بين القاهرة وبغداد.. رحلات خيري منصور في الحنين للجغرافيا الحزينة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

سنوات مرت على رحيل الأديب والناقد الفلسطيني خيري منصور (1945 – 2018) الذي ما زال كثيرون يستذكرون إطلالته في صحف عربية ناثرا ثقافة موسوعية في خواطره التي كانت وجبات ثقافية دسمة.

أديب يثقف ويمتع

ويدين كثيرون في ثقافتهم للمرجعيات الكثيرة التي يحيل إليها منصور في شتى أنواع المعرفة في مقالاته ونصوصه ورؤاه النقدية، وليس من مبالغة في القول إن “صاحب “صبي الأسرار” كان كما في كتبه يعلم ويثقف ويمتع.

في كتاب أخير صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حمل عنوان “الجغرافيا الحزينة.. نصوص في نوستاليجيا الأمكنة” يرحل خيري -الذي ودع الحياة عن 73 عاما- ومعه القارئ إلى حنينه لأمكنة سكنها في رحلة تجوال دائم، وهو الذي ولد في قرية دير الغصون قرب طولكرم بالضفة الغربية منتصف أربعينيات القرن الماضي.

يكتب منصور عن مدن كثيرة سكنها، لكنها لم تغادره، على أن بغداد كما يقول مقدم نصوص الكتاب زهير ماجد “سكنته قبل أن يسكنها عاش سلامها وعاشته ويوم دخلت الحرب رويدا إليها كشف قلقه عليها أي حب كانّه لها”.

يضيف ماجد في معرض حديثه عن نصوص منصور أن “الكتاب واحد من عمره الجميل الذي عاشه بين عواصم وأماكن تمتد من الشرق الأقصى إلى المغرب العربي”.

بغداد المستقبل

يكتب عن بغداد وهومن بين كتاب عاشوا فيها وخلدوها في إبداعاتهم كالروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا وروايته عن شارع الأميرات، كذلك الروائي الأردني غالب هلسه وروايته “ثلاثة وجوه لبغداد”.

وفي نصوصه وإن كانت بغداد ليست الوحيدة في جغرافيا منصور الحزينة، فقد كانت كما يقول “في جميع المرات التي كنت أغادر بها مدنا كانت الأشجار والأرصفة والعمارات في طريق المطار تتراجع من نافذة السيارة، إلا بغداد.. كانت الأمكنة وأشجار النخيل وأسوار المقابر متصلبة في أماكنها وأتراجع أنا إلى الوراء لكأنها مستقبل أيضا وكل ما سيلي يفضي إليها”.

في ليلة حرب

يستهل صاحب ديوان “لا مراثي للنائم الجميل” نصوصه عن بغداد في ليلة من ليالي الحرب كاتبا “هاهي طائرات العالم الجديد تعذبنا تقصف نارنا وتقصف كل بصيص نور يلوح لها على الأرض لكي تستحكم بنا الحلكة وتأسر أعيننا أبدية السواد”.

الطائرات تقصف الخبز أيضا والأرغفة تواصل استدارتها ببسالة الشموس والأقمار.

يكتب عن الحرب التي انبثقت من عدمية الغرب المعاصر، ويتساءل في ليلة حرب قاسية -كالتي تمر بها غزة الآن- كيف يمكن أن يقتنع شاعر عربي أفعم قلبه الأسى على جغرافيا بلاده الرسولية والحزينة أن حفيد الشاعر الأميركي والت ويتمان يقضي على أعمال جده المترجمة إلى العربية.

قافية الحضارة

في نصوص منصور التي تبدو أدب رحلات في المكان، إلا أنها تتجاوزه أيضا لتكون أدب رحلة في الإنسان وثقافاته هكذا يحضر الحلاج من زمان بعيد وشاعر العراق الذي يجري محاوراته معه بدر شاكر السياب وسامي مهدي وغالب هلسا وأحمد خلف والشاعر العراقي جان دمو وغيرهم.

