أعلنت لجنة تحكيم جائزة الكتاب الألماني لعام 2024 مؤخرا عن القائمة القصيرة المرشحة للفوز بجائزتها الأدبية الأهم.
وتضمنت القائمة القصيرة 6 روايات تمّ اختيارها من بين 180 رواية، صدرت عن 106 دار نشر، لكاتبات وكتاب من الدول الناطقة بالألمانية. على أن يُعلن الفائز هذا العام بجائزة تبلغ قيمتها المادية 25 ألف يورو، خلال افتتاح معرض فرانكفورت الدولي القادم للكتاب في 14 أكتوبر/تشرين الأول.
20 عاماً
وفي الوقت الذي تجهّز فيه هيئة جائزة الكتاب الألماني الاحتفال بمرور 20 عاماً على انطلاقها (2005) أعلنت لجنة التحكيم، في 20 أغسطس/آب عن القائمة الطويلة التي ضمت 20 رواية لكاتبات وكتاب من ألمانيا (15 رواية) والنمسا (3 روايات) وهناك روايتان من سويسرا، وعدم ترشّح أي عمل من لوكسمبورغ وليختنشتاين. وهذا ما سبب انتقاداً للجنة التحكيم حال إعلان الروايات الواصلة للقائمة الطويلة، والتي ستؤثر، كما في كل عام، في سوق نشر وبيع الكتب. إذ رأت بعض الأصوات أن ذلك “انحياز واضح لما يُنشر داخل ألمانيا، ومن دور النشر الألمانية، وقد يدل ذلك على عدم الانتباه الكافي، من قبل لجنة التحكيم، لما يُنشر خارج ألمانيا”.
ولكن هذا النقد ليس في محله، إذ إن الكتاب ودور النشر يقومون بترشيح أعمالهم، ولا تقوم لجنة التحكيم بالبحث عن الأعمال الجيّدة والتي تستحق نيل الجائزة، بل تقوم بقراءة ما يصلها من الترشيحات، وتعطي رأيها في الأعمال التي ستكمل طريقها إلى القائمتين الطويلة والقصيرة.
وكان النقد الآخر عن هيمنة دور النشر الكبرى، وحصتها الكبيرة ضمن القائمة الطويلة هذه، وبالتالي خسارة متوقعة لدور النشر الأخرى، بسبب استبعاد الأعمال المرشحة من قبلها، وتأثير ذلك في سوق النشر.
إذ رأى البعض أن دار روفولت، التي نالت العام الماضي جائزة الكتاب الألماني عام 2023 عن رواية “العمر الحقيقي” للكاتب تونيو شاخنجر، وصل من منشوراتها لهذه القائمة 4 روايات، و3 روايات صادرة عن دار كليت كوتا، وروايتان عن دار زوركامب ومثلها عن دار كارل هاينريش بيك ودار فيشر ودار هانزر، أي 15 رواية من أصل 20 رواية، وهي نسبة كبيرة جداً لم تتكرر الأعوام السابقة.
وقد رد أحد أعضاء لجنة التحكيم بأن “الناظم الأساسي للأعمال المرشحة” للقائمة الطويلة هو “جودة النص وحداثته وابتكاره” واستطرد بأنهم لا ينظرون “أبداً لاسم دار النشر واسم الكاتب” وهو “ما يجب أن يحصل في تحكيم كل الجوائز المحترمة”.
والروايات الست التي أكملت طريقها إلى القائمة القصيرة هي “أربعة وسبعون” للكاتبة الألمانية الإيزيديّة رونيا عثمان (1993) الصادرة عن دار روفولت، و”هاي، صباح الخير، كيف حالك؟” للكاتبة الألمانية مارتينا هفتر (1965) عن دار كليت كوتا، و”هازن بروزا” أو “سرد/نثر الأرانب” للكاتبة والمترجمة الألمانية مارين كاميس (1984) عن دار زوركامب، و”التزامات” للكاتبة الألمانية إيريس فولف (1977) عن دار كليت كوتا. وكذلك “بروجكتورات” للمسرحي والسيناريست والروائي الألماني كليمينس ماير (1977) عن دار فيشر، و”من الشمال يتدحرج الرعد” للكاتب الألماني ماركوس تيلمان (1992) عن دار كارل هاينريش بيك.
مسارات مختلفة
وهذا يعني أن عدد الكاتبات في القائمة القصيرة كان أكثر من عدد الكتاب 4 كاتبات مقابل كاتبين، وهو ما حصل في القائمة الطويلة 13 كاتبة و7 كتاب، ويعني كذلك خروج روايات النمسا وسويسرا من السباق، وبقاء الروايات الألمانية فحسب.
