أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات “القاهرة المتنازع عليها”

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

على الرغم من غناها ومجدها في الربع الأول من القرن الـ19، بدت العاصمة المصرية (القاهرة) منذ تسعينيات القرن الـ20 جسدا مترهلا ومثقلا يئن تحت وطء مشكلات عديدة ومتراكمة، وأمراض راكمتها حوادث تاريخية عدة.

منذ ذلك التاريخ تفاقمت مشكلات المدينة، وباتت عصية على الحلول التقليدية وأضحت محل تنازع لسيطرة أطراف عديدة.

المشكلات البنيوية التي تعانيها المدينة التاريخية، -والتي طالما لعبت دورا ثقافيا وسياسيا في العالم الإسلامي لقرون- وتشخيص أمراضها وعللها، كانت موضوع بحث علماء أجانب وباحثين في علم الاجتماع في كتاب حمل عنوان “القاهرة المتنازع عليها” حرره “دايان سينجرمان” وترجمه يعقوب عبد الرحمن وصدر أخيرا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.

الكتاب جاء محاولة لمناقشة التحولات الكبرى التي شهدتها القاهرة، والإجابة عن أسئلة من شاكلة؛ ما الذي غيّر ويغير المزاج الفكري والثقافي للمصريين؟ وما تأثير وسائل الاتصال الحديثة على النسيج الاجتماعي؟ وكيف يتعاطى المصريون مع واقعهم ومتغيراته السريعة والبطيئة؟ وكيف تحدث عمليات الدمج الجماعي للغرباء، وكيف يتولد العنف؟

يشير الكتاب الذي جاء في 450 صفحة وحوى 17 فصلا إلى أن “الليبرالية الجديدة” تثير الكثير من الصراعات، وتزيد من الفروق الطبقية، وعدم المساواة والاختلاف بين المصريين.

ويرى أن السياسات الاقتصادية الخاطئة، جعلت الأرض أكثر سهولة في البيع والشراء والإيجار، كما أصبحت المضاربة في العقارات أمرا شائعا، ما ولّد اختلافات مكانية صارخة في المدينة التي انقسمت بين مجمعات سكنية حديثة ذات أسوار مغلقة ومجمعات قديمة وعشوائية.

المدينة وتأثيرات العولمة

الكتاب يعد الجزء الثاني للموسوعة الضخمة “القاهرة المدينة العالمية” ويوضح في كل فصوله أن ثمة حربا بين السلطة وفئات مختلفة من أبناء الشعب المصري.

ويكشف الكتاب تأثيرات العولمة على المدينة العملاقة، وكيف تتفاعل معها وأثر تدفق العمالة ورأس المال والمعلومات في إعادة تشكيل حدود المدينة وبنيتها الاقتصادية، والمشهد الحضري لسياساتها وشكلها المادي.

ويطرح مزيدا من الأسئلة عما يحدث للمدينة التي احتلتها “الليبرالية الجديدة” ودورها في تقليص الخدمات العامة وتشجيع خصخصة السلع، وكيف يكافح القاهريون بيئة بيروقراطية معقدة، حيث الشرعية ميزة في متناول القلة المقربة من السلطة، في حين أن الغالبية العظمى لا يمكنها تحمل آثار مثل هذه السياسات، بينما الحكومة ماضية بدأب في عملية تحويل مستمرة للأماكن العامة والأسواق تحت مزاعم النمو والأمن والحداثة؟

ويتناول الكتاب -ضمن دراسته للعاصمة المصرية- موقع مؤسسة الأزهر ورسالة المؤسسة العريقة التي اعتبرها محط تجاذب بين الدور الرسالي الذي ينهض به، ورغبة السلطة الدائمة في الاستحواذ عليه وقد جرت محاولات للسيطرة عليه وجعل خطابه في خدمة السلطة منذ تولي “الضباط الأحرار” السلطة على مصر.

هذه المحاولات جاءت بعكس أزمان ماضية حيث وصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1754 – 1882م) علماء الأزهر بوصفهم أصحاب مهام اجتماعية واسعة، بالرغم من تدهورهم الفكري في نهاية القرن الثامن عشر، مشيرا إلى أن سلطة العلماء ضعفت حال شراكتهم للحاكم.

حرب “الترك” والإهمال

وطفت مشكلة الأحياء العشوائية التي تحيط بالقاهرة من جهاتها الأربع، وتمثل قنبلة موقوتة مستعدة للانفجار في أي وقت، انشغل بها الخطاب الإعلامي وتم رمي سكانها بالعديد من الصفات السلبية، لأنهم قاموا بالاعتماد على أنفسهم وحل مشكلتهم ومشكلة الإسكان والمرافق العامة بالموارد المحدودة بعد أن تخلت الدولة عن دورها في ذلك.

بدا أن الجميع استحل دماء المدينة العجوز، حين يجهز السكان الوافدون عليها بتمزيق رقعتها الزراعية بتقسيم الأراضي والبناء عليها، فيما الدولة المصرية تخلت عن عقدها الاجتماعي، ودورها المنوط بها في حماية السلة الزراعية اللازمة لإطعام الملايين في القاهرة.

وتوصلت دراسة للبنك الدولي إلى أن 81% من التجمعات السكنية غير الرسمية كانت مشيدة على أراض زراعية، نسبة 10% فقط مشيدة على أراض صحراوية، وقدرت خسائر الأراضي منذ عام 1982 وحتى عام 2004 بما يقرب من 1.2 مليون فدان، وأن حجم السكان في المناطق العشوائية بلغ 65% من سكان القاهرة الكبرى ( 10.5 ملايين ساكن من إجمالي 16.2 مليون ساكن).