يرسم منصور خارطة بغداد أسواقها ومقاهيها “فهي من ألفها المئذنية الساطعة في الورق حتى يائها قافية الحضارة كلها ومسك ختامها وفاتحة الآتين وهي عاصمة من لا عاصم لهم إلا ما تبقى من شواهد السلف الممهورة بدم شجي لا يكف عن الأنين”.

ومنصور لم يكن سائحا في شوارع بغداد وأسواقها ومقهى حسن عجمي بل كان أحد التفاصيل في نسيجها الحي شرب من ماء نهرها ما لا يحصى من المرات وكان في ليالي الصيف هو من يعزف للحجارة حتى تنام وللسيدة أن تصحو.

يرتحل منصور إلى الصين ويسجل يومياته هناك ويعرج على حضارة البلاد وقفزاتها الحضرية والسياسية. ويطوف في البنغال وتثير فيه أحزانها وتقلباتها ومآسيها الشجون.

ويمضي في رحلته إلى الرباط وطنجة بلد صاحب الخبز الحافي محمد شكري، على أن مصر وقاهرتها “العاصمة المصرية تكاد تكون صانعة خيري وطلقة النور الأولى في حيويته ورحلته مع الكتاب”.

القاهرة كبسولة الزمان

في شبابه، وهو الذي ارتحل إلى مصر، يسأله أهل قريته دير الغصون الفلسطينية في أي جامعة يدرس فيجيب “أدرس في جامعة اسمها مصر أتعلم من سائق السيارة وجرسون المقهى وسمسار البيوت والجارة العجوز الطيبة كما أتعلم من أساتذتي وهم من أبرز الأكاديميين في الستينيات”.

وعن القاهرة أيضا تبدو الكتابة -خصوصا في ستينياتها- لفلسطيني مثله محفوفة بمخاطر عديدة فالفلسطيني فيها ليس مستشرقا وليس حتى زائرا أو سائحا إنه من أشواق مبثوثة في أضرحة ومساجد ورؤى ونصوص ودماء وماء وهواء.

والقاهرة أيضا كبسولة الزمان وكيمياء العناصر التي ذوبها عشق آسر في إناء فخاري ترشح مساماته روائح قادمة من بعيد فهي من الأهرامات إلى قصر البارون مرورا بالبوابات التي تفضي إلى جنة مفقودة.

يكتب عن مقاهيها “ريش” والفيشاوي” وتود لو أنك تختصر الزمان والمكان وتحظى بجلسة صاخبة فيها مع مثقفيها نجيب محفوظ وخيري منصور نفسه ومع شعرائها ومفكريها فمقاهيها نبض الحياة.

وينقل عن الروائي الأردني الرحل غالب هلسا قوله عثرت على تعريف دقيق للمنفى إنه “الإقامة خارج مصر” ويمضي في مديح المدينة التي تزدهر في المفاضلة بين عشرات العواصم.

وعن غالب الذي تنقل بين عواصم عربية عديدة ينثر حنينه وشوقه إليه ويختم كتابه المليء بالنوستاليجيا والحنين بالحديث عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في ذكرى وفاته وهو الذي رحل في عام 2008.

وكان يوم رحيله لم يصدق فمجلة الهلال المصرية كانت تهيئ عددا خاصا له والمثقفون كان يعدون له أمسية احتفالية في دار الأوبرا.

عن درويش

ويقول “إنه شاعر أنسن فلسطين وعولمها بالمعنى الكوني للعولمة وأعاد الاعتبار لما هو عادي وأعاد البطولة لمن يستحقونها”.

هناك لكن ليس تماما فله هنا ما يضاعف من سطوع الحضور في أقصى الغياب.

كتاب خيري منصور إضافة إلى دواوينه وكتبه النقدية ومقالاته وهو وإن صنف في أدب الرحلات إلا أنه لا يمكن لقارئه إلا أن يخرج مثخنا بحصيلة معرفية وكم هائل من حزن على أديب فارقنا.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *