تخيل أن تنقلب حياتك رأسا على عقب بسبب كوب شاي، هذا هو حال بطل مسلسل “غزالي المدلل” (Baby Reindeer) الذي بدأ عرضه على “نتفليكس” قبل أيام، وسرعان ما احتل المرتبة الأولى للأعمال الأكثر مشاهدة في عدة بلدان، محققا 13 مليون مشاهدة بأسبوعه الأول، خاصة أن أحداثه مستوحاة من قصة حقيقية مروعة استمرت لسنوات.
“غزالي المدلل” مسلسل قصير من 7 حلقات يجمع بين الدراما والسيرة الذاتية قصير تأليف وبطولة ريتشارد جاد، وشارك في البطولة كل من جيسيكا غانينغ ونافا ماو وداني كيران وهيو كولز.
حصل المسلسل على تقييم بلغ 8.1 على موقع “آى إم دي بي” الشهير، في حين نال نسبة 100% على موقع “روتن توميتوز”. فما السر وراء هذه الضجة؟
تعاطف أفضى إلى هوس
“غزالي المدلل” مسلسل درامي من بطولة الكاتب والممثل الأسكتلندي الكوميدي ريتشارد جاد، وهو بالوقت نفسه بطل القصة الحقيقية، التي تبدأ حين تدخل مارثا (جيسيكا غانينغ) إلى إحدى الحانات وتشرع بالبكاء، فلا يكون من دوني دان (جاد) العامل هناك إلا أن يمنحها كوبا مجانيا من الشاي تعاطفا معها، وحين يتجاذبان أطراف الحديث تتعلق به وتقرر الذهاب إلى حانته يوميا.
إلى هنا يبدو الأمر عاديا، إذ تُعرف مارثا نفسها كونها محامية لشخصيات مشهورة، ويعاملها دوني مثل أي شخص آخر وإن ظل يقدم لها المشروبات دون مقابل. ما لم يتوقعه أبدا، هو أن تكون امرأة مختلة اعتادت مطاردة الآخرين وحُكم عليها بالسجن فترة جراء ذلك.
وبقدر ما يبدو الأمر طريفا بالبداية أو مُرضيا لغرور البطل الذكوري كون لديه مُعجبة تسعى لحضور حفلاته والذهاب إلى مقر عمله لرؤيته، لكن المسألة تخرج عن السيطرة تماما حين تغزو مارثا عالمه الحقيقي وكذلك فضاءه الإلكتروني وتُرسل له يوميا عشرات الرسائل. وحين يُطالبها بالتوقف مُحاولا وضع الأمور في نصابها الصحيح وإخبارها حدود علاقتهما الحقيقية، تنهار وينفلت زمام كل شيء.
تسعى مارثا لتخريب حياة دوني تارة، وتطارد عائلته وصديقاته من النساء وحتى شركاءه بالسكن تارة أخرى، وحينها فقط يُقرر إبلاغ الشرطة الذين يرفضون أخذ الموضوع بجدية إلا إذا كان هناك دليلا مكتوبا أو مشهودا يُهدد سلامته الشخصية مما يستلزمه عدة سنوات لتحقيق ذلك.
القصة بين الحقيقة والدراما
أبرز اختلاف بين الواقع والخيال، هي أن المُطارِد بالحقيقة كان ذكرا وليس أنثى وأن المُطاردة استمرت 6 سنوات كاملة وهي مدة أطول مما جاء بالمسلسل، وكانت نتيجتها 41 ألفا و71 رسالة بريد إلكتروني، و744 تغريدة، و106 صفحات من الرسائل، و350 ساعة من البريد الصوتي.
وفي حين أن المعجبة المهووسة بالبطل انتهى بها المطاف بالحصول على حكم قضائي بالسجن لمدة 9 أشهر وأمر تقييدي لمدة 5 سنوات، فإن جاد لم يكشف أبدا عن المصير الذي لاقاه مُطارِده الحقيقي.
