“أذن هلال ذي الحجة في المسلمين بالحج فأتوا بيت الله من كل فج عميق، ومن كل قطر سحيق، رجالا وعلى كل ضامر، وفوق كل عائم وطائر، ليشهدوا المؤتمر الإسلامي الإلهي الذي فرض الله شهوده على كل مسلم مرة في العمر، ليؤلف القلوب في ذات الله، ويؤاخي الشعوب في نسب الحق، ويستعرض علائق الناس في كل عام فيوشجها بالإحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضر، وعلى العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوى المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية والمدنية الآلية والمطامع الاستعمارية، فيؤلف منها دعاء واحدا، تجأر به النفوس المظلومة جورا تردده الصحراء والسماء”.
هكذا عبر أديب العربية الكبير أحمد حسن الزيات (1968) في مجلته الشهيرة “الرسالة” عن الحج وفلسفته، ولم يغفل الزيات في مقالته نفسها عن ذكر ما في الحجاز من مآثر خالدة ومعالم ناطقة، فعددها بأسلوب يستدعي مشاعر العزة وأحاسيس الكرامة بالانتماء إلى الإسلام والانضواء تحت رايته، وهيج الفؤاد المشوق حين قال: “إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثرا للفداء ورمزا للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر، وتذكير بالوحدة، هنا غار حراء مهبط الوحي، وهنا دار الأرقم رمز التضحية، وهنا غار ثور منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا هو الشعب وذاك بحر أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني أمية. وتلك هي البطحاء التي يدرج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة”.
وما إن ينقضي الحج ويؤذن مؤذن الرحيل، ويتضلع الحجيج من معانيه كما يتضلعون من ماء زمزم، ويشحنون قلوبهم بطاقة فريدة إثر زيارتهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تتفتت قلوبهم من ألم الفراق، ويقفوا مودعين باكين، ويستبد بهم الشوق كلما نأت الديار وتورات عن أنظارهم.
الشوق إلى مكة المكرمة ولوعة فراقها
يتحدث ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” عن أقدم ما قيل من أشعار في التشوق إلى مكة المكرمة، فيذكر ما قاله مضاض بن عمرو الجرهمي وهو يندب حظه وحظ قومه الذين أخرجوا من مكة، فحين وصل إلى مكة متعقبا إبلا له وقف على جبل أبي قبيس فاستبد به ألم فراقها فأنشد قصيدة طويلة، يقول فيها:
وقائلة والدمع سكب مبادر
وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما
يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
يبدو شوق هذا الغريب المبعد عن مكة راغما طبيعيا في سياقه، فما بالنا بتشوق الصحابة الأوائل لها عندما هاجروا منها إلى المدينة المنورة؟ فقد استبدت بهم آلام الفراق، وزاد من شدتها ما أصابهم من حمى يثرب التي لم يألفوا بعد بيئتها التي تختلف عن بيئة مكة بكثرة مياهها وأشجارها. وقد أثر عن الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه بيتان من الشعر كان ينشدهما عند هجرته إلى المدينة المنورة معبرا عن حزنه وتوجعه لفراق مكة، فقد روى البخاري في صحيحه:
“كان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل”.
ويذكر أن عائشة رضي الله عنها أخبرت رسول الله بذلك فدعا بقوله: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها”.
الركائب رسل الأشواق
تصل الركائب المسافرة إلى أرض المحبوب محملة بالحنين، وتحضر الركائب والمطايا في أشعار الشوق إلى الحجاز بوصفها المخاطب تارة والمخاطب تارة أخرى، فهي الواصف والموصوف، وها هو عبد الرحيم البرعي، الشاعر اليمني شفيف القلب متدفق الوجد الذي عاش في القرن التاسع الهجري وتوفي سنة 1400م، يزفر ألما لفراق مكة وحنينا لها مخاطبا المطي التي تمضي إلى مكة المكرمة محملة بلوعات فراقه إذ يقول:
قل للمطي اللواتي طال مسراها
من بعد تقبيل يمناها ويسراها
ما ضرها يوم جد البين لو وقفت
نقص في الحي شكوانا وشكواها
لو حملت بعض ما حملت من حرق
ما استعذبت ماءها الصافي ومرعاها
لكنها علمت وجدي فأوجدها
شوق إلى الشام أبكاني وأبكاها
ما هب من جبلي نجد نسيم صبا
للغور إلا وأشجاني وأشجاها
ولا سرى البارق المكي مبتسما
إلا وأشهرني وهنا وأسراها
تبادرت من ربا نابتي برع
كأن صوت رسول الله ناداها
وأما سلطان العاشقين ابن الفارض (1235م) فكان لا يفتأ يعبر عن ألم فراقه ولوعته مخاطبا قوافل الراحلين إلى الدار الحجازية، فالحجاز عنده هي دار الخلد التي يصيب مفارقها والنائي عنها شر ما بعده شر، فتراه يقول:
سائق الأظعان يطوي البيد طي
منعما عرج على كثبان طي
عجبا في الحرب أدعى باسلا
ولها مستبسلا في الحب كي
هل سمعتم أو رأيتم أسدا
صاده لحظ مهاة أو ظبي
ذابت الروح اشتياقا فهي بع
د نفاد الدمع أجرى عبرتي
لمنى عندي المنى بلغتها
وأهيلوه وإن ضنوا بفي
دار خلد لم يدر في خلدي
أنه من ينأ عنها يلق غي
أي تعذيب سوى البعد لنا
منك عذب حبذا ما بعد أي
هجركم إن كان حتما قربوا
منزلي فالبعد أسوا حالتي
الوداع بعد الحج.. شوق يبدأ قبل الرحيل
يحضر حديث فراق الحجاج مكة المكرمة عقب انتهاء موسم الحج في قصائد الشعراء متسربلا بالدموع والأشواق والآلام التي تستحكم الأفئدة قبل الفراق ولحظة الوداع، فكيف بحالهم بعده إذن؟
وتعد ميمية الإمام ابن القيم الشهيرة من أشهر قصائد وداع مكة المكرمة عقب انقضاء موسم الحج، فبعد أن ذكر أحوال الحج والحجيج راح يقول:
ولما دنا التوديع منهم وأيقنوا
بأن التداني حبله متصرم
ولم يبق إلا وقفة لمودع
فلله أجفان هناك تسجم
رحلت وأشواقي إليكم مقيمة
ونار الأسى مني تشب وتضرم
أودعكم والشوق يثني أعنتي
وقلبي أمسى في حماكم مخيم
هنالك لا تثريب يوما على امرئ
إذا ما بدا منه الذي كان يكتم
فيا سائقين العيس بالله ربكم
قفوا لي على تلك الربوع وسلموا
وقولوا محب قاده الشوق نحوكم
قضى نحبه فيكم تعيشوا وتسلموا
وأما الشاعر الشيرازي علي خان صدر الدين المدني الهاشمي المعروف بابن معصوم (1708م)، فإنه يعلن لحظة فراقه مكة المكرمة مودعا إياها أنه دفن قلبه فيها، وأنه يغادرها جسدا مثقلا بآلام اللوعة والفراق، ويتمنى لو غادرت روحه جسده قبل مفارقتها، فيقول:
فارقت مكة والأقدار تقحمني
ولي فؤاد بها ثاو مدى الزمن
فارقتها لا رضى مني وقد شهدت
بذاك أملاك ذاك الحجر والركن
فارقتها وبودي إذ فرقت بها
لو كان قد فارقت روحي بها بدني
وما يفتأ الشعراء يطلبون الإبقاء على قلوبهم في مكة المكرمة عند فراقها، فإن قلبا ذاق طعم الحج وتحسس معاني الشعائر في مكة المكرمة، أنى له أن يكون قادرا على الحياة بعد فراقها؟ وقد تعاقب الشعراء على ذكر هذا المعنى في كل العصور، وهو ما يجسده الداعية والشاعر السوري عبد الحكيم الأنيس في قصيدته “لوعة فراق مكة” حين يقول:
اتركوني في أرض مكة يوما
أغسل الهم عن فؤادي الحزين
كم تشوقت والمزار بعيد
وتطلعت من وراء السجون
هكذا وانقضت ليالي وصال
دون أن تنقضي لديها شؤوني
ما دخلنا حتى خرجنا سراعا
ورجعنا للوعة وشجون
وعلى الروح قد أطلت غياثا
نظرات من سرها المكنون
ثم قالوا: غدا نسير فهاجوا
في فؤادي مواجعا من حنين
مكتي مكة الهوى والأماني
أي عين أسلت.. أي عيون؟
ومضى الركب والفؤاد ترامى
ليت شعري فمن لقلب حزين؟
وماذا عن فراق المدينة المنورة وروضة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا يختلف فراق المدينة وتوديعها في قلوب الشعراء عن فراق مكة المكرمة وتوديعها، بل إنه أشد في نفوس الشعراء وزفراتهم من فراق مكة المكرمة لأنه فراق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإليه وإلى روضته الشريفة يهفو قلب كل مسلم في الأرض.
ولكي نفهم ماهية آلام فراق المدينة لا بد لنا من فهم أسرار الإقبال عليها والشوق المتدفق في قلوب زائريها، وقد عبر الشاعر المصري أحمد محرم (1945م) عن ذلك بتصوير حسي جميل ينقل لنا صورة حركية حية لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة واستقبال الأنصار له صلى الله عليه وسلم، فيستحضرها وهو مقبل على زيارة المدينة المنورة فيقول:
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل
يكفيك من أشواقها ما تحمل
طال التلوم والقلوب خوافق
يهفو إليك بها الحنين الأطول
القوم مذ فارقت مكة أعين
تأبى الكرى وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم
أفما يطالعنا النبي المرسل
ما للديار تهزها نشواتها
أهي الأناشيد الحسان ترتل
يتنافس الأنصار فيك وما دروا
لمن المفاز وأيهم هو أول
يا معشر الأنصار هل لي عندكم
ناد يضم النابغين ومحفل
عندي لشاعركم تحية شاعر
يسم القوافي وسمه يتنخل
وبعد معاينة هذا الجمال كله وشهود الجلال والوقوف في حضرة المحبوب، فأي قلب يطيق الوداع؟ وأي أرض يحلو المقام بها بعد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هذا ما عبر عنه الشيخ والشاعر محمد بن أحمد العمري الواسطي (1350هـ) إذ قال:
لأي أرض يشد الرحل راكبه
يبغي المثوبة أو يشتاقه عطن؟
أبعد روضتها الغنا وقبتها ال
خضراء يحلو بعيني مسلم وطن؟
ما غوطة الشام ما نهر الأبلة ما
حمراء غرناطة ما مصر وما اليمن؟
كل المنى في رحاب المصطفى جمعت
دنيا ودينا فما في مثلها ثمن
ما كنت أعرف ما للشوق من أثر
حتى ترحل بي عن ربعها البدن
ومن لوعة الفراق تغدو أمنية المحب أن تكون طيبة مثوى الجسد، وأن يكون البقيع المستقر الأخير، وقد عبر الشاعر السوري حيدر الغدير المتوفى في أبريل/نيسان من هذا العام 2024 عن هذا المعنى أصدق تعبير حين قال:
سامريني في حبها يا خزامى
واجمعي لي من كل روض ندامى
سوف يبقى ما عشت عشقي وتوقي
لا يبالي من عاذليه ملاما
سكنت طيبة فؤادي فأضحى
حيث ولى بحبها مستهاما
جئتها ألبس الخشوع المصفى
مثلما يلبس الفتى الإحراما
بقيت منية تجول بصدري
أن يكون البقيع فيها مقاما
حينما أنطوي فيغدو ثراه
شارة للرضا ويغدو وساما
وإذا فاتني البقيع فروحي
في سناه وإن غدوت رماما
لا تزال لوعة فراق مكة المكرمة ووداع المدينة المنورة تعتصر قلب كل من ذاق القرب، بل إنها مع كل موسم حج تطوف على قلوب المشتاقين فيتجرعون لوعة الفراق قبل أن يذوقوا لذة الوصل، فيصوغها الشعراء بيانا ساحرا ويترجمها غيرهم دموعا مدرارة.
ومن يدري لعل لوعة الفراق هذه تكون شفيع وصل لكل من ذاقها في الدنيا والآخرة.