من المعلوم أنّ الثقافة العربية عمومًا هي غنية بتراثها الأصيل، الذي يعتبر محفزًا قويًا للسياحة في مختلف بلدان العالم العربي، كما أنها أيضًا مادة مثالية للاستلهام في تجارب إبداعيّة معاصرة.. لكن كما يقال: “الشيطان يكمن في التفاصيل”، فلنبحث عنه.
أغنية سعد المجرد “يا لغادي وحدو”
يقف المغني المغربي الشهير “سعد المجرد” وسط فرقة نسائية تراثية تدعى “الهواريات”، وهو يرتدي لباسًا يشبه معطفًا طويلًا، من ثوب هو أقرب إلى ورق الألمنيوم، مع قبّعة مغربية، مزينة بقطع مرايا صغيرة ومكسورة، ونظارة شمسية غريبة، تغلب على المشهد الإضاءة الضعيفة، مع تلاعب ذكي بالأضواء، كما يرتدي عازف الطبل جلبابًا مغربيًا.. وتنطلق أغنية “يا لغادي وحدو” (أيها الذاهب لوحده)، وهي أغنية تراثية تنسب لتراث “هواريات” مراكش، بينما يصحح البعض بأنها من إبداع الرايس العربي الحمري الذي كتب كلماتها وغناها منذ عام 1975.
بالعودة إلى الأغنية الأصيلة، تجد أنها تعزف بإيقاع أقرب إلى الهدوء، وكلماتها توثق العديدَ من الحكم والعِبر، بينما لازمتها الأساسية، هي: “يهديك الله يا لغادي وحدو.. واش أنا نمشي بهوايا”، بينما تعزف النسخة الجديدة بإيقاع صاخب، ولازمتها الواضحة، هي: “الغزالة الي سارحة ف الغابة.. فين غابو عليك الصيادة”، أي “أيها الغزال الشارد في الغابة، كيف لم ينتبه لك الصيادة!”.
ولا يتعدى دور الفرقة النسائية ترديد هذه اللازمة، وقد ألبسهن المخرج أيضًا أثوابًا بلون “ورق الألمنيوم” وزين شفاههن بلون داكن.. والإخراج في كليته هو أقرب إلى حفلات “الزار” في التراث المصري، أو “كناوة” في التراث المغربي، والتي ترتبط بالجن وطرد الأرواح الشريرة.
القفطان المغربي العصري
في برنامج تلفزيوني صباحي يُبثّ على فضائية عربية شهيرة، تستضيف مقدمتا البرنامج، مصممة مغربية شابة، تبدع تصاميم معاصرة للقفطان المغربي، وتتفاخر بأنها استطاعت في مجموعتها الجديدة أن تمزج بين القفطان المغربي، وهو بالمناسبة لباس نسائي تقليدي رائع، وبين فساتين السهرة الغربية.
وبدأت تشرح للمقدمتين إبداعاتها في التصميم والمزج، بينما تولت عارضتان تقديم مجموعة من القفاطين العصرية الجميلة.. كان القفطان الأول مكشوف الصدر والأكتاف، بأكمام قصيرة لا يتجاوز طولها حوالي العشرة سنتمترات، أما القفطان الثاني فكان بفتحات كبيرة أسفل الكتف.
بينما جاء القفطان الثالث بثوب لا يحترم التماثل المعهود في تصميم القفطان المغربي، حيث تبرز زخرفة كبيرة في نصفه الأيسر، وتغيب عن الأيمن، بينما غُطي الذراعان بثوب شفاف.. وهكذا توالت “القساتين” المختلفة، والمرفقة بشروح من المصممة.. ويبدو لي أن “القساتين” تسمية دقيقة، فما عُرض لا يمكن تسميته قفاطين ولا فساتين، بل هو مزيج غريب بينهما!
مشهد الغروب في صحراء مرزوكة
يصل وفد من السياح الأجانب إلى إحدى مدن الجنوب الشرقي المغربي، وحينما ينزلون من الحافلة السياحية، يجدون في استقبالهم إحدى الفرق الغنائية التراثية، التي تعزف ألحانها بحماس، فيتفاعل بعض السياح مع الإيقاع، ويشاركون العازفين الرقص لدقائق، قبل دخول الفندق للاستراحة وتناول الغداء الذي سيكون غالبًا هو الطاجين المغربي الشهير.
وفي المساء، سيقودهم المرشد السياحي إلى مرزوكة، حيث سيتخلون طواعية عن كل ملذات الحياة، ووسائل التكنولوجيا الحديثة التي توفر لهم رغد العيش، ويتوجهون إلى صحراء قاحلة، فقط ليخوضوا تجربة مشاهدة غروب شمس طبيعي، ويستمتعوا بواحد من أجمل مشاهد الغروب في العالم.
ثم سيُخيّم الجميع في الصحراء، ويتحلّقون حول النار، ليستمتعوا بشرب الشاي المغربي الشهير، وبتناول وجبة شواء أو وجبة “المدفونة” على أنغام موسيقى المنطقة.. وهكذا سيحكي الجميع بعد عودتهم، أنهم تذوّقوا واكتشفوا جمال الثقافة المغربية، عبر الموسيقى التراثية، والطعام، والشاي، وجلسة صحراوية.
قد لا يجد البعض من رابط منطقي بين هذه المشاهد الثلاثة، وقد يتوقع مني بعض القرّاء الحديث عن السياحة.. لكن الأمر يتعلق هذه المرة بالثقافة. وبعيدًا عن كل التعريفات الأنثروبولوجية لمفهوم الثقافة، بدأت الثقافة حاليًا تعرف كسلعة تجارية!
إذ يمر الاقتصاد الدولي حاليًا بتحولات جوهرية، والفاعلون الكبار، يتحولون تدريجيًا من الاقتصاد المادي إلى اقتصاد الشبكات.. فيستأجرون كل وسائل الإنتاج، من مواد أولية تُستورد، إلى يد عاملة رخيصة في بلدان نامية ونائية، إلى وسائل نقل مؤجرة من شركات النقل المتخصصة؛ ولا يمتلكون فعليًا في المقابل سوى الطاقة الإبداعية، لتقليص تكلفة الإنتاج، وأيضًا لتقليص هامش المخاطرة في عالم من المنافسة، بحيث تصبح السلعة قديمة تلقائيًا بمجرد طرحها في الأسواق.
والإنتاجان الصناعي والفلاحي أصبحا بدورهما ضمن نطاق القدرات الاقتصادية للبلدان النامية؛ أما الاقتصاد الجديد، فيتاجر في الخبرات الثقافية.. وعلى رأي “جيريمي ريفكين” فإن الأثرياء لم يعودوا يهتمون باقتناء منزل فخم، لأنهم يمتلكونه أصلًا، إنهم يهتمون الآن بدفق الخبرات الذي يمكنهم الحصول عليه.
وهم يصرفون على “الخبرات” بقدر ما يصرفون لشراء المقتنيات المتنوعة. والنتيجة: اقتصاد جديد يتشكل على تجارة مواردها الأساسية هي الأسفار، والتجارب الروحية المدفوعة الأجر، ومجمعات الترفيه.
فما هي تأثيرات هذه التجارة الجديدة التي تتخذ من الثقافة سلعة لها؟ ألن تكون لها مضاعفات كبيرة على الثقافات نفسها؟ وما هي الآثار الثقافية لتسليع الثقافة؟
ما أذهب إليه في هذا المقال، هو أن الثقافة تتعرض الآن لتهديد هو أشبه بالتهديد البيئي؛ إذ بالغنا في استهلاك الموارد الطبيعية التي أصبحت مهددة بالنضوب بشكل فعلي؛ وبشكل مماثل، نحن نبالغ الآن في استهلاك الموارد الثقافية، ولا شك أن “تعليب” المضامين الثقافية، وبيعها كتجارب سيؤثران سلبًا على الحضارة الإنسانية عمومًا، وعلى الحضارات العربية التي ما زالت تحافظ على قدر محترم من الرصيد الروحي خصوصًا. وهي التأثيرات التي يمكن استشرافها كما يلي:
بيع الخبرات
حينما تتحول الثقافة إلى سلعة، يكتسب المستهلك مفهومًا جديدًا، فهو مستهلك يتحلى بمواصفات خاصة، لأنه يستهلك دفقًا من الخبرات، وهذه الخبرات ليست مادية، لذا فهي لن تستجيب لحاجيات “تقليدية” عند المستهلك.. هنا تتحدث آخر الأدبيات الاقتصادية عن “القيمة العمرية” للزبون، أي عن القيمة التجارية لكل ثواني ودقائق حياة الزبون، باعتبارها منتجة للقيمة التجارية.
