت للتفكير، لكن الناس ترى تغيرا في واقع المواجهة، ويصلها إحساس وكأن خارطة المدينة سترسم خطوطا جديدة. أن يعاملك المجتمع الدولي وكأنك لست الضحية لأول مرة
وتتابع “لا وقت للتفكير، لكن الناس ترى تغيرا في واقع المواجهة، ويصلها إحساس وكأن خارطة المدينة سترسم خطوطا جديدة. أن يعاملك المجتمع الدولي وكأنك لست الضحية لأول مرة”.
وتضيف قرموط “لكن الحقيقة تقول إن الخزان قد دق بعد أن هدَرت مياهه لأعوام متتالية من الضيق والحصار والعدوان، لسنا حيوانات بشرية، لكننا أثبتنا أننا بشر واجه عمق المعاناة”.
وتستدرك “لا نسعد بصور أسيرات من الطرف الآخر. لكن هل نلغي شعور فرد لا يستطيع الانتقام بعد عقود وأعوام من الضرب والتنكيل بأبسط مبادئ الكرامة ومعنى أن يقف الإنسان كسنديانة للحياة”.
خيال غير متوقع
أما روان حسين، فتقول “أشعر بالفخر والاعتزاز جراء كل ما يحدث في هذه الحرب، لم يُجبر قطاع غزة هذه المرة على مجاراة الكيان الغاشم على الحرب، فقط لندافع عن ذواتنا خوفا من القتل، هذه المرة نحن من قدنا الحرب ونحن من نوجهها ونحن من سينهيها بنتائج ترضينا”.
المختلف في هذه الحرب، أو في مشاعر هذه الحرب عن كل الحروب السابقة، أنها كانت عبارة عن خيال غير متوقع، وأظن أنني مهما كتبت لن أستطيع التجرؤ خياليا على كتابة مشهد جيب المقاومة، وهو يتجول في مستوطنة بغلاف غزة
ويفيدنا عامر المصري أن “المختلف في هذه الحرب، أو في مشاعر هذه الحرب عن كل الحروب السابقة، أنها كانت عبارة عن خيال غير متوقع، وأظن لو أنني مهما كتبت لن أستطيع التجرؤ خياليا على كتابة مشهد جيب المقاومة، وهو يتجول في مستوطنة بغلاف غزة”.
في حين تقول مريم قوش “المختلف في هذه الحرب أنها بدأت بمباغتة الجانب الفلسطيني بالطريقة والكيف والمكان، فكان اختيار فجر السبت في آخر أيام عيد العرش بتلك الطريقة الهوليودية مثيرا لصدمة الفلسطينيين أيضا، فنحن لم نعتد على مثل هذا من قبل”.
وتكمل “في كل حرب على غزة كان المحللون السياسيون وحتى بعض المواطنين الفلسطينيين بوسعهم استقراء الأحداث والتنبؤ بها لكثرة ما مرت هذه البلاد بالحروب، لكن هذه الحرب جاءت خارج الحسابات، نحن لا نعلم إلى أين تنتهي، وليس بوسعنا استقراء ما سيحدث الساعة القادمة، ولا نتوقع أحداثها”.
وبشأن ما قدمته المقاومة الفلسطينية، كلحظة مباغتة هذه المرة، باختراق حدود الغلاف الذي أعدته وحصنته إسرائيل، وعن المشهد الذي لم يكن يحلم به الفلسطينيون أو العرب تقول قرموط: “أحدثوا 40 فجوة في الجدار، يسرقون ولو فجوات من الحياة. هذا الجدار الذي فصلهم عن حركة طبيعية للأفراد والعائلات. للماء والهواء والطعام. لرؤية شجرة تحدثت لهم عنها الجدة ذات مرة. لحفنة رمال يعلمون أنها لا تختلف عن رمال يقفون عليها. إنهم وعلى منوالهم يحاولون العبور، ويرفضون الانصياع لقوانين مجحفة تقر بالهزيمة”.
في ما يقول عامر المصري “المشهد كان مدهشا، خياليا، لو قرأته في كتاب سيكون الأمر بالنسبة لي غير منطقي، لو شاهدته في فيلم سينمائي واقعي سيكون مشهدا هزليا، ولكننا شاهدناه على أرض الواقع، ولم يكن خيالا، بل كان واقعا”.
أما روان حسين، فتقول “شعرت أننا سنتحرر اليوم، يبدو أن هذا الإحساس أعظم من أن أشهده بلا خسائر أو آلام في وقت قصير كهذا، ولكن الأمل الذي كان يعيش بداخلي ويكبر، كان أقوى من ألا أصدق أننا سنكون أحرارا وأخيرا”.