“دار خولة” للكويتية بثينة العيسى.. في مواجهة زحف الحداثة وفقدان الجذور

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

تمثل “دار خولة”، أحدث أعمال الكويتية بثينة العيسى، عملًا أدبيًا يعكس الصراع العميق بين الذات والقيم المحيطة، فعبر شخصية “خولة”، قدمت الكاتبة نموذجا للمرأة العربية التي تعيش في عزلة نفسية وسط عائلتها، لتخوض مُجبَرة صراعًا داخليًا لاستعادة الشعور بهويتها، في ظل تأثيرات ثقافية واجتماعية تتغير بشكل متسارع، بسبب واقع تأثير “الآخر” على بناء الشخصية العربية وما ينجرُّ عن ذلك من صراع داخلي، كثيرا ما يؤثر سلبا على العلاقات المفترض أن تكون سويّة.

بداية الصراع

شخصية البطلة في “دار خولة” هي مثال للشخصية المركبة، فهي تعيش بين ماض تقليدي وحاضر متغيّر، ففي مشهد معبّر، تقول خولة “كنت أفتقد زوجي، وأردت التفرج على الأطفال الذين يرقصون بتلك الأزياء” (ص: 38)، يعكس هذا البوح، التوق لبناء علاقة قوية مع مَن تحبهم، ولكنها تشعر بتشتت عاطفي تجاههم، فأبناء خولة، كناصر ويوسف، يُجسدون التحول الاجتماعي الذي تكرَّس بتبني الشباب للقيم الغربية، حيث يعيش ناصر حياة “فردانية مطلقة” بعيدًا عن تواصل حقيقي مع والدته.

هذا التباعد يعمق من اغتراب خولة ويجعلها أمّا تتصارع مع ذاتها للحفاظ على هويتها التقليدية أمام تحول جذري، يشبه بنحو ما، ما رسمه قلم “د.هـ. لورانس” في عمله “أبناء وعشاق“، حين وصف علاقة بطلته “جيرترود موريل”  بأبنائها، حيث تسعى الأم إلى تحقيق سيطرة كاملة على حياة أبنائها، مما يؤدي إلى صدام مستمر.

بيد أن الفرق هنا، هو أن خولة لا تسعى إلى تقييد أبنائها، بل كلّ ما ترجوه هو إيقاف انجرافهم نحو ثقافة لا تمتّ لها بصلة، مما يعكس خوفها من فقدان هويتها العائلية، التي حوّطتها العيسى بذكاء بأسوار من النوستالجيا المتماهية مع جدران “الدار”، فالمنزل في الرواية وظّفته الكاتبة ليكون رمزًا قويًا يعكس الصراع بين ما هو تقليدي وما هو حديث.

تشعر خولة بأن دارها لم تعد تحمل ذات المعنى، بل أصبحت فضاءً فارغًا؛ “بيت للعائلة لكنه فارغ” (ص: 38)، وكأنما يُفرغ ذلك الفراغ الروحي في ساكنيه خاصة أبناءها؛ ليَحضُر القارئ وهو يحاول تأمل رمزية المنزل في رواية دار خولة، ما سبق للمفكر عبد الوهاب المسيري أن أعلنه: “الحداثة تبتلع هوياتنا الأصلية”، وهو ما أدركته خولة أيضا، بعكس أبناء جيلها، مما يضفي على الرواية بعدًا فلسفيًا حول الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور.

فظاعة الاغتراب الداخلي وانسلاخ الهويّة

أحد الجوانب المحورية في الرواية هو طرح موضوع الهوية وما يعنيه من أن يفقد الإنسان إحساسه بالانتماء. نقرأ في أحد المقاطع:

“كلّ ما أرادته هو تنشئة أبناء فائقين… لكنها في نهاية المطاف، وجدت نفسها محاصرة بأبناء بلا جذور ولا سيقان”

(ص:43)

يعكس هذا الاقتباس مرارة الفجوة التي نشأت بين الأجيال. وهي نتيجة حتمية عن ابتعاد الإنسان المعاصر تدريجيًا عن جذوره، ليجد نفسه في عالم بلا روابط حقيقية، مثلما استنتج إريك فروم أو جورج ستاينر الذي اكتشف -وهو يدرس علاقة الاغتراب باللغة- أن اللغة نفسها قد تكون مصدرًا للاغتراب، إذ يصفها كـ”جسر غير مكتمل” بين الذات والآخر، مما يعمّق الشعور بالعزلة والفصل النفسي.