وبمراجعة سريعة للروايات الست نجد أنها تذهب في مسارات مختلفة، من حيث الموضوع والزمن ونوع الرواية، فرواية “أربعة وسبعون” تحكي عن الإبادة الجماعيّة التي لحقت بالإيزيديّين في كردستان العراق على يد تنظيم “داعش (تنظيم الدولة” في 3 أغسطس/آب 2014، وذلك في نص طويل تراجيديّ مبنيّ على شهادات بعض الناجين من أهلها وأبناء القرى هناك. وسبق لهذه الرواية أن استقبلت بحفاوة كبيرة من النقاد، ونالت جائزة مدينة دوسلدورف الألمانية التي تبلغ قيمتها المادية 20 ألف يورو.
وخلال 500 صفحة تستفيد رونيا من تقنيات عملها في الصحافة واهتماماتها السينمائيّة، فجاءت الرواية على شكل ريبورتاج صحفي طويل، اعتمدت فيه على مقابلات أجرتها مع عدد من الناجين من تلك المذبحة التي أدت إلى مقتل ما يزيد عن 5 آلاف شخص، ونزوح 200 ألف شخص، واختطاف ما يقارب 6500 امرأة ورجل.
ما كتبته رونيا هو “رواية وثائقية ميدانية” فقد اعتمدت في كتابتها، إضافة لما سبق، على محاضر وضبوط الشرطة المحلية والدولية، وتقارير الأمم المتحدة ووزارات الداخلية في كردستان العراق وتركيا، وعلى محاضر أقوال الشهود والمحققين في جلسات المحاكمات التي جرت في العراق وتركيا وألمانيا.
وقالت لجنة التحكيم في تقريرها بأن رونيا مزجت “بشكل مثير للإعجاب بين الأنواع والأشكال السردية-تقارير السفر، وتقارير المحكمة، والاستطرادات التاريخية، والسيرة الذاتية” وبأنها تنخرط بشكل متكرر “في البحث عن الذات الشعرية” من خلال وصف الرعب والتنكيل الذي أصاب الضحايا “من دون استغلال الضحايا سردياً”. واستخلصت بأن “أربعة وسبعون” رواية “وثائقية فريدة من نوعها عن الإبادة الجماعية المعاصرة ومسألة كيفية الحديث عنها”.
الحياة الحقيقية والحياة الجانبيّة
تأتي “هاي، صباح الخير، كيف حالك؟” للكاتبة الألمانية مارتينا هفتر كرواية واقعيّة عن شخصيّة “يونو” وهي فنانة، تتحدّث عبر الإنترنت مع أشخاص يعبرون عن حبّهم لنساء دون معرفة واقعياً. وبدل أن تقع يونو في هذا الفخ الافتراضيّ وأكاذيبه، تشعر بأنها صارت تملك “حرية الاختيار” لشخص معين، وحرية إخباره عن حياتها ومشاعرها، وعلى النقيض من حياتها الشخصيّة القلقة، والتي تقضيها متنقّلة بين العمل، وواجبات الحياة اليوميّة والاهتمام بزوجها المريض “جوبيتر”.
وفي حياتها الحقيقيّة تظهر يونو مشغولة ومتوترة وقلقة، ولا تملك حرية اختيار أي تفصيل فيها، لذلك تلجأ إلى “الشات” وتنخرط، رويداً رويداً، في لعبة الأكاذيب التي تشاع في “الحياة الافتراضيّة” حتى تتحدث وتلتقي بشخص اسمه “بينو” وتتغير حياتها الحقيقيّة كذلك.
ورأت لجنة التحكيم أن مارتينا هفتر تحكي في روايتها عن “صراعات يونو بطريقة مثيرة للإعجاب قريبة من الحياة اليومية وتأملية، حكيمة وشاعرية، رقيقة وغير عاطفية”.
أما رواية “سرد الأرانب” فتخرج من خلالها، وبها، كاميس من الواقعيّة إلى الفانتازيا، جاعلة أحد الأرانب قادراً على تخطي الأزمنة، والعيش في عصور مختلفة، كما في “أليس في بلاد العجائب” مستخدمة طرقا سردية متعددة، تناسب الواقعية السحرية والفانتازيا والسخرية والحكمة والجدية.
ورأت لجنة التحكيم بأنها رواية “رائعة وغريبة” وبأن كاميس تميّزت باستخدامها “الموهوب لتوابل الكلمات، وسلسلة صورها السلسة، وذكائها اللامع جاعلة هذه الرحلة المميزة تتجذّر في ذهن القارئ، وتجعل المرء، من جهة أخرى، يشعر بالبهجة”.
الشغف والسياسة
تبدو “من الشمال يتدحرج الرعد” لماركوس تيلمان وكأنها رواية واقعية وبسيطة عن حياة يانيس (19 عاماً) وهو يقود قطيع أغنامه، كما فعل والده وأجداده منذ عقود طويلة، إلى المروج، ويلتقي هناك بامرأة تكسر حياته المملة.
