شهد شهر رمضان الكريم تصدر أعمال درامية عديدة في المغرب، كما يتولد عنها دوما نقاش مجتمعي حول كيفية تجسيد الأعمال الدرامية لحياة المغاربة وواقعهم، إذ يتم كيل المديح لبعض الأعمال الدرامية، في حين يتم وصم بعضها الآخر من الإنتاجات بالضعف، فما العدسة التي يجب أن ننظر من خلالها للأعمال الرمضانية، هل من عدسة القيمة الفنية أم أن العمل الدرامي ينتظر منه أن يقدم حمولة معرفية وتاريخية وقيمية تساعد على نقد أخطاء المجتمع من أجل تنميته وتطويره؟
ومن أجل فهم طبيعة المشهد الدرامي الذي يغذي الساحة المغربية في الزمن الرمضاني، تحاور الجزيرة نت الناقد السينمائي المغربي الدكتور الحبيب الناصري وهو أستاذ باحث متخصص في النقد السينمائي، ورئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، فإلى الحوار:
-
ما تقييمك للأعمال الدرامية الرمضانية في المغرب؟ هل هناك إضافة درامية أم أن أغلبها حبيس التكرار؟
سؤال التقييم، سؤال يجعلنا نتوقع ضمن خانة إصدار أحكام، كقولنا هذا عمل جيد، وهذا عمل متوسط، وهذا عمل ضعيف، إلخ. وفي اعتقادي، فأحكام مثل هذه، تجعلنا لا نخدم أعمالنا المقدمة في التلفزيون أو السينما أو المسرح، إلخ. بل أكثر من هذا سنسقط في فخ الأحكام التي تنتشر في الوسائط الاجتماعية، ووفق الأهواء والمواقف الشخصية، وغيرها، وإن كان هذا يندرج ضمن حرية التعبير، دون التجريح، بطبيعة الحال، أي موقف شخص معين مع أو ضد عمل درامي تلفزيوني ما.
سؤالك، سيدي الفاضل، سؤال مهم، ومن الممكن أن نولد منه سؤالا آخر، وهو، هل نخضع أعمالنا للتشريح ضمن سؤالين علميين وهما: ماذا يحكي هذا العمل الدرامي التلفزيوني؟ وكيف يحكي هذا العمل الدرامي قصته؟. معظمنا يتخندق ضمن السؤال الأول، وهو سؤال، مع الأسف وقائعي-حدثي، من خلاله نحكم على عمل درامي معين، ومن هنا، من فهم ضجة ما يجري، لأن المتلقي البسيط والعادي، لا يفقه في المجمل إلا السؤال الأول وهو سؤال له قيمة محدودة، بينما السؤال الأهم، والذي يسهم في التربية البصرية والذوقية، ويربي المتفرج ثقافيا وإنسانيا، هو كيف يحكي هذا العمل الدرامي قصته؟. هنا نكون أمام مكونات من قبيل الزمن والمكان والشخصيات كشكل فني (وليست كما هي في الواقع) والحلم والرؤيا الفنية (وليس الرؤية)، ولغة الحكي. وهل العمل قابل للتأويل، بل هل العمل مولد للعديد من تجليات التأويل، إلخ؟.
طبعا كل هذا مشروط بطبيعة المتلقي وخلفياته الثقافية، وموقع الصورة ضمن منظومة التعليم والتربية. هذا ما هو مغيب، وبالتالي تبقى أحكام القيمة، هي المهيمنة، هنا وهنا، حد التطاحن بين الناس، دون طرح الأسئلة العميقة والنوعية، وهذا رهان لن يتحقق دون جعل المدرسة تهتم بشق كيف يحكي أي عمل فني قصته؟. رهان إن لم ندخله للمدرسة، لتسهم وترسخ ثقافة الوعي البصري-الجمالي، سنظل نطرح الأسئلة نفسها كلما حان رمضان. بل من الممكن سيدي الفاضل أن تحافظ على الأسئلة نفسها لطرحها علي، أو على شخص آخر حينما يحل رمضان سنة 2025 بحول الله. وهذا ما من الممكن ملاحظته وبكل بساطة كلما حان شهر رمضان.
-
في السنوات الأخيرة أصبحت المسلسلات التاريخية الدرامية تلجأ إلى “الدارجة” (العامية) بدل اللغة العربية الفصيحة التي ألفناها في الأعمال التاريخية، كيف ترى هذه الانعطافة؟ وما آثارها؟
ما طرحته في جوابي السالف له صلة قوية بهذا السؤال. في مصر الشقيقة والعزيزة يقولون قولتهم المشهورة وهي “الجمهور عايز كذا”. التلفزيون والبحث عن “البوز” يطرح اليوم أكثر من سؤال على المنتجين، لاسيما القنوات العمومية، التي وجب عليها، ووفق واجبها العمومي، تقديم خدمة عمومية ثقافية ترقي المتلقي-المواطن في ذوقه وثقافته البصرية، عوض التنافس مع القنوات الخاصة في هذا “البوز-البؤس”. وفق هذا نتساءل حول المسلسلات التاريخية المقدمة، ما الهدف منها؟. هل الهدف هو تنمية ذاكرة المتلقي التاريخية واللغوية؟ أم الهدف هو جر المتلقي لنسب المشاهدة؟.