رواية "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جيورجيو طرحت فكرة فقدان الذات أمام قسوة الحداثة وعزلة الإنسان في عالم متغير

رؤية تتناسب مع شخصية خولة التي -رغم محاولتها التعبير والتواصل مع أبنائها- تجد نفسها غريبة في بيتها ولغتها، حيث تصبح اللغة نفسها حاجزًا عاطفيًا. يبدو تواصلها مشوبًا بالقيود، وكأنها تعجز عن بناء جسور حقيقية معهم، مما يضفي بعدًا فلسفيًا على عزلة خولة.

هذا الاغتراب اللغوي يُشعرها أنها باتت غريبة وسط أفراد عائلتها، حتى ضمن إطار ثقافتها ولغتها الأم. تجربة خولة قد تكون فردية كما يحاول النص إيهامنا به، لكنها في الوقت ذاته تسلط الضوء على تصاعد تأثير الثقافة الغربية في الأوساط العربية، وهو تأثير لا يمكن تجاهله ولا تجاهل الوسائل الداعمة له، والتي أهمها السلطة الثقافية المهيمنة، أهمّ أدوات الغرب في تغريب الشعوب على حدّ تعبير جورج لوكاش، الذي تقاطعت رؤيته هذه مع رؤية قسطنطين جيورجيو في روايته “الساعة الخامسة والعشرون”، التي طرحت فكرة فقدان الذات أمام قسوة الحداثة وعزلة الإنسان في عالم متغير.

في رواية جيورجيو، يعاني الإنسان من امِّحاء هويته أمام قوة مهيمنة، حيث تُسلب منه ذاته وقيمه الأصيلة في دوامة الحداثة. في “دار خولة”، نجد تجربة مماثلة تتجسد في فقدان خولة لهويتها العائلية والأمومية، حيث ترى أبناءها يتبنون قيمًا وثقافات لا تمت بصلة إلى جذورها، وكأنها تخوض صراعًا للحفاظ على وجودها في مواجهة زحف عولمة تجعلها مجرد شخصية هامشية في عالم لا يشبهها.

لغة جميلة لواقع قبيح

تتميز “دار خولة” بلغة شاعرية، تختلط فيها مشاعر الألم والأمل، مما يجعل النص نابضًا بالحياة ومعبرًا بصدق عن الوجع النفسي لشخصية خولة. في مقطع من الرواية، نقرأ: “تكتشف أن الصمت وراء الصمتِ صمتٌ ثانٍ، وثالث، وعاشر” (ص:9). يظهر استخدام الكاتبة للغة كأداة لنقل العزلة والترددات النفسية التي تعيشها الشخصية.

وتذكرنا هذه اللغة بمقولة الشاعر محمود درويش: “في داخلي صوت يخبرني أن العزلة نوع من العودة إلى الذات”. فالكاتبة تنجح في جعل اللغة جزءًا من رحلة البحث عن الذات، مستخدِمة إياها لتجسيد الحالة النفسية لخولة بكل وضوحها وتعقيداتها.

كذلك، يعيد أسلوب الكاتبة في وصف المنزل والجدران التي تروي..، قصصًا قديمة إلى الأذهان “بيت الأرواح” لإيزابيل الليندي، حيث تُروى القصص عبر تراكمات الماضي وسكون الحاضر. فبناء المنزل وصمته العميق يُكمل الصورة الرمزية للعزلة في حياة خولة.

دعوة للبحث عن الذات

رواية “دار خولة” للكويتية بثينة العيسى، مرآة تعكس صراعات الإنسان (العربي) المعاصر مع هوية متغيرة تحت وطأة العولمة. من خلال شخصية خولة، تُبرز الكاتبة ضرورة العودة إلى الجذور لإيجاد القوة الداخلية التي تحمي الذات من التلاشي في عصر الحداثة. الرواية تستحق التقدير لأصالتها في معالجة قضايا الهجرة الثقافية والعزلة الروحية، وتقدم صوتًا يعبر عن الحاجة إلى الارتباط بالجذور. إن هذا العمل الأدبي يعبر بحق عن قلق الإنسان العربي المعاصر، ويذكرنا بمقولة نيتشه الخالدة: “إذا قطعت جذورك، لن تستطيع الوقوف أبدا”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *