بعد مرور 100 عام على نشأتها.. ما قيمة السريالية في الكوارث والحروب؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

يمر هذا العام، 2024، قرن كامل على نشأة المذهب السريالي الذي ظهر عام 1924. قرن كامل مضى ولا تزال الظروف والعوامل التي أدت لظهور واحد من أكثر مذاهب الفن التشكيلي غرابة وجنونا هي عينها، ولا يزال العالم يقف على الحافة نفسها.

الفرق الوحيد، أن العالم إبان نشأة وظهور الفن السريالي كان يعاني الويلات والنتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، وعلى شفا حرب عالمية ثانية، بينما الآن يترقب العالم بخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة.

الغريب أنه عندما نشر أندريه بريتون، بيان السريالية، 1924، بوصفها حركة مضادة للعقل والواقع، كان آنذاك يظن أن ما وصل له العالم من ملايين القتلى وملايين الجرحى بفعل الحرب العالمية الكُبرى، هو أسوأ ما قد يصل إليه الحال. ثم تأتي الذكرى المئوية للمذهب السريالي وغزة تعيش فوق بحر من الدماء. والشرق الأوسط بأسره أشبه بقنبلة موقوتة، والحديث عن حرب عالمية ثالثة بات أمرا مطروحا.

ما الفن السريالي؟

إذا كنَّا بصدد تعريف السريالية، فقد نشأت في باريس في أوائل القرن العشرين، حوالي عام 1924، بقيادة مجموعة من الكتاب والفنانين الذين استكشفوا العقل الباطن كمصدر إلهام رئيسي لفنهم وأدبهم. باعتبارها إحدى أكثر الحركات الفنية تأثيرا في القرن العشرين، كانت السريالية في بعض النواحي استمرارا لحركة دادا.

ظهرت الدادائية خلال الحرب العالمية الأولى، معبرة عن ازدرائها للحرب والمجتمع الأوروبي، الذي اعتبرته بلا معنى. اشتهر فنانو الدادائية بأن شعارهم هو “ضد الفن أو لا للفن”، وسلّطوا الضوء على العبثية والجنون الذي غرقت فيه أوروبا إبان ذاك. وكرد فعل على الحروب المستمرة، تبنت الحركات اللاحقة للدادئية وأعمالها الفنية مواقف أكثر تصادمية ضد الحرب وتصاعد أزمة المعنى.

وتضاءل نفوذ الدادائية مع الوقت، ربما لأنها كانت تعكس بشكل دقيق للغاية قبح وجنون العالم، وهو الأمر الذي لم يكن كثيرون على استعداد لتقبله. ومع ذلك، زرعت الدادائية بذور حركة أكثر خيالية وأقل قسوة، وهي السريالية/الفوق-واقعية، الحركة التي اعتبرت أن استكشاف العقل الباطن وأحابيل اللاوعي وقدرته على تخليق الوهم وقيادة البشرية نحو الجنون هو المصدر الحقيقي للإلهام.

لماذا اللاوعي مصدر للإلهام؟

يعبر رائد السريالية، الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896-1966)، في بيانه الأولي عن الحركة عن أن الهدف من السريالية هو مزج الوعي مع اللاوعي، فانصهارهما هو ما سيقود الناس إلى عالم “الحقيقة المطلقة”. كما عرَّف السريالية بأنها “عفوية الروح في أنقى صورها” حيث يعبر الفرد، وفقا لبريتون، من خلال الكتابة أو أي شكل آخر من أشكال التعبير، عما يختمر في ذهنه.

قدم بريتون مصطلح “فوق الواقعي” لوصف عمل فني يدمج صورا خيالية مع عناصر واقعية، ويكشف في النهاية عن “الحقيقة المطلقة.” وبالتالي، حث بريتون الكتاب والفنانين على الاستفادة من اللاوعي باعتباره مصدرا حقيقيا للإلهام. فهل كان بريتون ومن اتبعه من السرياليين على حق؟

تجيب الباحثة جاريت لبلين عن هذا السؤال بأن السريالية كانت بمثابة مرآة تعكس الجنون السائد الذي اجتاح العالم بعد حرب عالمية مدمرة أودت بحياة الملايين. وفي إطار البحث عن المعنى في أعقاب ذلك، استحوذت حالة من عدم اليقين المثير للقلق على العالم الحديث. ظلت الأسئلة حول جوهر الوجود والأسباب الكامنة وراء الانحطاط الأخلاقي للإنسانية قائمة دون الإجابات الميتافيزيقية التي كانت توجه الأفعال والغايات ذات يوم.

