يخدع فيلم “تشريح السقوط” (Anatomy of a Fall) مشاهديه، فهو يظهر في البداية كفيلم جريمة وبحث عن قاتل، وتدور أحداثه في أروقة المحاكم، لكن هوية هذا القاتل في الحقيقة غير مهمة ولا توجد ضرورة لمعرفتها، فحتى بطلة الفيلم ذاتها عندما سألت المخرجة عن شخصيتها هل هي مذنبة أم لا؟ أجابتها بأنها لا تعرف.
ويأخذ الفيلم مشاهديه في رحلة موازية، رحلة تُشَرِح العلاقات الزوجية في مجتمع حديث يعتبر نفسه من الأكثر تمدنا في العالم، ويكشف عن النظرة المزدوجة بهذا المجتمع تجاه نسائه ورجاله.
وجاء العرض الأول للفيلم الفرنسي “تشريح السقوط” بمهرجان كان السينمائي، وفاز بجائزة “السعفة الذهبية” وهو من إخراج “جاستين تريت” التي شاركت في تأليفه مع زوجها “آرثر هراري” وبطولة الألمانية “ساندرا هولر”.
ورشح هذا العمل لـ5 جوائز أوسكار منها جوائز أفضل فيلم وممثلة رئيسية وسيناريو، بعدما تخلت عنه دولته فلم ترشحه لجائزة أفضل فيلم دولي وقدمت بدلًا منه “طعم الأشياء” (The Taste of Things) الذي لم يصل إلى القائمة القصيرة من الترشيحات.
الزوجة المذنبة بنجاحها
تبدأ أحداث “تشريح سقوط” في الدقائق القليلة ما قبل الوفاة المفاجئة لرب هذه الأسرة متعددة الجنسيات، فالزوجة كاتبة ألمانية مرموقة وناجحة، بينما الزوج كاتب فرنسي متواضع الشهرة، ويعيشان بمكان ناء في الجبال الفرنسية مع طفلهما الذي فقد بصره في حادث نتيجة إهمال الأب منذ سنوات مضت.
ولا يظهر الزوج في البداية، ولكنه حاضر في الخلفية، فبينما تُجري طالبة جامعية حوارا مع الزوجة تتصاعد موسيقى صاخبة تمنعهما من سماع بعضهما البعض، لينتهي الحوار قبلما يبدأ، وتصعد الزوجة غاضبة، ويفاجأ الابن في اللحظات التالية بجثة والده مسجاة على الثلج وقد سقط من أعلى المنزل.
وتحوم الاتهامات بعد ذلك حول الأم، التي تُصر على أن ذلك حادث انتحار، سبقته محاولة فاشلة سابقة أنقذت زوجها منها، ولكن لم يدعم هذه الفرضية أي دليل، ومن هنا تبدأ المحاكمة التي امتدت لتشمل أغلب أحداث الفيلم، وفيها تقف الزوجة أمام المحلفين تحلل علاقتها بزوجها القتيل، وتكشف أمامهم وأمام المتفرج الحقيقة المختبئة وراء شكل الأسرة المثقفة المثالية.
وتنظر المحكمة والمحلفون إلى “ساندرا” كمذنبة لأسباب لا يمكن تصنيفها قانونية تماما، فيتهمها المدعي العام بسرقة الفكرة الرئيسية لرواية زوجها، بينما يستخدم أحد التسجيلات الصوتية التي تدعم موافقة الزوج على إعطائها فكرته بعدما فقد الأمل في إتمامها نتيجة لإحباطه المستمر من مسيرته الروائية المتواضعة وبعد حادث الابن.
ويبدو الاتهام في حقيقته ليس بالقتل أو بالسرقة الأدبية بل لأنها استطاعت تحقيق النجاح بينما فشل زوجها في ذات المسعى، وهي امرأة لا تعتذر عن تفوقها العملي أو عدم تخصيص وقتها للمهام المنزلية بينما تركز على مسيرتها المهنية والعمل في الترجمة بجانب الكتابة لسداد تكاليف ترميم المنزل والمصاريف اليومية، امرأة تتبادل مع زوجها الأدوار الجندرية المعتادة بسبب طبيعته النفسية الخاصة التي تكبله وتجعله غير قادر على استغلال مواهبه، وبينما هي تعيل أسرتها وتسد فراغات وجوده يصب عليها إحباطه وغضبه، ويتههما وخلفه المجتمع بأن وجودها القوي وشخصيتها الطاغية هما ما يشعراه بالضعف.
الكاميرا تفصح عما لا يقوله الحوار
أوضحت “تريت” وجهة نظر المحكمة في الزوجة بوضع الكاميرا طوال المحاكمة أسفل البطلة، لتظهرها من الأعلى عملاقة واثقة من نفسها لا يبدو على ملامحها الضعف أو الهلع من هذا الاتهام الذي قد يدمر حياتها، الأمر الذي يثير المزيد من غضب المدعي العام ويضعف موقفها في عيون المحلفين، بينما في مشاهدها الأخرى بالمنزل نجد الكاميرا في مستواها، وبمشاهد ضعفها مثل انهيارها بالبكاء تنظر إليها الكاميرا من الأعلى فتظهر هشاشتها.
وعلى الجانب الآخر، يظهر مشهد عرض التسجيل الصوتي بين الزوجين الرؤية المزدوجة بين ما حدث في الحقيقة وطريقة تلقيه من أعضاء هيئة المحكمة والمحلفين الذين يتبنون وجهة نظر الزوج القتيل، فالمشهد الذي تم تصويره في نور الشمس القوي يفضح استياء الزوج المتراكم من نجاح زوجته، ومحاولته قلب الحقائق حتى الواضحة منها، فعندما يتهمها بأنها سرقت جزءا رئيسيا من حبكة روايته غير المكتملة تخبره بأنه يمكنه إنهاءها ونشرها وستعلن أنه ملهمها ما يعني نجاح روايته بالتأكيد ولكن ذلك لا يخفف من غضبه، ويتكرر ذلك عند اتهامها بإهمال واجباتها المنزلية، بينما هو يعلم بأن ذلك يرجع بشكل أساسي إلى إصراره على العودة إلى فرنسا وشراء هذا المنزل الذي يحتاج إلى ترميم شامل يكلف الكثير من المال الذي لا يملكانه.
ووضعت اللغة حاجزا إضافيا بين الشخصية الرئيسية والمحكمة، فالكاتبة الألمانية لا تُحسن الحديث بالفرنسية وتستخدم الإنجليزية، الأمر الذي يجعل شهادتها مضطربة بإصرار المحكمة على تقديمها بالفرنسية التي لا تتمكن منها بشكل كافي للتعبير عن نفسها، وهو الاتهام ذاته الذي يلقيه عليها الزوج في التسجيل الصوتي، عندما يُظهر استيائه لعدم حديثها بالفرنسية، وإصرارها على الحديث بلغة مريحة لها، في حين أنها لا تستخدم بالأساس لغتها الأم أي الألمانية، واختارا سويا الإنجليزية لتكون وسيطة ومعبرة عن عائلتهما الأوروبية المنفتحة الطابع.
فيلم “تشريح السقوط” يُشَرِح بالفعل السقوط، ولكنه ليس سقوط الزوج من شرفة المنزل الذي يرممه، ولكن سقوط المجتمع الأوروبي الحديث الذي يظن نفسه تجاوز النظرة المزدوجة للمرأة والرجل، بينما لا يزال يحتفظ بها وتصبح نقطة الاتهام الرئيسية لبطلة الفيلم التي ذنبها الوحيد أنها كانت الطرف الأقوى في علاقة زوجية مضطربة.