في تقريره نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، دعا الكاتب حميد دباشي إلى تخيل أن بلدا شرقا أوسطيا مدعوما ومسلحا عسكريا ودبلوماسيًا من روسيا أو الصين، لديه الإرادة والوسائل اللازمة لقصف تل أبيب لمدة ثلاثة أشهر، ليلا نهارا، وقتل عشرات الآلاف من الإسرائيليين، وتشويه عدد لا يحصى من الأشخاص وتشريد الملايين، وتحويل المدينة إلى كومة من الأنقاض غير الصالحة للسكن، مثل غزة اليوم.
ويكمل -أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة كولومبيا- “فقط تخيل ذلك لبضع ثوان: إيران وحلفاؤها يتعمّدون استهداف المناطق المأهولة بالسكان في تل أبيب، والمستشفيات، والمعابد اليهودية، والمدارس، والجامعات، والمكتبات -أو في الواقع أي مكان مأهول بالسكان- لضمان الحد الأقصى من الخسائر في صفوف المدنيين”.
ويتابع مؤلف كتاب “ما بعد الاستشراق.. المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب”: سيقولون للعالم إنهم يبحثون فقط عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته الحربية. اسأل نفسك عما ستفعله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا وألمانيا على وجه الخصوص في غضون 24 ساعة من هجوم في مثل هذا السيناريو الخيالي”.
ويكمل “عد الآن إلى الواقع، وفكّر في حقيقة أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زوّدوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل والذخائر والتغطية الدبلوماسية، في حين قدّمت وسائل الإعلام الأميركية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين وإبادتهم”.
ويرى الفيلسوف والمؤرخ الإيراني ذو الجنسية الأميركية أن النظام العالمي القائم لن يتحمل السيناريو الخيالي المذكور أعلاه ولو ليوم واحد. وفي ظل الدعم العسكري الكامل الذي تقدمه الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا لإسرائيل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي، كما أنه وثيق الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للشيء الذي يطلق على نفسه اسم “الغرب”.
ويعتبر أن “الأشخاص الذين ينتمون إلينا والذين يعيشون خارج المجال الأوروبي للخيال الأخلاقي، لا وجود لهم في عالمهم الفلسفي. نحن العرب والإيرانيين والمسلمين، أو الناس في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ليس لدينا أي حقيقة وجودية للفلاسفة الأوروبيين باستثناء التهديد الميتافيزيقي الذي يجب التغلّب عليه وإسكاته”.
ويكمل “بدءا من إيمانويل كانط وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، واستمرارًا مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، نحن حالات شاذة وأشياء معروفة كُلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى إزعاج في أذهان الفلاسفة الأوروبيين”.
الجماهير الأوروبية القبلية
إذا كنت تشك في ذلك -يتابع دباشي- فما عليك سوى إلقاء نظرة على الفيلسوف الأوروبي الرائد يورغن هابرماس وعدد قليل من زملائه، الذين خرجوا بعمل فظ ومذهل من الابتذال القاسي لدعم المذبحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
لم يعد السؤال المطروح ما الفكرة التي يجب أن نأخذها عن هابرماس الإنسان، البالغ من العمر حاليا 94 عاما، بل كيف يمكن أن نفكر به كعالم اجتماعي وفيلسوف ومفكر نقدي؟ هل ما يعتقده يهم العالم بعد الآن، إذا كان قد أصبح كذلك؟
كان العالم يطرح أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر وهو مارتن هايدغر، في ضوء انتماءاته إلى النازية. وفي رأيي -يتابع دباشي- يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله.
إذا لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية بما يتجاوز جمهوره الأوروبي المباشر؟
وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه “يناقض أفكاره” عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة.
وذكر الكاتب أنه يعتقد أن تجاهل هابرماس حياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماما مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشرا بالكامل، أو أنهم “حيوانات بشرية”، كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت علنا.
وحسب الكاتب، فإن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. وتتمثل الحكمة السائدة في أن الألمان، بسبب ذنب المحرقة، طوّروا التزاما قويا تجاه إسرائيل.
ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله حاليا خلال حقبتها الصهيونية، بحسب الكاتب.
ويعتقد دباشي أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه “اليسار الألماني”، مع عنصريته وكراهية الإسلام والأجانب من عرب ومسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.
الانحطاط الأخلاقي
إن تهمة المركزية الأوروبية التي يتم توجيهها باستمرار ضد تصور الفلاسفة الأوروبيين للعالم لا تستند فقط إلى خلل معرفي في تفكيرهم، كما يرى الكاتب، بل إنها علامة ثابتة على الانحطاط الأخلاقي.
وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء، بل هو محفور بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه.
ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية في هيريرو وناماكوا. ومثلهم كمثل النعامة، غرس الفلاسفة الألمان رؤوسهم داخل أوهامهم الأوروبية، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم، كما يقول دباشي.
وفي نهاية المطاف، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض، بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تماما مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسبه الفلسفي، التي اتخذت بشكل خاطئ نهجا عالميًا.
لقد تحرر العالم حاليًا من هذا الشعور الزائف بالعالمية. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله.
وأشار الكاتب إلى أن الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين يمثل نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائف. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، الذين أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها “الحضارة الغربية”، بحسب وصفه.