ويعتبر الكتاب أن سكان المناطق العشوائية كان يتم تجاهلهم، ويتركون وشأنهم، حتى ظهور تمرد حركات إسلامية عنيفة، ويتتبع الكتاب جذور ونشأة “الجماعة الإسلامية” في منطقة عشوائية بحي إمبابة في تسعينيات القرن الماضي.

ويتناول أيضا الطرق الصوفية “التي لا تهتم بالسياسة وأمورها”، ويرسم صورة حية ومشوقة لاحتفالات مولد السيدة نفيسة، حيث يتقابل نوعان مختلفان تماما من أنماط الاحتفال في المولد، إذ تهيمن الدولة على وسط الميدان بطريقة متزايدة، بينما تهيمن الطبقات الشعبية على الشوارع الجانبية للاحتفال.

سردية تحولات المدينة

وعلى مسار آخر يروي فصل آخر من الكتاب، كيف تعامل السرد الأدبي مع القاهرة كمدينة تجمع المتناقضات المتفجرة، وكيف تحول فن الرواية من (عالم الحارة) المحفوظية التقليدية إلى (عالم العمارة) الجديدة بهيكلها الاجتماعي الذي يبدو منغلقا على ذاته.

ويقدم الكتاب تشريحا معماريا لأربع من الروايات الواقعية التي تمثل فترات تاريخية متنوعة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في باب بعنوان “من الحارة إلى العمارة”، وتمنحنا القراءة المتأنية لهذه الأعمال مقارنة واضحة بالعديد من التغيرات التي حدثت في نسيج القاهرة الحضري في النصف الثاني من القرن العشرين.

كما اظهرت الروايات بعض الأنماط المكانية والاجتماعية الجديدة للاستقطاب داخل المدينة العملاقة من خلال دراسة نقدية لتلك الروايات، وهي “ذات” 1992، للكاتب صنع الله إبراهيم، و”لصوص متقاعدون” 2002 لحمدي أبوجليل، و”عمارة يعقوبيان” 2004 لعلاء الأسواني، و”جريمة قتل في برج السعادة” 2003 لمحمد توفيق.

تأخذنا الروايات الأربع في رحلة نحو أطراف أنحاء القاهرة، وتشير الصورة الأدبية للعمارة في الروايات المختارة “ليس للتحولات التي تطرأ على المجتمعات الحاضرة فيها وحسب، ولكنها تتوافق بشكل مدهش مع الأماكن التي يشغلها كل واحد من هؤلاء الكُتاب في داخل هذه المدينة.. وفي هذا النهج، فإنهم يعيدون بناءها من خلال المواقف السياسية والعقائدية الخاصة بهم بوصفهم مهندسي البناء الأدبي للمدينة”.

وتقع محاولة الدولة لإزالة سوق روض الفرج العتيق في يونيو/حزيران عام 1994، بعد أن بقي رابضا بوسط القاهرة لأكثر من نصف قرن، دون إجراء دراسات كافية أو استطلاع آراء تجار الجملة والتجزئة، أو حتى معرفة مدى تأثير هذا الإجراء على أسعار الخضر والفواكه في العاصمة، وما جرى خلاله من صدامات بين الدولة والتجار نتج عنه اعتقال المئات وجرح العشرات من العمال والأهالي.

ولا يتركنا الكتاب إلا ويعرض لنا بحثا شيقا عن بداية تأثير الميول السياسية على الأنماط الاستهلاكية في مصر بوجه خاص وفي العالم العربي بوجه عام، ومحاولات المواطنين في أن يكون لهم تأثير على القرارات السياسية المتحيزة لحكام الولايات بوجه خاص والغرب بوجه عام، والإشارة إلى المقاطعة في سياقها المحلي كنوع من النزعة الاستهلاكية السياسية التي تطورت في مصر وتأطيرها داخل المشاعر المناهضة للعولمة والحركات المناهضة للحروب في مطلع الألفية الجديدة.

تبدلات في المزاج

وعن مدى تطور الوعي الديني لدى المصريين، يوضح أحد فصول الكتاب، أن تغيرا واضحا قد حدث في المزاج والخطاب الفكري في مصر، مع نشأة ما يسمى بالدعاة الجدد في المنطقة منذ سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وتأثير تقنيات الاتصالات الجديدة، وكيف خلقت منابر متنوعة لعدد كبير من الدعاة، مع التركيز على دراسة حالة شديدة الظهور من خلال ميلاد وصعود الداعية المصري عمرو خالد.

ولأن القاهرة وحدها تحتضن ملايين اللاجئين، فقد تمت دراسة واضحة عن فئتين فقط من اللاجئين الأفارقة، وتتبع أحوالهم، مع رصد صراعات الشتات في القاهرة، والتي يعتبرها الأفارقة عاصمة القارة بأسرها، يركز البحث على عينات من أسر اللاجئين السودانيين والصوماليين الذين يشكلون النسبة الأكبر من اللاجئين في القاهرة.

وانتهت الدراسات إلى أنه على الرغم من الصعوبات التي يواجهها اللاجئون حتى يصلوا إلى القاهرة، فإن نسبة كبيرة منهم بعد أن تنجح في الهجرة إلى الغرب وتكوين ثروة تستطيع أن تعيش بها، تعود مرة أخرى للاستقرار في القاهرة، لأنهم يرونها أفضل من العيش في الغرب.

وهكذا تستمر الحرب الصامتة من أجل تدجين مؤسسات وأفراد المدينة العتيقة، في المقابل كان الإهمال هو نصيب المدينة العجوز التي تآمرت عليها قوى الفساد والانتهازية، وتكالبت عليها كل أمراض البيروقراطية والفساد حتى حولتها لمدينة متعبة وحزينة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *