هل تعرف ما معنى أن يرث المرء مفتاحا؟ أن يُختصر ميراث المرء وماضيه وذكرياته بمفتاح فحسب!
قدرُ كثيرٍ من الشعوب المظلومة محكوم بالتهجير والتشريد، ويدرك مَن عاين ذلك أنّ للأمر تَبعاتٍ لا تتوقف عند اللحظة التي يعيشها المرء باحثا فيها عن مأوى حقيقي وآمن ودافئ، بل يتعدّاه إلى البحث عن الهويّة الضائعة والنَّفس التائهة المتعثّرة في جنبات الحياة تطلّعا وتشوفا نحو انتماء يلم شعث المرء ويسكن فؤاده، فالروح دوما تواقة إلى السَّكن والاستقرار.
وإنّ التهجير والتشريد والإخراج من الديار هو المعادل الموضوعي للموت وخروج الروح من الجسد كما بيّن الله تعالى في سورة النساء: “وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ”.
لطالما كان الأدب حضنا دافئا للقلم الجريح والألم العبقري، يلوذ به فرسان اليراع للتخفّف من أعباء الحياة بالحديث عنها وتصويرها، فتبوح النفوس الشفيفة معتلية صهوة القلم، معرّية صفحة الزمان مسقطة عنها قناع الحياة المزركش بالآمال والآلام على حد سواء.
ماذا تعرف عن أدب اللجوء؟
في سياق أدب اللجوء تتشعب خطوط الشتات، فالتغريبة الفلسطينية حاكت أوتار الإبداع الأدبي بلا منافس! وتلتها بعد سنوات طويلة التغريبة العراقية فالسورية وغيرها… في أدب اللجوء تُكشف مواطن العَور، وتطفو الأخلاق الزائفة على سطح التجربة والمأساة، وتتبلور حرية الفكر والتعبير تمردا على الاستبداد والاحتلال والقمع والتهجير، فتغدو الكلمة سيفا!.
ومن الروايات المميزة التي تحدثت عن اللجوء الفلسطيني على سبيل الذكر لا الحصر، رواية للكاتب الروائي الفلسطيني علي الكردي بعنوان “قصر شمعايا” التي تجري أحداثها في حارات دمشق وأزقتها، بل في حارة اليهود تحديدا. أما أدب اللجوء أو النزوح –إذا جاز التعبير- على الجهة السورية فقد اشتعلت جذوته بعد سنة 1967 أي بعد النزوح من أرض الجولان السورية، فرواية “عجوز البحيرة” للروائي تيسير خلف تحدثت عن قصة النزوح السوري والفلسطيني من الجولان، فقد اضطر نحو مئة 130 ألفا من أبناء الجولان إلى ترك مرابعهم وحمل لواء الهجرة والتهجير لأجيال لاحقة.
عند الحديث عن حكايات اللجوء في الأدب فإن أول ما يتبادر إلى ذهننا كتابات غسان كنفاني الذي صوّر المعاناة الفلسطينية في أعماله الأدبية تصويرا دقيقا، وجعل من حرفه وكلماته معولا يقتلع اليأس من نفوس قُرائه، ويحثّ الفلسطينيين على التمرد والنهوض من جديد، وهذا ما نجده في روايته البديعة “رجال في الشمس” التي اختتمها بقوله “لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟”. وكذلك الأمر في روايته “عائد إلى حيفا”.
كيف تبدو صورة المخيمات في أدبنا العربي؟
مهما سمع المرء عن اللجوء يبقى عاجزا عن إدراك ماهيته حتى يتجرع مُرّ علقمه، فكما يقال، “ليس من رأى كمن سمع!”. ولعلنا جميعا سمعنا بعضا من حكايات الجدّات وروايات الأجداد عن ماضينا التليد الغني بالأحداث القاهرة والقتل والتهجير والتغريب، غير أن المرء لا يُعاين المعنى إلا في نفسه، وإن كان أديبا رقيقا فستصبح الآهات والصرخات المنبعثة من الماضي حروفا وكلمات من نار، تحكي قصص الإنسان المثقل بمعنى اللجوء!.
“الخيمة يا أم سعد هي الخيمة حتى لو كانت قصرا في المنفى، ما شأني إن لم يورق غصن الكرمة و كلانا ما عاد إلى حيفا” هكذا يشرح غسان كنفاني رؤيته للخيام، فحتى لو صارت قصورا ستبقى دلالة للتهجير ورمزا للتشريد والتغريب.
أما كلمة “المخيّم” فهي وحدها كفيلة اليوم باستدعاء آلاف الصور إلى مخيلاتنا العربية، فشعوبنا ذات باع طويل في مجال التهجير والتشريد، وتتداعى إلى رؤوسنا صور من البؤس والفقر والعوز والحاجة، وصور الخِيَم التي قد تتحول بالزمن إلى بيوت أو غرف صغيرة ترتصف بجوار بعضها وكأنها تتكئ على نظيرها البائس لتدعمه ويدعمها في ظروف معيشية تفتقر إلى أساسيات الحياة الإنسانية.
ونتخيل أنّ سكّان المخيمات مُبعَدون مهمّشون، لا يسعهم هامش الحياة ولا تقدر الحواشي على الإلمام بأوجاعهم كثرة وحسرة، لكنّ المخيّم صار جزءا من حياة كثيرين منّا، ولم يعد حكرا على أبناء فلسطين الجريحة الذين خاطبهم غسان كنفاني قائلا، ” لك شيء في هذا العالم، فقُمْ”. فمن النكبة إلى النكسة إلى العراق واليمن وسوريا تستمر حكاية اللجوء العربي.
لكن المخيم مذ كتب غسان كنفاني رواية “أم سعد” مستشرفا بذلك مستقبل أبناء المخيمات على وجه خاص وتحولهم إلى وقود حقيقي للثورة، مغيرا بذلك نظرة العالم إلى المخيمات بوصفها بؤرا للفساد، وقلبها 180 درجة لتصبح المخيمات منطلقا للثُّوار وموئلا للأحرار.
ماذا عن الصورة السلبية التي نقلها لنا الأدب حول المخيمات واللاجئين؟
لا أعتقد أن القصص والروايات التي صورت أحوال المخيمات واللاجئين تركت أثرًا سلبيًا حين صورت أنماطًا سيئة من البشر، فعلى الرغم من تكريس كثير من الأفكار الظالمة والمجحفة عن اللاجئين، لكنّ الإنصاف يستدعي القلم الحرّ والفكر المعتدل في تقييم الصور الأدبية التي نقلت لنا مثالب بعض اللاجئين، فبعض الصور التي صدّرها الأدب في القصص والروايات مثل حكاية “القميص المسروق” لغسان كنفاني، تلك القصة التي تصف أحوال الناس وتسلط الضوء على النفوس الجشعة والشخصيات الانتهازية والاستغلالية والخائنة لوطنها وأبناء جلدتها، لا تعني التعميم مطلقا، بل تعني الإنصاف وتحرّي الصدق والشفافية في نقل الواقع المعاش آنذاك.
ومثل هذه الصور تعد ظاهرة صحية في الأدب عامة، فهي نقدٌ اجتماعي يهدف إلى تصحيح المسار وإيضاح السبل بتعرية النفوس البشعة وإرشادها والعمل على تقويمها.
حين يكون اللاجئ أديبا فيلسوفا
حين نتحدث عن أدب اللجوء لا يمكننا أن نتجاوز أعمال الأديب الفلسطيني المبدع وليد سيف صاحب “التغريبة الفلسطينية”، فقد استطاع فيما قدّمه من أعمال أدبية وسيناريوهات تمثيلية، أن يعرض قضية اللجوء وما فيها من مآسٍ وندوب عميقة بلَبوس حَيٍّ وقريب، واستطاع أن يربطها بمعطياتها الثقافية وظروفها السياسية التي طوقتها ومنعت عنها أسباب الحياة، لا سيما أنه كان شاهدا فعليا منذ أيام طفولته، إذ يقول، “شَهدت طفولتي المبكرة مظاهر المأساة الفلسطينية مُمثلةً في معاناة اللاجئين، وتطور أوضاع المخيمات في الضفة الغربية، وأذكر أننا عندما كنا نتمشّى في سهل طولكرم المعروف كنا نصطدم بما يسمى (حدود الهدنة) فننظر إلى فلسطين المغتصبة من وراء تلك الحدود”.
ويكمل مصورا معنى الانتماء الذي نما في وعي الفلسطينيين مبكرا جدا، ومعنى الجهاد في سبيل الوطن والحق والعدالة، إذ يقول: “عندما بدأنا بتعلم القراءة والكتابة كانت الكلمة التي نخطّها بالطباشير على ألواح الصفوف هي (فلسطين)، وحين كان يُطلب منا أن نكتب موضوعا حرا في التعبير كنا نختار دائما وبصورة عفوية موضوعا يتعلق بفلسطين، والنكبة والتحرير والعودة التي نحلم بها”.
