بينما تعود إيطاليا لدخول أفريقيا من باب التجارة والمعادن والمحروقات، يدافع عدد من قادة الحكومة المحافظة المتشددة عن ماضيها الاستعماري وإن كان دمويا، لقاء “تسويات ومصالحات محدودة” مع التاريخ، دون الغوص بعمق في مشروع مصالحة وتعافي الذاكرة الذي يرغب فيه جزء من المجتمع.
وبينما تسببت تجربة إيطاليا الاستعمارية في القارة الأفريقية، في مقتل مئات الآلاف من المدنيين، بحسب مؤرخين، أكد الدبلوماسي إدموندو تشيريلي أن روما لم تقم سوى “بمهمة لنشر الحضارة وجلبت قيمها من دون إراقة دماء أو الاستيلاء على ثروات الشعوب الخاضعة لها”.
وقال تشيريلي النائب أيضا عن حزب “إخوة إيطاليا” الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني “سواء قبل أو أثناء الفاشية، بنت الحكومة ثقافة لنشر الحضارة” في مستعمراتها، مرددا بذلك فكرة “المستعمرين الطيبين” التي تلقى شعبية لدى اليمين المتطرف.
“لسنا شعب قراصنة”
وأضاف تشيريلي أن “ثقافتنا القديمة تعني أننا لسنا شعب قراصنة سينهبون العالم”. وهذه الفكرة تتبناها ميلوني أيضا التي زادت رحلاتها إلى أفريقيا لتنويع مصادر إمدادات الطاقة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
ودفعت هذه التصريحات المؤرخين واليسار إلى الرد، معتبرين أن إيطاليا لم تقم بعد بدراسة لضميرها الجماعي.
وتعود جذور الفاشية الإيطالية إلى حرب الوحدة التي انتهت عام 1870 بضم العاصمة روما. ومع اكتمال الوحدة الترابية، برز إشكال هوية حاد أجّجه التباين الكبير بين سكان إيطاليا اجتماعيا واقتصاديا وعرقيا.
ضحايا الاستعمار
ومن أجل تشجيع دراسة الذاكرة الاستعمارية، قدّم نواب للمعارضة مشروع قانون لتخصيص “يوم لذكرى ضحايا الاستعمار الإيطالي” في القرنين الـ19 والـ20 في ليبيا وإثيوبيا وإريتريا، وفي المنطقة التي أصبحت منذ ذلك الحين الصومال.
والتاريخ المقترح هو 19 فبراير/شباط يوم بداية مذبحة السكان المدنيين الإثيوبيين على يد القوات الإيطالية في أديس أبابا في عام 1937 (نحو 20 ألف قتيل).
وقالت لورا بولدريني من الحزب الديمقراطي اليساري، الرئيسة السابقة لمجلس النواب لوكالة الصحافة الفرنسية إن “دولا أخرى مثل بلجيكا وألمانيا طلبت الصفح عن جرائم الاستعمار. لكن في إيطاليا، نميل إلى إنكار هذه الجرائم والقول إن (إيطاليا الطيبة) بنت طرقا ومستشفيات ومدارس”.
وشاركت بولدريني في وضع مشروع قانون لا يتمتع بفرص كبيرة لاعتماده في البرلمان نظرا للأغلبية الكبيرة التي يتمتع بها اليمين المتطرف واليمين بشكل عام في البرلمان.
وقالت بأسف إن “الصحف اليمينية كتبت مقالات مسيئة لمشروع القانون، وهذه الحكومة لا تأخذ جرائم الاستعمار على محمل الجد”.
ورأى البروفيسور يولديلول تشيلاتي درار، من جامعة ماتشيراتا أن جذور الاستعمار الإيطالي تكمن في منطق الاستيطان، موضحا أن إيطاليا الفتية الموحدة في 1861 سعت إلى “حل مشكلتي البطالة والسخط الاجتماعي الكبيرتين” عبر “تصدير قوتها العاملة” إلى البلدان المحتلة.
وأضاف أن هذا ما يفسر “استثمار إيطاليا أكثر من القوى الاستعمارية الأخرى في تطوير بنى تحتية”، الفكرة التي يركز بعض اليمينيين المتطرفين عليها.
وقال البروفيسور أليساندرو بيس من جامعة كالياري إن فكرة “الناس الطيبين” هي أسطورة “تتجلى جذورها في رفض المجتمع الإيطالي لقبول تأكيد أن تاريخنا كان أيضا تاريخ عنف واستغلال وعنصرية”.
ويقدر المؤرخ البريطاني إيان كامبل عدد الذين قتلوا من السكان الأصليين نتيجة احتلال الدول الأفريقية الأربع بـ700 ألف.
ليبيا.. ذاكرة الدماء والدموع
في ليبيا وحدها، أدت “سياسات الإبادة الجماعية” التي اتبعها نظام بينيتو موسوليني إلى مقتل 150 ألف مدني، كما يقول البروفيسور شيلاتي درار.
إذا كان المستعمرون هناك على هذه الدرجة من الكرم والإحسان، فلماذا وقّع سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة آنذاك، “معاهدة بنغازي” في 2008 مع العقيد معمر القذافي؟
فلوضع حد للخلاف بشأن أكثر من 30 عاما من الاحتلال الإيطالي (1911-1942)، قدم برلسكوني اعتذارات روما لليبيا وتعهد بدفع 5 مليارات دولار تعويضات على مدى 25 عاما بشكل استثمارات.
البروفيسور ميشال بالتشيرزاك، عضو فريق الخبراء العامل التابع للأمم المتحدة المعني بالسكان ذوي الأصول الأفريقية: غياب إيطاليا الاستعمارية السابقة من الكتب المدرسية والنقاش العام أسهم مع عوامل أخرى، في “العنصرية الحديثة”
وقال تشيلاتي درار إن الاعتراف بجرائم الماضي من شأنه أن يكتسب أهمية تعليمية حقيقية اليوم لأن عمل المؤرخين “لا يدخل إلى المدارس”.
وفي 2015 بعد بعثة دراسية إلى إيطاليا، قال البروفيسور ميشال بالتشيرزاك، عضو فريق الخبراء العامل التابع للأمم المتحدة المعني بالسكان ذوي الأصول الأفريقية إن “غياب إيطاليا الاستعمارية السابقة من الكتب المدرسية والنقاش العام” أسهم مع عوامل أخرى، في “العنصرية الحديثة”.
نقد “انتقائي” للاستعمار الأوروبي
ورغم شهرة خطابات جيورجيا ميلوني -خاصة قبل توليها رئاسة الوزراء- في مهاجمة قوى أوروبية استعمارية سابقة في أفريقيا، خاصة فرنسا وبلجيكا والمملكة المتحدة والبرتغال، لم يسجل لها خطابات مماثلة تنتقد التاريخ الاستعماري الإيطالي في ليبيا وشرق أفريقيا.
وبخلاف الجدل في الأروقة السياسية الإيطالية، يقع تسليط الضوء على جوانب الاستعمار المفيدة فقط في مؤسسات التعليم والإعلام الإيطالية؛ إذ يتم تقديمه كاستثناء من التجربة الأوروبية.
وحسب البروفيسور ماريو دي جان فرانشيسكو المتخصص في القضايا الدولية بجامعة سابينزا في روما، فإن “الاستعمار الإيطالي لا علاقة له بالاستعمار الفرنسي أو البريطاني؛ فقد ساهمنا (إيطاليا) بشكل كبير في التنمية الاقتصادية والثقافية لإثيوبيا وليبيا”، على حد تعبيره.