نال الفيلم الوثائقي المغربي “كذب أبيض” لمخرجته الشابة أسماء المدير النجمة الذهبية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وهو ما كان متوقعا حسب العديد من النقاد والجمهور الذي وقف له طويلا بعد نهاية عرضه.
وهي المرة الأولى التي يتوج بها فيلم مغربي بهذه الجائزة بعد مرور 20 دورة منذ انطلاق المهرجان عام 2001.
وقالت المدير إنها عرضت الفيلم في محفلين دوليين باللغة الإنجليزية والفرنسية، لكنها شعرت بشعور خاص وهي تعرضه في مراكش بالدارجة المغربية، مبرزة أنها لم تتوقع التتويج.
وأشارت إلى أن “كذب أبيض” بدأ تألقه في مهرجان كان، لكن تتويجه الأكبر كان في مراكش.
“عصابات” و”باي باي طبريا”
وبدوره أبهر الفيلمان المغربي والفلسطيني “عصابات” لمخرجه كمال الأزرق و”باي باي طبريا” لمخرجته لينا سوالم؛ عشاق السينما في مراكش ولجنة التحكيم التي منحتهما جائزتها مناصفة.
وتَوجت اللجنة -التي ترأستها الممثلة الأميركية جيسيكا شاستين- الشابة السينغالية راماتا تولاي سي بجائزة الإخراج عن فيلمها “بانيل وأداما”. وقالت راماتا للجزيرة نت بعد عرضه إنها سخرت كل قوتها لهذا الفيلم لإظهار شغف الشباب بحرية الاختيار رغم كل الظروف، واعتبرت أن الجائزة شيء ثانوي بالنسبة لها وأن الوصول إلى قلب الجمهور أكبر من ذلك.
وعلاوة على ذلك فازت آسية زارا لاكومدزيا بجائزة أحسن ممثلة عن دورها في فيلم “نزهة” لأونا كونجاك من البوسنة والهرسك، فيما عادت جائزة أفضل ممثل لدوكا كاراكاس عن دوره في فيلم “المهجع” لنهير تونا من تركيا.
شد الأنفاس
ويشد فيلم “كذب أبيض” أنفاس المتلقي ويشعره بقشعريرة طيلة 96 دقيقة، حين ينقل المشاهد إلى أجواء خاصة من حياة أسرة مغربية بسيطة ارتبطت بأحداث الدار البيضاء الأليمة في يونيو/حزيران 1981، وهي من سنوات الرصاص التي سقط فيها عدد من الشهداء دفاعا عن العيش الكريم.
ورغم أن أبطال الفيلم الوثائقي ليسوا سوى عائلة المخرجة المدير، فإنها وبذكاء مبهر واختيارات تقنية موفقة، استطاعت أن تُخرج من هؤلاء كلهم، خاصة الجدة، أفضل ما لديهم لتقدم للجمهور فيلما عالميا، يصطف إلى جانب الفن الملتزم الذي يسلط الضوء على قضايا إنسانية وينتصر للمظلومين.
وقال الناقد السينمائي المغربي حمادي كروم للجزيرة نت: “إن أسماء مخرجة ذكية، ولها نظرة كبيرة للفن والحياة”، واعتبر أن “الصدق” هو أهم ميزة لما يقدمه أي فنان للجمهور، وهو ما نجحت فيه المدير بشكل مبهر.
وأشار كروم إلى أن تتويج فيلم مغربي آخر هو “عصابات” عنوان كبير لتطور السينما المغربية ولوجود كفاءات أخرى تنتظر منحها الفرصة من أجل التعبير عن نفسها في كل المهن السينمائية ذات الصلة.
وأضاف أن السينما المغربية، استطاعت أن تقدم لجمهورها أفلاما من كل الأنواع، من سينما المؤلف، إلى السينما الجماهيرية، إلى الأفلام التي تراهن على البعد الفني الجمالي، منوها إلى “أن هذا التنوع يخدم مسار تاريخها، لكنها يجب أن تحضر أكثر في مهرجان مراكش”.