كان يُنظر في السابق إلى الإنسان كمستهلك حينما يقصد الأسواق التجارية، أو ينفتح على وسائل الاتصال فتغزوه الإعلانات؛ لكنه مع ذلك، يظل إنسانًا عاديًا يحظى بقدر من الخصوصية في حياته الخاصة، خصوصًا داخل البيت رفقة أسرته، أو أثناء ممارسة شعائره الدينية. لكن مع تسويق الموارد الثقافية، لم تعد هناك حياة خاصة للإنسان، بل تصبح كل ثواني حياته الخاصة جزءًا من عملية تجارية، وبالتالي يتحدد الإنسان كمستهلك في كل لحظات حياته:
- فالمعاشرة الجنسية بين الأزواج مجال لبيع الخبرات الثقافية: من الأغذية التي تساعد على بناء أداء واستعداد جنسي ملائمَين، إلى الكتب أو الخدمات الاستشارية المدفوعة التي تعرفك على العادات الجنسية لزوجك (وكأنه لا يمكنك السؤال!)، مرورًا بعتاد ملائم من الشروط المادية: كيف تختار الإضاءة الرومانسية، وتصميم الغرفة الهادئ، وما هي الملابس المناسبة التي يمكنك طلبها من الإنترنت؟ وغير ذلك من الشروط.
- العطلة ووقت الفراغ اللذان يهرب فيهما الإنسان من دُوامة حياته الإنتاجية/ الاستهلاكية، هما مجال مثالي لبيع الخبرات الثقافية: يمكنك أن تدفع لتعيش تجربة أي ثقافة محلية من ثقافات العالم، لكن طبعًا في صيغة تجارية سطحية: فيلبسك مرشدك السياحي مثل السكان الأصليين لإحدى القبائل المحلية، وتقضي ليلتك بالعراء، على أنغام رقصة محلية، تشارك فيها بكل تواضع، وروائح الشواء تداعب معدتك، لتفتخر أمام زملائك في العمل بأنك عشت حياة القبيلة الفلانية، أو الشعب الفلاني، وكأن كل ثقافة تلك القبيلة تتلخص في جلسة طرب وشواء.
- الامتحان الدراسي أو التقدم لوظيفة، أصبح مجالًا لبيع الخبرات: فلكي تنجح في امتحان الولوج إلى الوظيفة الجديدة، عليك على الأقل اقتناء كتاب: “كيف تنجح في مقابلة العمل؟”، لكن يستحسن أن تسجل في دورة تدريبية، ليعلمك خبير متخصص كيف تستعد للمقابلة، وهو الاستعداد الذي يبدأ باختيار الأطعمة الملائمة والغنية بالفوسفور والمغنيسيوم، اللذين يساعدان على التركيز والاسترخاء، ثم يعلمك الخبير مهارات الحفظ والتذكر، كما يعلمك مهارات الاتصال ومواجهة لجان الامتحان.
- بل حتى لحظات الحزن وفقدان الأحبة، أصبحت فرصة لبيع الخبرات في الدول الغربية، فتعبّر عن مقدار حزنك ودرجة حبك للفقيد، من خلال جودة النعش الذي تختاره له، وفخامة السيارة التي ستنقل جثمانه إلى المقبرة، وطبعًا المكلف بالتواصل مع الزبائن في الشركة سيعلمك كل ما ينبغي فعله، وكل ما ينبغي تجنبه، حتى يحظى قريبك بمأتم راقٍ.
وسأتجنب عمدًا إيراد أمثلة لتعليب التجربة الدينية وبيعها، حتى لا أزعج البعض؛ وأذكّر فقط بالنتيجة: كل تفاصيل حياتنا، النفسية والاجتماعية والروحية والبيولوجية، أصبحت ثوانيَ ولحظات مربحة تجاريًا.
تعليب الثقافة
وتدريجيًا، سنبدأ بالنظر إلى الموارد والخبرات الثقافية على أنها خبرات وظيفية، نحصل عليها بمقابل مادي، لتجلب لنا منافع معينة؛ وهذا ما ينتج عنه تلقائيًا تفويض كل الشأن الثقافي إلى “الخبراء والمتخصصين” الذين يعيدون تعليبه في تشكيلة منوعة، تبعًا لحاجياتنا.
كما ينتج عن ذلك أيضًا إدراكنا السطحي للخبرات الثقافية، والتعامل معها إما فلكلوريًا بحصرها في منظور ترفيهي أو فرجوي، وإما نفعيًا بحصرها في خبرات وظيفية لإدارة أزمات معينة أو التعامل مع حالات طارئة.
هذا فيما يتعلق بنا كمستهلكين، أما فيما يرتبط بالتجار الجدد، الذين يتاجرون بالخبرات الثقافية، فهم يفككون كل تاريخنا الثقافي ويحولونه إلى خبرات وتجارب للبيع، وهم بلا شك سيجتثون تلك الموارد من سياقها الحضاري كمعين تشكل عبر قرون طويلة من خبرة الأجداد وحكمتهم، ثم سيعيدون تقديمها في صيغ ترفيهية وفرجوية فلكلورية.
والأخطار كثيرة لا تقف فقط عند إفراغ الثقافة من محتواها القيمي والحضاري، بل يتم اقتلاعها من سياقها الاجتماعي الذي يشكلها ويغذّيها، ويجعل منها مواكبة للحياة الإنسانية ومستجيبة لها ومعبّرة عن حاجياتها، فتصبح مجرد طقوس مناسباتيّة.
وتدريجيًا، يبدأ البسطاء والمستثمرون، والشعوب لاحقًا النظر إلى ثقافاتهم كموارد اقتصادية؛ لإغراء السياح الأجانب، وجلب الرواج الاقتصادي، في حين تخلو تلك الثقافة في نظرهم من الحلول الواقعية لمشكلات عصرهم، فيتبنون في المقابل الثقافة “العصرية” الوافدة.. وعوض أن يحيى كل شعب وفق ثقافته الأصيلة، سيحيى بالثقافة الغربية المعولمة، وكنوع من إبراء الذمة، “سيمارس” طقوس ثقافته الأصيلة من حين إلى آخر.
أما الثقافات المصنّعة والمقدمة تجاريًا، فستستنفد بريقها مع الوقت؛ هنا سيتدخل المستثمرون بخبرتهم التسويقية، لصنع تهجينات ثقافية غريبة، تبرز بعض مسوخها من حين إلى آخر في بعض عروض الأزياء والأغاني المصورة:
- فأغنية سعد المجرد التي بدأت بها المقال، وإن كانت قد ساهمت في إحياء الأغنية التي خفت بريقها، إلا أنها قدمت مسخًا لا يحترم قيم الأغنية نفسها، سواء من حيث تسريع إيقاعها، أو جعل قيمتها المركزية هي الغزال/ الفتاة التي يطمع فيها “الصيادة”، بدل كل الحِكم والعبر التي جاءت في النص الأصلي للأغنية، أو في اللباس والماكياج اللذين قُدمت عبرهما الفرقة النسائية التراثية والتي لم يتجاوز دورها تكرار لازمة الأغنية، وكأن الأمر أشبه بمباركة ومنح مشروعية للتهجين الجديد، ثم ربط الأغنية بمجال الأرواح والجن.
مسخ وهدم
هكذا يبدو لي أننا نسمع بعضًا من كلمات الأغنية الأصيلة، لكننا نستهلك شيئًا آخر لا علاقة له بها.. والخطير في هذا التهجين، هو أنه لا يعيد إنتاج الأغنية التراثية بإيقاع معاصر، وإنما يمسخ قيم هذه الأغنية، بل وينتج نقيضها تمامًا، ويهدم عناصرها المرجعية: سواء هويتها المستندة إلى الحكمة في المتن، والوقار في الغناء؛ أو بنقلها من مجال الطرب إلى مجال الصخب والعوالم السفلية، أو بتغيير موضوعها المركزي الذي يصبح هو الفتاة مطمع الرجال.
- أما القفطان المغربي، الذي يعود إلى قرون خلت، وكان لباس الملوك والأمراء، ثم أصبح لباسًا نسائيًا رائع الجمال، حتى إن الكثير من السياسيات والأميرات والشهيرات عبر العالم تفاخرن بارتدائه؛ هذا القفطان الرائع، أصبح مفرغًا من أهم ما يميزه من عناصره الجمالية، فهو مبني على التماثل الدقيق في زخارفه الجميلة، وعلى الصنعة اليدوية الماهرة في الطرز وصناعة عقده، وهو ثوب مريح يستر كامل جسد المرأة في حفلات الزفاف والمناسبات ولا يغري أو يفضح تفاصيل الجسد.
أما هذه التهجينات الخطيرة، فهي تقدم لنا تصاميم لملابس أخرى لا يمكن أن تسمى قفطانًا، وخطورتها تتمثل في كونها تهدم أهم العناصر المرجعية في هُوية القفطان المغربي باعتباره يستمد ذوقه الجمالي من التراث، ويقوم على انتظام التطريز وتماثله، وعلى الصناعة اليدوية الماهرة التي يسترزق منها العديد من الأسر، كما يستمد قيمه أيضًا من ثقافتنا، بما يكفله للمرأة من ستر ووقار بقدر الجمال الذي يعكسه، وإذا استمرت هذه التهجينات، فأنا واثق بأن القفطان سيختفي قريبًا.
- ومن التهجينات الخطيرة أيضًا، الجلباب النسائي المغربي، الذي كان يرمز لأمرين أساسيين: أولهما البساطة والانفلات من الثقافة الاستهلاكية، وثانيهما الحشمة والوقار.. حتى إن الفتاة المغربية التي كانت تنتمي إلى أسرة محافظة، كانت تجد في الجلباب النسائي ضالتها، فهو لباس أنيق وجميل، يضمن الحشمة والوقار، ولا يفضح السمينات ولا النحيفات، فهو يجمل ويزين جميع أنواع القوام.. إلى أن امتدت يد التهجين إليه، فصارت الأثواب والزخارف تتغير مرتين في السنة، دافعة الفتيات إلى المزيد من الاستهلاك.
كما صار الجلباب ضيقًا على الخصر يكشف مفاتن الجسد، بل أصبحت بعض تصاميمه من قطعتين، وأخرى بنصف كم، وثالثة بأجزاء شفافة.. ونتيجة هذه التهجينات، هي أننا أمام لباس، يكشف الجسد، ويفضح تضاريسه، ويدفع إلى اللهاث كل مرة نحو موضة السنة، فهل يصح أن نسميه جلبابًا؟
- أما ثقافتنا العربية، التي نحصرها في أغانٍ فلكلورية نستقبل بها الزوار، وملابس تقليدية نستخرجها من خزانات الملابس في مناسبات خاصة وقليلة، ووجبات طعام تقدم بأثمنة باهظة في الفنادق المصنفة، بينما يعف عنها أطفالنا المهووسون بالوجبات الغربية السريعة؛ فهي أكبر من أن تمسخ في تعبيرات احتفالية.
بل إن الكثير من برامج الوزارات المسؤولة عن الشأن الثقافي تكرس هذا المنظور السطحي للثقافة بحصرها في تعبيرات لا تتجاوز الأزياء والأغاني والطعام، في حين أن أهم ما في الثقافة هي القيم التي تختزنها، والتي تعكس خبرةَ الأجداد في التعامل مع مشكلات الواقع وذكاءَهم في الجمع بين النجاح الفردي والتماسك الاجتماعي.
أما ما يحدث الآن، فهو أننا نعيش عمليًا بثقافات هجينة هي مسوخ وتوليفات غريبة، تطغى عليها الثقافة الغربية المعولمة، مع بعض التعبيرات الثقافية المحلية التي ما زالت تقاوم، ونكتفي بالتبرك “الثقافي” من حين إلى آخر بطقوس سطحية مناسباتية.
إن خطورة هذه التهجينات تتمثل في كونها تمسخ هوية التعبيرات الثقافية التي تنطلق منها، بدل أن تحافظ عليها، وبدل أن تستند إليها باعتبارها نقطة مرجعية للاستمداد والإبداع.. وبعد أن تستنفدَ كل تلك التهجينات جميع الصيغ الممكنة، سنكون قد نسينا التعبيرات الثقافية الأصلية تمامًا، واستنفدنا كل مواردنا الثقافية.
حينها، وبعد القضاء على التنوع الثقافي، ونضوب مواردنا الثقافية، هل يمكن لحضارتنا أن تستمر؟ وبأي شكل؟
وأليس من المفيد أن تفكر وزارات الثقافة في العالم العربي في إنشاء بنوك مرجعية للثقافة، تحتفظ فيها بجميع التعبيرات الثقافية العربية بصيغها المرجعية الأصيلة حتى لا تمسخ؟
وحينها على الأقل، سيكون لدينا مرجع للمقارنة والتمييز بين الأصيل وبين نسخه وتهجيناته الممسوخة!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.