يتفق مع لبلين الباحث جيمس كليفورد، والذي يرى أن المعتقدات التقليدية، حين سقطت في الغرب، انكمش الناس وتحولوا إلى دواخل أنفسهم، مستكشفين أعماق وعيهم ليفهموا العالم من خارجهم. يتجلى هذا التحول في تعامل السرياليين مع اللاوعي باعتباره قوة متعالية، أقرب إلى إله ميتافيزيقي، قادر على إضفاء معنى على العالم والكشف عن “الحقيقة المطلقة”، كما وصفها بريتون.

A giant pipe with flowers. in the interior yard of City Hall, Brussels, Belgium, Friday Aug. 11, 2023. The floral art was inspired by Belgian surrealist artist Rene Magritte’s “This is not a pipe”. Belgium has a century-old fling with surrealism and is always proud to flaunt it. This year they're combining it with an annual flower show in Brussels. (AP Photo/Mark Carlson)

ما قيمة السريالية في عام 2024؟

المتبحر في بحر تاريخ الفن يجد أن الإشكاليات والظروف المحيطة بنشأة الفن السريالي هي نفس الظروف الراهنة بعالم اليوم. هذا ما يؤكده مارك بوليزوتي، الذي نُشر كتابه “لماذا السريالية مهمة” (Why Surrealism Matter) في يناير/كانون الثاني 2024، والذي يرى أننا في عالم لا يختلف عن العالم الذي ظهرت فيه السريالية. لقد خرجنا لتونا من جائحة كورونا، وهناك أسئلة عن الإصلاحات في عالم العمل ومكافحة الاستعمار وإستراتيجيات المعارض في عالم الفن. وكانت هذه الأمور هي عينها التي كانوا يتصارعون معها أيضا.

وتتفق معه في هذا الرأي، باتريشيا ألمر، أستاذة تاريخ الفن بجامعة إدنبره، إذ تقول إن “الطبيعة التحويلية للسريالية هي التي تجعلها ذات صلة. السريالية سياسية بطبيعتها. لقد بدأت كحركة احتجاجية وطريقة لمواجهة الفاشية والاستبداد، ولهذا السبب لا يزال من الممكن أن تكون سلاحا سياسيا قويا للغاية حتى يومنا هذا. وسوف تكون ذات صلة دائما. أود أن أقول إنها حركة مستقبلية”.

ربما تشرح وجه نظر ألمر تلك لوحة لرائد السريالية الرسّام البلجيكي رينيه ماغريت، في لوحته الشهيرة “غشّ الصورة|هذا ليس غليونا” قدم ماغريت صورة لغليون وكتب أسفل منها هذا ليس غليونا. فقوض بذلك العلاقة بين الصورة والمعنى المكتوب أسفل منها. وربما لهذا السبب بالذات قد يكون كلام ألمر عن أن السريالية ذات صلة بالواقع المعاصر، بل ومستقبلية، كلاما صحيحا.

فالعلاقة بين لوحة ماغريت المرسومة عام 1929، والعالم المعاصر بكل ما فيه من وسائل إعلامية محايدة أو غير محايدة ووسائل تواصل وبحور الصور التي يغرقنا فيها الإنستغرام، أوثق وأدق من علاقة الصورة بإشكاليات العالم حين رسمت فيه، أي في العقد الثالث من القرن العشرين.

ويصف ماغريت لوحته قائلا “هذا ليس غليونا”. ويضيف أنه إذا كان قد أطلق عليه اسم الغليون، فسيكون ذلك كذبة. بدلا من ذلك، اللوحة هي “صورة” لغليون، مجرد صورة لغليون. الصورة ليست كالغليون الحقيقي، بل مجرد رمز. وجهة نظر ماجريت هي أن الرمز أو الصورة لا يمكن أن يكونا نفس الشيء الفعلي. لا يمكن التعبير بشكل كامل عن الشيء الحقيقي، كما هو موجود في العالم، من مجرد صورة له. فالصور التي تظهر في الأخبار، نبحر فيها على إنستغرام، نشتهيها على تويتر، ليست سوى صور لا تعني البتة حقيقة الأشياء كما هي على أرض الواقع.

A gallery assistant poses by an artwork titled 'Composition' by Fernand Leger ahead of "20th / 21st Century and Art of the Surreal Evening Sale" auction at Christie's in London, Britain, February 23, 2022. REUTERS/Tom Nicholson

هذا العام 2024، يمر 100 عام على ظهور وصعود المذهب السريالي، ظهر عام 1924، ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أن السريالية قد انقضى عليها 100 عام فانطفأت شعلتها. بل بالأحرى، لا تزال تتغذى السريالية حتى اليوم على نفس الإشكاليات والتحديات والوجودية التي أدت لظهورها، وربما لهذا السبب بالذات لا تزال السريالية معاصرة، بالرغم من مرور 100 عام.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *