إن كانت الحياة في العاصمة السودانية الخرطوم توقفت أو كادت، فإن مدنًا سودانية أخرى صارت أكثر حيوية، وتعددت مظاهر العطاء فيها، وتعد كوستي إحداها.
المدينة القائمة على النيل الأبيض -أحد رافدي نهر النيل الرئيسيين- احتوت القادمين من الخرطوم بالإيواء والإطعام والأنشطة الثقافية.
العودة للمنبع
منذ اتخاذها عاصمة للقُطر السوداني، ظلت الخرطوم تستقطب أبناء المدن الأخرى بما تقدمه من فرص للدراسة والعمل، وذلك شأن الحواضر في كل البلدان، مع زيادة في وتيرة الهجرة نحوها تتناسب مع اختلال ميزان التنمية. أما بالنسبة لأهل الثقافة والأدب، فللخرطوم منحٌ إضافية من صقلٍ للمواهب وحضورٍ في الإعلام، وغير ذلك.
ومع الحرب الجارية في الخرطوم، عادت غالبية سكانها إلى مدنها وقراها في الولايات، كما استوعبت هذه المدن الكثير من سكان الخرطوم الذين أجبرهم القصف المتبادل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على ترك منازلهم، فاتجهوا صوب مدن يمكن الوصول إليها بشكل آمن.
ونالت مدينة كوستي الواقعة على النيل الأبيض (نحو 320 كيلومترا جنوب الخرطوم) نصيبها من أبناء عائدين وضيوف وافدين.
القادمون من الخرطوم أحدثوا تغيرات في ليالي المدينة ونهاراتها على أكثر من صعيد، ويرى الروائي محمد خير عبد الله -أحد أبناء كوستي- في حديث للجزيرة نت أن كوستي استوعبت عددا كبيرًا من الروائيين والتشكيليين والصحفيين ومن المنتمين لشتى أجناس الأدب وضروب الثقافة.
ويقول عبد الله “الوافدون على كوستي انسجموا سريعا مع الفاعلين الثقافيين فيها، كما أحدثوا إضافة واضحة، وأسهموا في إطلاق حراك ثقافي كبير”.
مسرح للضيوف
لا توجد إحصاءات دقيقة تحدد أعداد من قدموا إلى مدينة كوستي من الخرطوم، لكن هناك من يتحدث عن عشرات الآلاف ممن يسميهم أهل كوستي ضيوفًا، رافضين إطلاق صفة نازح أو فارٍ عليهم.
إذ يقول القاص والناقد صلاح عوض الله النعمان “هؤلاء ضيوفنا، وأهل كوستي لا يصفون من وفد إليهم بغير هذه الصفة”.
ومثلما يُكرم الضيف بالطعام، فإن “قِرى الضيف أنسه”، لذا كان أحد مراكز الإيواء بكوستي خشبةً لمهرجان المسرح الحر في يونيو/حزيران الماضي، واستمر 4 أيام بتنظيم من منظمة “بحر أبيض للثقافة والفنون وتنمية المجتمع”.
وقال عضو المكتب التنفيذي للمنظمة صلاح النعمان “عندما أقيم المهرجان كان عدد مراكز الإيواء بكوستي 23 والآن يبلغ 73 مركزا، وقد أقيم في أكبرها حيث يؤوي أكثر من ألف ضيف”، قُدم خلال المهرجان عدد من العروض المسرحية، كان جمهورها الرئيسي الضيوف بمراكز الإيواء، إضافة للمثقفين والمهتمين وبعض السكان.
ويرى النعمان في حديث للجزيرة نت أن أول أهداف هذه الدورة من المهرجان هو المساهمة في تغيير الحالة النفسية لمن يوجدون في المراكز.
يذكر أن المهرجان أطلق عام 2011 بتعاون بين عدد من الكيانات الثقافية والمهنية.
تاريخ من الحراك
ليس الفعل الثقافي بالجديد على كوستي، فقد عُرفت تاريخيا بالكثير من الحراك، وحوت مؤسسات ثقافية نشطة توقفت في العقود الماضية لأسباب مختلفة. لكن، وبعد الحراك الذي اتخذ أكثر من مظهر وكان مهرجان المسرح الحر من أكبرها، سعى أهل الثقافة في كوستي لتحقيق بعض أحلامهم على أرض الواقع، ومن أهمها إعادة الحياة لتلك المؤسسات.
وبعد 27 عامًا من الإغلاق، أُعيد في أغسطس/آب الماضي افتتاح سينما كوستي التي أنشئت عام 1951 فيما يشبه ملحمة الانتماء، بحسب وصف القاص نصر الدين عبد القادر في حديثه للجزيرة نت.
ويقول نصر الدين عبد القادر “الحراك الثقافي بالمدينة أحدث حالة من الانتماء لجميع الوافدين إليها، أما العائدون إلى جذورهم من أبناء المدينة فقد نشطوا في إحياء ما أضمرته السنين، ومن صور ذلك صيانة السينما التي عادت لاستقبال الجمهور”.
ولم تكن صيانة السينما وإعادة افتتاحها بالعمل السهل، إذ يقول النعمان “رغم وجود خلاف إداري وقانوني بين مجلسي إدارة سينما كوستي، فإن المتنازعين وافقوا على استغلال السينما منبرًا ثقافيا، فقمنا بصيانتها وإعادة إحيائها”.
ومثلما أعيدت الروح لسينما كوستي وبدأت في تقديم عروض مختلفة، عادت الحياة أيضا لنادي كوستي الثقافي ومكتبته، التي تهيأت لاستقبال القراء وعُقدت فيها مناقشة لمجموعة قصصية، في وقت يجري فيه الترتيب لإطلاق منتدى نصف شهري بهذا النادي، الذي سيكمل بعد أشهر مئة عام على إنشائه عام 1924.
قلم وطعام
جهد المثقفين ومنظماتهم في كوستي لا يقتصر على المسرح والسينما وغيرهما من المنابر الثقافية والفنية، بل تجاوز ذلك إلى التفاعل مع حاجيات الإنسان من إيواء وإطعام وغيرهما عبر منظمات مجتمعية، من أهمها منظمة كوستي للثقافة والتنمية، التي تعمل على إعداد الطعام في مطبخ مركزي والذي يوزع على مراكز الإيواء. وفي هذا العمل ستجد روائيين ومغنيين وممثلين وأطيافا ثقافية عديدة، مما “يجعل من ساعات إعداد الطعام صالونات ثقافية”.
ويعتقد الروائي والقاص الهادي راضي، الذي وفد لكوستي بعد الحرب وهو أحد المداومين على إعداد الطعام في المطبخ، أن ما يقوم به هو من صميم عمله، ويقول للجزيرة نت “مفهوم التنمية الذي تعمل عليه المنظمة بالإضافة لعلمها الثقافي، مفهوم شامل تنضوي تحته عدة برامج، من ضمنها برامج الحماية (غذاء وصحة وتعليم). فالمطبخ المركزي يوفر الغذاء لمن نزح إلى كوستي”.
العمل في إعداد الطعام لا ينسي الهادي راضي وفريقه من المتطوعين موعدهم مع صغار الوافدين في المدرسة المجاورة، في إطار مشروع تعليم وتأهيل الأطفال بمراكز الإيواء.
ويقول راضي “يمثل المشروع الشق الآخر من برنامج الحماية، ويهدف إلى محو آثار الحرب من ذاكرة الأطفال عبر التأهيل والدعم النفسي، بالإضافة إلى تطوير مهاراتهم في عدد من المواد الأساسية، بجانب الفنون والبرامج الترفيهية”.
والغرض من ذلك، بحسب إفادة راضي، تعويض الأطفال عما فاتهم من دروس وإدخالهم في الجو المدرسي حتى يكونوا مهيئين نفسيا وتعليميا للانخراط في مدارسهم حال توقُّف الحرب.
تمدد
مثلما تنوعت أشكال الحراك الثقافي في كوستي، تنوعت جغرافيته كذلك، فلم تنحصر فعالياته على المدينة فقط، بل انطلقت من كوستي قوافل ثقافية إلى مدن مجاورة، حيث نظمت منظمة “بحر أبيض للثقافة والفنون” قافلة ثقافية إلى مدينة “الكوة” قدمت خلالها عرضًا مسرحيا، وأقامت ورشة للكتابة السردية، بالإضافة للقاءات مع مثقفي المدينة.
المنظمة ذاتها اتجهت جنوبًا لتقيم ورشة تحت اسم “إعداد الممثل الأول” في مدينة الفشاشوية بالتعاون مع المجلس الأعلى للشباب والرياضة. واستمرت الورشة مدة أسبوع من 12 إلى 19 سبتمبر/أيلول الماضي، إضافة إلى تنفيذ زيارات لمدن أخرى.
ويبدي القاص والصحفي نصر الدين عبد القادر إعجابه بحراك كوستي، قائلا “أهل كوستي متعطشون للثقافة، مفتونون بالفنون بمختلف أنواعها واتجاهاتها. وقد يصادف أن تقام فعاليتان ثقافيتان في يوم واحد”.
نقص الدعم المالي
هذا الحراك تقوم به منظمات عدة مثل “معًا” و”كوستي للثقافة والتنمية” و”بحر أبيض للثقافة والفنون” و”كل الخير”، ومثقفون مستقلون من كوستي وخارجها، إضافة لسكان من المدينة يهتمون بضيوف المهرجان.
لكن الدعم المالي بدأ في التناقص، مما ينذر بتقلص حجم العطاء خاصة في المطبخ المركزي، في وقت يخشى فيه الجميع أن يهزم المال هذه القلوب المجبولة على العطاء وألّا تحقّق مقولة رئيس منظمة “كوستي للثقافة والفنون” شهير أحمد عبد الله “لن نطفئ نار المطبخ حتى يعود آخر ضيوفنا إلى منزله”.