ثم ما طبيعة المسلسلات التاريخية المقدمة؟ ما إطارها الزمني؟ هل إطارها قديم ومن هنا وجب مراعاة مكون اللغة؟ أم إطارها معاصر لنا، من الممكن “المغامرة” بالدراجة المغربية؟. ثم هل نحن أمام دارجة مغربية واحدة في وطن يمتد من طنجة حتى لكويرة؟ أم أننا أمام مجموعة من الدارجات المغربية (كل منطقة لها دارجتها المولودة من تربتها المحلية الاجتماعية، بما فيها الحمولات الجديدة وليدة مفاهيم العصر الجديدة..؟. فمن يسكن في الشرق قد يوظف كلمة مخالفة عمن يسكن في الشمال أو في الجنوب أو في الغرب، إلخ؟. وهل هنا من الممكن الرهان على دارجة وسطى قد تفك الإشكال؟ وهل هذا من الممكن أن يتحقق خارج العمل الجماعي والجامعي والبحثي الذي من الممكن أن يسهم في تجاوز هذا الإشكال؟. الأجيال القديمة تربت في حضن التاريخ واللغة العربية الفصحى، لاسيما حينما يتعلق الأمر بمسلسلات تاريخية لها صلة بموضوعات تتعلق بالأندلس (كمثال)، أو بحقبة تاريخية مضت.
لكن إذا كانت المسلسلات التاريخية تقترب من موضوعات تاريخية شعبية، فهنا من الممكن توظيف الدارجة المغربية التي لها صلة بموضوع هذا المسلسل التاريخي الثقافي الشعبي المحلي.
-
ولنظل في الأعمال التاريخية، عند صدور أي عمل درامي تاريخي، يبدأ البعض بتسليط ضوء النقد على ما يعتبرونه “مغالطات تاريخية”، هل من أدوار العمل الدرامي التاريخي التحري الدقيق للتاريخ؟ وهل المسلسلات مصدر لبناء خلفية تاريخية صحيحة للمشاهد؟
سؤال بدوره جوابه مرهون بما طرحت في الجواب الأول. ما زالت المدرسة، وبشكل عام، في العالم العربي ككل، وليس فقط في المغرب، بعيدة عن التوظيف النوعي للصورة في بناء التعليمات. إنه السبب الرئيسي في جعلنا نقرأ كل الأعمال المقدمة في التلفزيون وفي السينما، انطلاقا من الواقع دون الوصول إلى مرحلة التعامل مع العمل الفني كعلامة لغوية-فنية، انطلقت من الواقع، لكن أصبحت مستقلة بذاتها، على الأقل أثناء القراءة.
وهذا ما يجعل الناس والمؤسسات والأفراد يقارنون ما يقدم بما جرى أو بما يجري. هذا من عمل المؤرخ الذي حينما يؤرخ لمرحلة معينة، ومن خلال الوثيقة التي بين يديه، من الممكن أن نسأله ونناقشه، وفق الوثيقة. لكن المخرج أو كاتب العمل التلفزيوني أو السينمائي، أو المسرحي أو الروائي، له هامش واسع من الممكن أن يعيد من خلاله، ما وقع تاريخيا، وفق رؤيته الفنية والجمالية. هي رؤية تعكس ما راكمه بصريا وفنيا وثقافيا. من هنا وجب علينا، ونحن نشاهد مثلا عملا تاريخيا، أن نركز على السؤال التالي: كيف حكى لنا هذا العمل التاريخي؟.
علينا، وفي اعتقادي، ألا نخلط بين دور المؤرخ والسيناريست والمخرج. طبعا لكي نصل لهذه المرحلة علينا أن نربي الأجيال الجديدة على ثقافة الصورة. فهل من الممكن تحقيق هذا في مجتمعات ما زالت تناقش هل الصورة حلال أم حرام؟، في عصر هو عصر الصورة، بل في عصر آت سيصبح فيه الأمي هو غير القادر على تفكيك دلالات الصورة عوض أن تكون الأمية هي حالة من لا يقرأ ولا يكتب. هنا كم من أمي سيصبح في عالمنا العربي؟.
-
هناك بعض الأعمال أحدثت ضجة، بخصوص ما تم اعتباره من طرف شريحة مهمة إنها إهانة لـ”رجال ونساء التعليم”، هل ترى أن الأعمال التلفازية والسينمائية يجب تقيم حمولتها القيمية؟ وهل تؤثر على معتقدات المشاهد؟ أم النقد يجب أن يكتفي على الحمولة السينمائية والدرامية؟
هنا من الممكن أن نتساءل، ومن خلال هذا السؤال، كالتالي: هل العمل الفني ينبغي أن يستقل بذاته، وبالتالي وجب تحليله كعلامة فنية مستقلة بذاتها من خلال سؤال “الكيف؟” عوض سؤال “لماذا؟” أم لا بد من إحضار الواقع للبحث في كل عمل فني قدم لنا؟. حرية الفن تضمن تشغيل الواقع، كمنطلق، ومن بعد، لابد، ووفق ما تعلمناه من علوم المناهج، من”قطع” الصلة مع هذا الواقع، وتقديم العمل للمتلقي لكي يتلقاه ويقوم بتأويله، وفق مرجعياته المنهجية والثقافية ككل. الاحتجاج هنا، وليد الرؤية “المقدسة” للمدرس وللفقيه، إلخ. فهل هذا يعني أنه علينا أن نبتعد عن جميع المهن في العمل الفني؟. طبعا لا. الفنان حر في كتابة عمله وإخراجه، والمتلقي أيضا حر في تفسير وتأويل هذا العمل، لكن بأدوات فنية راقية بعيدا عن التدافع “الواقعي” الذي علينا أن “ننساه” ولو بشكل مؤقت، ونحن نتابع عملا فنيا ما.
السؤال الذي يجب طرحه أيضا على هذه السلسلة، وغيرها، هو هل هذا العمل غني بصريا وذوقيا وثقافيا، لكي نولد منه العديد من الدلالات، ومن خلال العديد من القراءات؟. بل سوسيولوجيا، لماذا قدم المدرس وفق تلك “الرؤية”؟. أو ليست هي خلاصات تمثلات أفرزها المجتمع عن المدرس؟. ثم ما طبيعة الرؤية الشكلية الحاضرة في هذا العمل؟ هل يرقى للتأويل أم هو عمل “تقريري” مباشر وبعيد كل البعد عن إمكانية تأويله بصريا وذوقيا وفنيا وثقافيا؟.
نحن في أمس الحاجة إلى هذا النوع من الأسئلة، عوض الاحتجاج الفردي والنقابي والجماعي والفيسبوكي. كيف لمجتمعنا المغربي، وكل مجتمعاتنا العربية (لأننا نتشابه في كون الصورة تحرجنا) غير قادر على أن يسمح للفنون أن تشتغل على المسكوت عنه، وجعله مادة ترى في المرآة، لنبحث عن القبض عما هو جمالي فيه وعميق الدلالات، بل التعامل معه كمتن بصري قابل للتفكيك وفق رؤى منهجية ونقدية وعلمية إنسانية بحثية متعددة..؟
-
في الوقت الذي ينتقد فيه شريحة مهمة من المغاربة عددا كبيرا من الأعمال الكوميدية نالت بعض الأعمال الكوميدية المستقلة (التي لا تمر في التلفاز العمومي)، إشادة كبيرة هل هذه الإشادة بسبب مناقشة السلسلة لمواضيع جريئة؟
شخصيا، وكباحث في بعض الفنون، بشكل عام، وفي الصورة بشكل خاص، لا أنساق مع الكم. وإن كان الكم علينا دراسته وتحليله وفق رؤى منهجية متعددة، ووفق علوم إنسانية متعددة، كعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها. من الممكن أن نجد عملا فنيا لم تشاهده إلا نسبة “ضعيفة” جدا لكنه جماليا، له القدرة على مواجهة محو الزمن، وهو المحو الذي يمحو العديد من الأعمال التي قد تحقق نسبة مشاهدة عالية.
ما طرح في “سي الكالة” هو متنفس نفسي للمتلقي الذي من خلاله تفاعل هذا المتلقي-المواطن، مع هذه السلسلة، لأنه رأى فيها جانبا معاشا في الواقع كما قدم. هنا نعيد طرح السؤال المعقد والصعب، هل الفنون عليها أن تحاكي الواقع كما هو؟ أم عليها الانطلاق منه، وتحلق بشكل مستقل، بل عليها أن تؤسس واقعها الفني والجمالي المستقل والقابل للعديد من القراءات؟. يؤكد الشاعر أدونيس أن كل عمل “جماهيري” هو عمل خارج معيار الفن والجمال حتى ولو كان شعره هو الآخر شعرا جماهيريا؟. بمعنى أن العمل الفني الجماهيري، هو عمل غير مفيد جماليا وإبداعيا وتجديديا.