ولكن سرعان ما تظهر السياسة وصراع الأيديولوجيا، حيث “الذئب ليس هو الخطر الوحيد على الأغنام” مازجاً الخطر المحدق بأغنامه والأخطار المحدقة بالبشر “حملان الله” طارحاً أسئلة عديدة عن معنى الهويات والاختلاف وضرورته، ومنتبهاً لسؤال كبير “هل يبرّر الحفاظ على الأمن الداخلي كل هذا العنف الذي يطارد حياة الناس؟”.
“رواية مناهضة للتقوقع في المحليّة، وكثيفة في فضاءاتها، وممتلئة لغوياً” على حد تعبير لجنة التحكيم التي رأت أن السرد فيها “يجري ببطء وحذر، مع الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة عن الطبيعة وأنماط الحياة، وعن التشابكات بين المثالية والأيديولوجيا، وعن المخاطر التي تكمن في الصمت والقمع”.
وفي “بروجكتورات” أو أجهزة العرض، يعرض ماير أحداث وشخوص روايته هذه بشكل مسرحي وسينمائي سريع وجذاب، ويتنقل بين الأماكن والأزمنة بشكل مثير وسلس، من لايبزيغ إلى بلغراد، من جمهورية ألمانيا الديمقراطيّة إلى جمهورية يوغسلافيا الشعبيّة. وعن “حاضرنا الذي حطمه الماضي” يتحدث ماير عن حروب قديمة، وسياسات قديمة، وحروب جديدة وأيديولوجيات مدمّرة، وكذلك يناقش أفلاماً صورت تلك الحروب، ونقاشات جرت بين شباب ثائرين تبدّدوا تحت آلة العنف، وعدم الاعتراف بالآخر.
ورأت لجنة التحكيم العديد من الميّزات السرديّة والبنائيّة في هذا العمل، وبأنه من “المثير للإعجاب هي الروابط التي صنعها الراوي بين شخصيات دائمة التنقّل بين الأمكنة والأزمنة”. وبأن ماير قدّم الكثير من “قصص المغامرات وقصص الحب داخل تلك القصة الأساسية، مبدعاً في أسلوبه وتقنياته في الحوارات والمونولوجات” بل وصلت لحد وصف هذه الرواية بأنها “حدث أدبيّ”.
تقاطعات
كان “ليف” في سن الـ11 عندما مرض وصار طريح الفراش لعدة أسابيع، فجاءت إليه صديقته “كاتو” لتساعده في الدراسة وحل واجباته. ثم يفترقان بانتقال عائلتهما، ويلتقيان من جديد. وتحكي “التزامات” قصة هذين الطفلين، ليف وكاتو، اللذين تعرفا على بعضهما البعض عندما كانا يعيشان في رومانيا الشيوعيّة المتعدّدة الأعراق، ثم افترقا والتقيا بعد عقود، ليقوما برحلة مشتركة.
وتحكي إيريس فولف بلغة شاعرية ورقيقة عن الطفولة والشباب، ومعاناة الأطفال والشباب، في ظل ديكتاتورية تنشر انتقاماتها مثل العفن داخل نفوس الناس، وغيّرتهم وغيّرت حتى أحلامهم.
وتبدو الرواية مثل قطعة شعرية سرديّة تحكي عن عشّاق داخل آلة عنف ضخمة، فتتحول إلى “رواية مقاومة” للديكتاتوريّة، على حد تعبير لجنة التحكيم.
ومع ترك “أربعة وسبعون” جانباً، لأنها رواية واضحة المعالم والرؤى، فإن هناك أمورا عديدة ومختلفة تخوض فيها روايات هذه القائمة القصيرة، وتجعلها مختلفة عن بعضها، ولكن ما يمكن أن يجمعها هو مسألة عدم التكافؤ بين الأطراف المرتبطة، ليس بسبب شخصيّ منها في كل الأحوال، بل كذلك بسبب النظام السياسي أو اضطرار الأسرة للانتقال، فتبحث بعضها عن أسباب ذلك، وهذا لا يكون فقط تحليلاً للشخصيّة وماضيها والمآزق والمشاكل التي أثّرت عليها، وعلى نضوجها وإمكانيّة أن تتكافأ مع شخصيات أخرى قريبة منها، أو مع الأشخاص المحيطين بها
. بل كذلك تبحث عن جماليات الشعارات السياسية وأنظمتها كأفكار وتطلّعات في الخيال أو على الورق، وبشاعتها وقسوتها ودكتاتوريّتها على أرض الواقع: عن الماضي الاشتراكي القاسي وفخ الرأسماليّة الأقسى.. وخلال تفكيك كل ذلك، بطرق سردية سلسة تارة ومركّبة في بعض الأحيان. وبأسلوب شعريّ وعاطفي في أحيان أخرى، يجري البحث عن الهويّة وارتباطاتها بالعائلة والزوج والمكان الصغير (ألمانيا الشرقية أو الغربية) والمكان الأكبر (أوربا، العالم).