عُرضت أربعة أفلام بين العامين 2012 و2015، وشكلت ملامح واحدة من أنجح السلاسل السينمائية، ومهدت طريق بطلتها إلى النجومية، وهي سلسلة “ألعاب الجوع” (The Hunger Games) بطولة “جينيفر لورانس”، وأخرج ثلاثة من أفلامها “فرانسيس لورانس” اقتباسا من ثلاثية روائية حملت العنوان نفسه وكتبتها “سوزان كولنز”. وحققت هذه الأفلام إيرادات عالية وحصدت نجاحا نقديا وجماهيريا.
وتستقبل دور العرض السينمائية الآن -وبعد ثمانية أعوام من عرض آخر أجزائها- فيلما جديدا ينتمي لهذه السلسلة تحت عنوان “ألعاب الجوع.. أنشودة الطيور المغردة والثعابين” (The Hunger Games: The Ballad of Songbirds and Snakes) المقتبس من رواية نشرتها “سوزان كولنز” بالاسم نفسه عام 2020، وأيضا من إخراج “فرانسيس لورانس”، ولكن يغيب عنه أبطال السلسلة الأصليين، وذلك لأن الأحداث تدور قبل ولادة شخصياتهم من الأساس.
ويستدعي عرض هذا الفيلم سؤالا مركزيا: هل فيلم “أنشودة الطيور المغردة والثعابين” مجرد استغلال تجاري لنجاح سابق، أم لديه ما يقدمه بالفعل؟
رحلة الرئيس سنو
تدور أحداث روايات وأفلام “ألعاب الجوع” في بلد يُدعى “بانام”، وهي النسخة المستقبلية من أميركا الشمالية عندما توحدت القارة تحت الحكم الشمولي والطبقي للعاصمة “كابيتول”، وقُسمت باقي الدولة إلى مقاطعات لكل منها رقم، ويعاني سكان المقاطعات من الفقر والقهر.
قبل 74 عاما من أحداث السلسلة الأصلية دارت حرب بين المقاطعات والكابيتول، انتهت بنصر الأخيرة التي قررت كوسيلة لعقاب المقاطعات أخذ كل عام اثنين من سكان المقاطعات تدور أعمارهم ما بين 12 و18 وإدخالهم فيما يسمى “ألعاب الجوع”، وهي مباراة على طراز المصارعة الرومانية؛ تضع اللاعبين في حلبة مغلقة ولا يفوز سوى لاعب فقط هو الباقي على قيد الحياة بعدما يُقتل باقي اللاعبين سواء على يد زملائهم، أو بسبب العوامل الجوية الصعبة، أو العقبات والفخاخ التي يتفنن في صنعها مديرو المباريات.
في ألعاب الجوع رقم 74 تتطوع “كاتنيس إيفردين” عوضا عن أختها الصغرى “برايم روز”، وتنتهي المباراة بانتصارها وإطلاقها شرارة الثورة التي تستمر على مدار الروايات والأفلام التالية، بينما تدور أحداث فيلم ورواية “ألعاب الجوع.. أنشودة الطيور المغردة والثعابين” إبان مباراة الجوع العاشرة، خلال شباب الرئيس “كوريولانوس سنو” الذي حكم الدولة بالحديد والنار لسنوات طويلة بعد ذلك.
ويبدأ الفيلم بالشاب “كوريولانوس” ابن الكابيتول بعدما فقدت عائلته ثروتها خلال الحرب، ويعيش مع جدته وابنة عمه حياة مزدوجة، فأمام الجميع هم أحد أكثر عائلات البلدة نبلا وثراء، ولكن في الحقيقة بعد وفاة الأب وخسارة استثماراتهم يعيشون في فقر مدقع ربما أكثر من سكان المقاطعات.
وتأتي فرصته الذهبية للحصول على منحة لإكمال تعليمه الجامعي عندما تُعينه إدارة ألعاب الجوع مرشدا لفتاة المقاطعة الثانية عشرة “لوسي غراي” ذات الصوت الشجي وخفة الظل والذكاء، وسريعا ما تبدأ علاقة وطيدة بينهما، فهو وسيلة مساعدتها الوحيدة للفوز في الألعاب، بينما يستغل كوريولانوس مواهبها لزيادة شهرته في الكابيتول سعيا لتوضيح إمكانياته السياسية التي تؤهله للمستقبل الذي يحلم به.
يركز فيلم “ألعاب الجوع.. أنشودة الطيور المغردة والثعابين” بالأساس على تطور شخصية “كوريولانوس سنو” الذي نعلم بسبب الأفلام السابقة أنه سيتحول في مرحلة ما إلى طاغية، ولكن ما يبدأ به الفيلم مجرد شاب طموح يسعى للنجاح تتنازعه تجاه “لوسي غراي” مشاعر متضاربة، فهو يتعاطف معها، وهي مقدمة على الموت في ألعاب ليست مستعدة لها، وفي الوقت ذاته يؤمن بأن هذه الألعاب هي الوسيلة المثلى لإخضاع المقاطعات، فيقوم طوال الوقت بأفعال جيدة ولكن للأسباب الخاطئة.
استغلال تجاري أم عمل يستحق؟
إذًا هل فيلم “ألعاب الجوع.. أنشودة الطيور المغردة والثعابين” استغلال لنجاح سابق؟ الإجابة هي نعم ولا في آن واحد، فالأفلام السينمائية -كأي مشروع استثماري- تحتاج إلى النجاح على الصعيد المادي بالتأكيد، فالمال هو الذي يتيح للشركات المنتجة الاستمرار في العمل وتقديم أفلام أخرى قادمة. وحتى الآن حقق الفيلم إيرادات تخطت ضعف ميزانيته، وذلك قبل عرضه على المنصات الإلكترونية.
ولكن من الناحية الفنية يمكن القول إن قصة الفيلم تستحق أن تروى، فحكاية بانام الدولة الطبقية الشمولية كانت وما زالت مثل مرآة لعالمنا الواقعي الذي تحكمه دول كبرى تعطي لنفسها الأحقية في السيادة على باقي البلاد التي صنفتها بشكل عنصري دول عالم ثالث وثان وأول.
وعلى الرغم من الجاذبية الشديدة لقصة “كاتنيس إيفردين” كبطلة ساهمت في إشعال الثورة في المقاطعات، فإنها تحمل في باطنها بعضا من السذاجة التي تصنف العالم إلى أخيار وأشرار، وأبيض وأسود واضحين، بينما قصة “أنشودة الطيور المغردة” تنحو لفكر أكثر نضجا، فـ”سنو” الشاب يمر بصراع أخلاقي على طول الخط بين إيمانه بمبادئ الكابيتول -التي ترى أن الألعاب هي وسيلة لإخضاع المقاطعات ودرء خطر حرب أخرى- وتعاطفه الفطري تجاه الجميلة “لوسي غراي”.
كما استعرض الفيلم مرحلة مهمة في تاريخ الألعاب بعد مرور عشر سنوات عليها، عندما بدأ سكان الكابيتول في التذمر منها وهي تقتل كل عام 23 فتى وفتاة من أبناء المقاطعات، فجاء الحل السحري بتحويل الألعاب إلى عرض تلفزيوني شديد التسلية يستقطب سكان الكابيتول كمتفرجين يشجعون بعض اللاعبين ويراهنون عليهم، وذلك لإبعاد الامتعاض الأخلاقي عن أذهانهم، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره إسقاطا على ما تفعله وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كل يوم وهي تحول أفظع المآسي لمحتوى يجذب المتفرجين ويدر على هذه الكيانات المال.
وسمح طول الفيلم -الذي قارب ثلاث ساعات وقسم إلى ثلاثة فصول- بعرض تطور شخصية “سنو” و”لوسي غراي” اللذين أدى دورهما كل من “توم بليث” -في أول أدواره الكبيرة التي قد تغير من مسيرته الفنية كما فعلت أفلام “مباريات الجوع” الأصلية مع الممثلة جينيفر لورانس”- والمغنية والممثلة “راشيل زيغلر” الحائزة على جائزة غولدن غلوب عام 2022.
وكانت الأغاني والموسيقى أهم مواهب “لوسي غراي”، وفي الوقت ذاته قيمة مضافة حقيقية للفيلم، فقد أضفى الشريط الصوتي بالكامل طابعا مختلفا على العمل، بينما ساهمت الأزياء والديكور كما في الأفلام السابقة في إظهار الاختلافات الواضحة بين الكابيتول الثرية التي يتسابق سكانها في الأناقة لإسكات ضمائرهم والمقاطعات.
دخل فيلم “ألعاب الجوع.. أنشودة الطيور المغردة والثعابين” في منافسة صعبة -من قَبل حتى صناعته- مع السلسلة شديدة النجاح السابقة، ولكن لو وضعناه بمعزل عن هذه المقارنة سنجد أننا أمام فيلم تجاري مسل ومحكم الصنع يستحق المشاهدة، وسينافس في موسم الجوائز خاصة في الفئات الخاصة بالأغاني والموسيقى والديكور.