لماذا أُنتج “غزالي المدلل”
رغم مرور سنوات على الواقعة، فإن جاد ظل غير قادر على تخطي الأزمة، خاصة أنه أصيب بعدها باضطراب ما بعد الصدمة وفقد ثقته تماما بالآخرين على مستوى الصداقة أو الارتباط، مما جعله يسعى لتحويل قصته إلى عمل درامي ولعب دور البطولة بنفسه، رغبة منه بالتعافي أخيرا بعد قيامه بتجريب سُبل مختلفة للعلاج دون جدوى.
ومن أجل الدور فقد الوزن كأحد أعراض معاناته كونه شخصية عصبية تبرز خصائصها وتزداد تهيجا مع مطاردته المستمرة من قِبل البطلة المهووسة وتعرضه لاعتداء سبب له أزمة كبرى خلفت وراءها ندوبا شائكة استمرت معه هي الأخرى.
ولأن القصة حقيقية، شرع المتابعون بمحاولة تخمين الأشخاص الحقيقيين وراء الحكاية، وهو ما أزعج جاد وجعله يطالبهم عبر حسابه الشخصي على منصات التواصل الاجتماعي بالكف عن ذلك، لأنه يؤذي معارفه والمقربين منه، خاصة أن كل التخمينات خاطئة حسب رأيه، قبل أن يستطرد قائلا “من فضلكم لا تتكهنوا من يكون الأشخاص الحقيقيون، هذا ليس الهدف من العرض”.
وقد أكد جاد أنه حرص وبمنتهى الوعي على إخفاء كل ما قد يُشير إلى الشخصية الحقيقية لمطارده، إيمانا منه بأنه هو أيضا ضحية ولم يكن بحالته العقلية السليمة حين ارتكب تلك الأفعال.
والمسلسل ليس العمل الأول الذي يحكي فيه جاد قصته، إذ سبقه عرض فردي ارتجالي لسيرته الذاتية في مهرجان أدنبره الدولي “فرينج” -أكبر مهرجان للفنون الأدائية في العالم- عام 2019.
وأمام نجاحه تحول إلى عرض مسرحي في لندن استمر مدة 5 أسابيع ومن ثم انتقل إلى أحد مسارح نيويورك، وقد فاز العرض بعدة جوائز مثل جائزة “الكتابة الجديدة” وجائزة “الأداء المتميز” لعام 2019، وجائزتي “أفضل تصميم فيديو” و”الإنجاز المتميز في المسرح” لعام 2020.
وهو ما دعا البعض إلى اتهام جاد بالإصرار على تحويل قصته إلى مسلسل تلفزيوني للوصول إلى هوليود والحصول على الشهرة والمشاهدات وليس التعافي كما يدعي، وإلا كان تعافى من العرض المسرحي.
عمل متواضع فنيا
رغم احتلال “غزالي المدلل” المرتبة الأولى للأعمال الدرامية الأعلى مشاهدة على منصة نتفليكس، فإن ذلك لا ينفي تواضعه فنيا على عدة أصعدة، من بينها الحوار والإخراج والموسيقى التصويرية، وإن جاء التمثيل جيدا من البطلين الرئيسيين، فمن جهة أجاد جاد تجسيد شخصية الضحية وما أسفر عن تجربته من اضطراب حاد، سواء المطاردة أو الانتهاك الجسدي.
في المقابل، استطاعت غانينغ لعب دور الفتاة المختلة التي رغم مظهرها الهادئ الشديد الاعتيادية فإنها نجحت بإخافة الجمهور وإصابتهم بالقلق والتوتر طوال الوقت. وهو ما يُعيد إلى الأذهان الدور الذي لعبته كاثي بيتس بفيلم “بؤس” (Misery) لملك الرعب ستيفن كينغ حيث أدت دور معجبة مهووسة بأحد الكُتاب تسنح لها الفرصة باستضافته لديها بعد حادث يتعرض له قرب منزلها، ومن ثم ترفض التخلي عنه وتركه يعود لممارسة حياته الطبيعية حتى ولو كان ذلك سيكلفها ارتكاب جريمة قتل.
أما عن العنصر الأفضل فنيا بالمسلسل فهو دون شك الحبكة ذات السرد الدرامي المثير والمُرعب نفسيا، للدرجة التي جعلت الكثير من المشاهدين ينتهون من مشاهدة الحلقات كاملة في جلسة واحدة عساهم يستطيعون معاودة التقاط أنفاسهم.