“إن للخط الجميل وَشيا وتلوينا كالتصوير، وله التماع كحركة الراقصين، وله حلاوة كحلاوة الكتل المعمارية”. هذا ما قاله أبو حيان التوحيدي في رسالته واصفا أشكال الحروف وتناغمها وانسجامها مع أصواتها وما تعبّر عنه، فالخط العربي لوحات فنية، وحركات إبداعية، وفن محبوك النّسج متين السّبك.
وقد عبّر ابن عربي عن الحروف بقوله إن “الحروف أمة من الأمم”، وإنها لكذلك.. فبها يتجلّى روح الكَلِم، ومنها يُصاغ فؤاد المعاني، وبها تُرتل آيات الفكر والجمال.
نشأة الأبجدية العربية الأولى (أبجد هوز)
إن اختلاف الشعوب وتعدد اللغات شيء، والاتفاق على حروف اللغة شيء آخر، ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن نشأة الحروف التي ينطق بها ويكتب ويتحدث ويتواصل بوساطتها ويعبر بها عن أغراضه ومراميه، فكيف نشأت؟ وكيف اتفق النّاس على أشكال الحروف وأصواتها؟ وكيف سلمت من عاديات الزمان فصارت أيقونة لغة حية تُعاند بقوّة حضورها وتضاهي بجمالها وجلالها لغات الكون أجمع؟
تُعرف اللغة العربية بأنها من اللغات الساميّة، وكانت نشأتها في منطقة شمال شبه الجزيرة العربية، وقد كانت الأبجدية العربية على تماس مباشر بالأبجدية الآرامية، فتأثّرت بها وأثّرت فيها، وجاء التّرتيب الأول لحروف العربية متناغما مع ترتيب الحروف الآرامية، فالحروف في الأبجدية الآرامية تُكتب وتنطق كالآتي:
ألف، بيث، جامل، دالث، هيه، واو، زين
وحروف اللغة العربية بترتيبها الأول (أبجد هوز) تنطق وتكتب كالآتي:
ألف، باء، جيم، دال، هاء، واو، زين.
ومنها تشكّل الاسم الذي عُرفت به: (أبجد هوز).
وفي مجال الخط وشكل الحروف يُذكر أن الحروف العربية كانت قد تأثرت بخط المسند اليماني، ويقال إنها تأثرت بالدرجة الأولى بطريقة كتابة الأنباط المحاكية في أساسها للأبجدية الآرامية، وعُرف خط الجزم بأنه أول خط عربي موثق.
كيف انتقلنا من أبجدية (أبجد هوز) إلى الأبجدية الألفبائية الحالية؟
كانت الحروف العربية في بداية نشأتها بدون تنقيط أو تشكيل، وتُجمع الروايات على أن التابعي أبا الأسود الدؤلي ابتدع التنقيط بعد مشاورته لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، خشية اللّحن في قراءة القرآن وفهم معانيه بعد أن كثر المسلمون من غير العرب، فقد كان العرب بالفطرة والسليقة السليمة قادرين على قراءة الحروف المتشابهة بدون تنقيط أو تشكيل، لكن الأمر أشكل على غير العرب فصار التنقيط والتشكيل ضرورة مُلحّة.
كانت البدايات بتنقيط الحروف المتشابهة، ثم ابتكار النقطة الحمراء التي توضع فوق الحرف المكتوب باللون الأسود للدلالة على فتحه، وتوضع في يساره للدلالة على الضمة، وتوضع تحته لتدل على كسره.
أمّا تغيير ترتيب الحروف، فكان في منتصف القرن الأول للهجرة، في العصر الأموي وفي عهد عبد الملك بن مروان تحديدا، إذ انبرى تلميذا أبي الأسود الدؤلي، اللغويان المعروفان نصر بن عاصم اللّيثي ويحيى بن يعمر العدواني لتغيير شكل الأبجدية العربية وتسهيلها على غير الناطقين بها، فأَجرَيا تغييرات جذرية تمثلت في وضع الحروف المتماثلة في الرسم إلى جانب بعضها والتمييز بينها بالنقط، فاصطف حرف التاء بين الباء والثاء، وتزيّن كل حرف بعدد مختلف من النقط فوق الحرف أو تحته، وكذلك الحال مع حرف الجيم الذي تميز عن الحاء بنقطة في منتصفه بحال اكتماله وفصله عمّا سواه، وبنقطة تحته حين وصله بما قبله وما بعده من الحروف في الكلمة الواحدة، وامتازت الحاء ببقائها خالصة من التنقيط، في حين اتخذت الخاء نقطة فوقها، وقس على ذلك ما تبقى من حروف العربية، إذ جُمعت الحروف المتشابهة الأشكال واصطفت إلى جوار بعضها وتمايزت بالتنقيط، فصار حفظها أسهل، والتفريق بينها أيسر، وبذلك انتقلت الأبجدية العربية من الشكل الأول بالترتيب المتأثر بالأبجدية الآرامية (أبجد هوز) إلى الأبجدية المعروفة بالألفبائية استنادا إلى ابتدائها بالألف ثم الباء.
ما بين النقط والحركات
وكانت الحروف عامة تكتب باللون الأسود، وكذلك النقط التي أوجدها نصر بن سيار وصاحبه يحيى، في حين تميزت نقط أبي الأسود الدؤلي التي عبرت عن الحركات بكتابتها باللون الأحمر آنذاك قبل أن تتخذ أشكالا مغايرة للتنقيط. إلى أن جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي، النجم الساطع لمدرسة نُحاة البصرة ورائد علم المعجميات الأول ومؤسس علم العروض، فاستبدل بنقط الدؤلي أشكالَ الحركات التي نعرفها اليوم، وقد استدعى منطق التماثل والتجانس في الشكل والصوت حين وضعها، فصارت الفتحة ابنة الألف، وتحمل صوتها القصير، وصارت الضمة ابنة الواو تحمل شكلها وصوتها القصير كذلك، والكسرة ابنة الياء تتموضع تحت الحرف فتُكسِبه صوت الياء القصير.
فلسفة الحركات وفوائدها
رُتّبت الحركات فيما بينها بحسب الأقوى كالآتي: الكسرة فالضَّمة فالفتحة، وعليه فإن الفتحة أخفّ الحركات، وهذا ما يفسّر كثرتها في الكلمات قياسا إلى أُختيها الضمة والكسرة. وقد جاء هذا الترتيب استنادا إلى مرجعية سمعيّة تستثقل وتستخف، وذلك وفقا لتمييز الحروف نفسها والتفريق بين صفاتها عند النظر إلى خفتها وثقلها على اللسان.
ومن أهم ما تفيده الحركاتُ الدلالة على المعاني، وما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات، ويحرصوا عليها ذلك الحرص كله وهي لا تعمل في تصوير المعنى شيئا، كما أنها تفيد في تيسير النحو، ولئن كانت الحركات تدل على المعاني كما قالوا فإنّها تشير إلى معاني النحو، وتمثل علامات الإعراب، فتيسّره للسان العربيّ والعجمي على حدّ سواء.
وفي عهدنا القريب ذهب إبراهيم مصطفى في كتابه (إحياء النحو) إلى جعل الضّمة علامة الرفع دليل الإسناد في الكلمة، والكسرة علامة الجر دليل الإضافة، وأيّده الخزامي وذهب إلى القول إن الفتحة دليل خروج الكلمة من مجالي الإسناد والإضافة، وأَكّد أن الفتحة هي الحركة اللطيفة المُحبّبة لدى العربي، إذ يهرع إليها لخفّتـها آخذا في ذلك برأي الخليل وسيبويه.
في حين ذهب إبراهيم أنيس في كتابه (أسرار العربية) إلى عدم النظر إلى معاني الحركات عند الإعراب.
وذهب إبراهيم السامرائي إلى القول بوجود الفتحة ونظام الإعراب في كثير من اللغات السامية.
أضف إلى ذلك أنّ هذه الحركات مسؤولة عن أمن اللبسِ ومَحو الضبابية عن اللفظ، وعن وضوح المعنى المراد، فإن من المهم ملاحظة أن الاعتماد عليها ينفي عن النّحو العربي كل تفسير ظنّي أو منطقي لظواهر السّياق، فهي تجعل مراد المتكلم مقطوعا به لا يداخله الظنّ، كما أنّها تنفي الجدل الذي يمكن أن يثور حول أصالة بُنية بعض الكلمات، وحول قوة العامل أو ضعفه أو تعليله أو تأويله، وغير ذلك مما خاض فيه النحاة وثار حوله جدل كبير قبل ابتداع التشكيل.
وخلاصة القول، إنّما جيء بالتنقيط والتشكيل لتيسير العربيّة على اللسان لفظا، وتيسر سبل المعاني وتمهيدها إلى الأذهان، وجعلها دلالات على معاني الكلمات ومعاني النحو فيها، وهذا يؤكد أن العرب كانوا يبذلون كلّ جهد لتيسير العربية وخدمتها، فكل جهد اليوم لتيسير العربية على الألسنة والأذهان والعقول إنما هو جهد موصول بذلك الجهد الأول، يستحق أصحابه أن يكونوا في قائمة شرف خدمة اللغة العربية التي لن تبلى على مرّ الزمان.