جديد المهرجان
لعل أكثر من أثار الانتباه في الدورة الـ20 من المهرجان، علاوة على الحضور المتقدم للسينما المغربية في مختلف الفقرات بل وتتويجها في المسابقة الرسمية، هو تراجع اللغة الفرنسية مقابل اللغة الإنجليزية، وأيضا تسهيل الدخول إلى القاعات باعتماد شارات الدخول الإلكترونية، مع تخصيص فقرة للجمهور الناشئ حضر إحدى عروضها الصباحية أطفال من الحوز ضحايا الزلزال.
وفي هذا الصدد قال الناقد السينمائي المغربي مصطفى الطالب للجزيرة نت: إنه بعد عقدين من العمل والمثابرة أصبحت السينما المغربية ممثلة بفيلمين عوض فيلم واحد، وقد توج كلاهما، وهذا فيه إشارة إيجابية إلى أن السينما المغربية تتطور ولها وزنها رغم ما يعترضها من مشاكل.
لكن الطالب شدد على ضرورة الاهتمام أكثر بالسينما العربية من كل البلدان وتمكينها من الحضور الفعلي، مقارنة مع السينما الأوروبية والأميركية، فالجمهور المغربي عاشق لها.
وأكد الناقد كروم أن السينما المغربية تشهد تطورا كبيرا مقارنة مع السينما في أقطار عربية أخرى، مشيرا إلى الدعم المباشر الذي تحظى به من قبل الدولة، ووجود مدارس متعددة ومتنوعة لمهن السينما، كما أن وضع الثقة في الشباب وتخصيص فقرات -وليس مسابقات- لعرض أفلامهم ومناقشتها وتبادل الخبرات، يمكن أن يغني أكثر التجربة المغربية.
أسماء عالمية
ونظم المهرجان حوارات مباشرة مع مخرجين عالميين، وشكل لقاؤهم مع الجمهور فرصة لإلقاء الضوء على جوانب معتمة من طرق عملهم واختياراتهم الفنية وتعاملهم مع السيناريو والممثلين وأيضا المواضيع التي تحاول أن تخرج عن النمطية وعن النموذج الأميركي السائد.
وأبرز الطالب أن المهرجان ما زال يحافظ على استقطاب أسماء عالمية وازنة تضيف قيمة فنية، كما شكل فضاء فنيا لتبادل الخبرات والرؤى بين السينمائيين المغاربة والدوليين، فضلا عن أنه يمثل فرصة لطلبة المعاهد السينمائية للاستفادة من الورشات واللقاءات مع السينمائيين المحترفين والدوليين.
ومن بين اللقاءات التي شهدت إقبالا كبيرا من الجمهور، الحوار مع المخرجين المغربي فوزي بنسعيدي الذي كُرم أيضا في المهرجان لقاء أعماله المميزة طيلة 25 سنة، والروسي أندري زفياغينتسيف العضو في أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة وفي أكاديمية السينما الأوروبية، واليابانية نعومي كاواسي التي تواصل إنتاج الأفلام في مدينة نارا حيث ولدت وترعرعت، إذ تستوحي حكاياتها من الواقع، وتتخطى أفلامها الحدود الفاصلة بين الوثائقي والروائي، ونالت العديد من الجوائز في أكبر المهرجانات الدولية.
كما كان المهرجان فرصة للقاء ألمع الممثلين، ومنهم الأسترالي سيمون بيكر الذي حظي بنجمته في ممشى المشاهير في هوليود لمساهمته القيمة في الصناعة الترفيهية، والأميركي وليام دافو لمسيرته الفنية الأسطورية التي نتج عنها أكثر من 100 فيلم، فقد اكتسب شهرة عالمية بفضل تنوع وجرأة الأدوار التي لعبها.
بريق السينما
قدم المهرجان نحو 75 فيلما من 36 دولة، لكن لوحظ ضعف إقبال غير متوقع على بعض العروض، خاصة الأجنبية أو لمخرجين مغمورين ومنها أفلام في المسابقة الرسمية.
وعزا الناقد السينمائي عز الدين الوافي في حديث للجزيرة نت ذلك، إلى عدد من الأحداث الدامية التي جرت مؤخرا، سواء زلزال الحوز أو الحرب على غزة.
ومع ذلك قال الوافي إن السينما لها مكانتها وحيزها الثقافي المميز، وإن عشاق السينما سيبقون يتابعون الأفلام سواء في المهرجان أو في منصات أخرى، لكنه تساءل عن وجود هوية حقيقية للمهرجان تعكس أصالته بدل عرض أفلام من كل صوب وحدب.
وأوضح الناقد حمادي كروم أن السينما كان لها دائما ذلك البريق ولا يزال، ولا يمكن أبدا أن تفقده، مشيرا إلى أن المغاربة الآن أكثر “سينفيليا” (الاهتمام العاطفي بالأفلام) من قبل، وأنهم يتابعون الأفلام الجديدة عبر منصات متعددة، بل إن طلبة السينما تجدونهم أكثر إلماما بالسينما من ذي قبل.
وحذر كروم من التنميط في السينما الناتجة عن دكتاتورية السرد التي كرستها التجربة الأميركية، وحذر أيضا من الصور الجاهلة التي تظهر فيما يسميه السينما العامية التي تهدد الجودة، واعتبر أن “الصدق ولا شيء غير الصدق” هو الذي يوصل كل عالم بالفن إلى قلب الجمهور الواسع وعبره إلى الشهرة والعالمية.
آفاق المهرجان
وعن آفاق المهرجان بعد بلوغه “سن الرشد”، يدعو الناقد حمادي كروم إلى تجاوز ما أسماه عقدة الدونية، إذ ترشح ضمن المسابقة الرسمية الأفلام الأولى أو الثانية لمخرجيها، مبرزا أنه حان الوقت لاختيار “الفيلم العظيم” لكل مرشح للجائزة، لأن ذلك سيعطي قيمة أكبر للمهرجان ويصبو به إلى عالمية أكبر، علما أن اسم المدينة وحده وروحها كفيلان بالارتقاء بالمهرجان إلى أعلى المستويات.
كما طالب كروم بإعادة النظر في ورشات الأطلس، إذ يُخشى أن تُهدم الورشات الموجِّهة للإبداع لدى المخرجين الصاعدين وتُفقدهم هويتهم الفنية، بالنظر إلى كثرة الملاحظات والتدخلات في الاختيارات الفنية.
ونبه كروم إلى ضرورة الاعتماد على الكفاءات المغربية في البرمجة بدل اختيار أسماء أجنبية من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وأيضا في مجالات أخرى، إذ يكفي أن نشاهد مثلا وثائقيا للمخرج المغربي حكيم بلعباس لتظهر لنا أصالة الإبداع.
وتأسّف كروم -الذي ينتظر إصدار كتاب “فهم فن السينما”- لوجود بروتوكول صارم لتحرك النجوم والجمهور، مما يجعل اللقاء بينهم شبه مستحيل، في حين لا نجد ذلك في مهرجانات عالمية أخرى، واعتبر أن الفن يحمي نفسه بنفسه، وطالب بأن يُترك الفنان يأخذ “حمام الجمهور” ينعشه ويقويه.
بدوره أشار الطالب إلى نقطة أخرى لا تخلو من أهمية وهي تراجع التوجه الفرنكفوني الذي كان طاغيا على المهرجان لحساب التوجه الأنغلوسكسوني، وهذا يمكّن المهرجان من الحفاظ على عالميته ومنافسته مهرجانات عربية ودولية.
وأشاد بخفض الاحتفالية إلى الحد الأدنى احتراما لما يقع في غزة من مجازر بسبب القصف الإسرائيلي الهمجي، وقال إنه في هذا السياق كان لعرض الفيلم الوثائقي الفلسطيني “باي باي طبريا” أثر إيجابي في الجمهور المغربي والعربي الذي رأى في ذلك تضامنا ضمنيا مع الشعب الفلسطيني.