حين يوحّد اللجوء بين الفنانين والأدباء
هل خطر في بال ناجي العلي رسام الكاريكاتير المبدع وصاحب الرمز الشهير “حنظلة” حين رسم لوحة الخيمة الهرم أنها ستنال إعجاب أديب مثل غسان كنفاني الذي التقى معه في خاتمة الاغتيال والشّهادة، وأنها ستستوقفه ليسأل عنها، وعن العلاقة بين الهرم والخيمة؟
وقد جاء جواب ناجي العلي فريدا ولافتا، فقد قال -بتصرف- بلهجته الفلسطينيّة: “أولا: نحن الفلسطينيين نتميّز بالخيمة مثلما يتميز المصريون بالهرم، يعني لما تقول خيمة ستقول فلسطين، ولما تقول هرم ستقول مصر…، ثانيا: الهرم والخيمة مكان للسكن لهم ولنا، لكن هُم يسكنونها في موت الحياة يعني علامة للخلود، ونحن نسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة، وللخلود أيضا، ولكي تظل قضيتنا حمرة متل الجمرة، ويوم نحمل الخيمة ونلفها، نحمل فلسطين ونلفها أيضا”.
فأُعجب غسان بفلسفة ناجي، وسأله من أين له بهذه الأفكار، فكان جوابه بلهجته الفلسطينية المحببة مشيدا بأثر الظروف الصعبة التي عاشها في المخيم، لأنها السبب وراء صقل تجاربه الحياتية وتنمية ملكاته، إذ يقول: “ما قلنالك يا زلمة، هالدنيا علمتنا كل إشي. عليم الله هاذا المخيم لحاله فيه عِلْم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكوا عنها ببيروت!”.
ومن بديع ما ذكر في نهاية حوارهما أن ناجي العلي ربط بين حجر الهرم وقماش الخيمة موضحا العلاقة بينهما بقوله: “ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر! وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة.. لا من قصور ولا من علالي، وسلامة تسلمك!”.
تبادل الخبرات بين اللاجئين
من المضحك المبكي في الآن نفسه أن يتبادل اللاجئون خبراتهم في اللجوء والخيمة والتعامل مع واقع التشريد الجديد، فيكون الأدب هو البريدُ الموصل لهذه الرسائل، كما فعل الأديب الفلسطيني إبراهيم جابر إبراهيم عندما كتب “رسالة من لاجئ فلسطيني للاجئ سوري” مع بدايات موجة اللجوء السوريّ عام 2011، ينقل فيها وصايا اللاجئ الفلسطيني، الذي له خبرة عقود في معاناة اللجوء، وخبراته، فيقول: “عليك أن تعتاد أشياءك الجديدة: أنت الآن رقم في سجلات اللاجئين وفي نشرات الأخبار، وفي اجتماعات اللجان ومساعي الوفود، ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى، ثم في السنة الأولى، بعد ذلك ستصير ودودة كواحد من العائلة، لكن حاذر أن تقع في حبها، كما فعلنا!”.
“لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون لكم مركزا صحيا، أو مدرسةً ابتدائية، هذا خبرٌ غير سارّ أبدا!”
“وإيّاك أن تتورط بمطالبات غبية مثل بناء بيوت بسيطة بدل الخيام، أو بخطوط مياه وكهرباء، ذلك يعني أنك بدأت تتعايش.. وهنا مَقتلُ اللاجئ، وإن استرحتَ يوما فهذا يعني أنك لم تعد تلهثُ باتجاه (العودة)! ولا تُدرّب أولادك على الصبر، الصبر حيلة العاجز، وذريعة مَن تَخلّى”.
بكلّ وجعٍ وألم يصوّر لأخيه اللاجئ المستجدّ في جامعة التشريد كيف سيتاجر النّاس بأوجاعه وآلامه، فيقول: “سيبيعك الناس لبعضهم، تلك هواية السياسيين، وسيجيء المتضامنون من كل البلاد، ستصير أنتَ شعارهم الانتخابي، ويتقربون بك إلى الله، وستزداد همّة الناس في تفقّدك في “رمضان” وفي الأعياد والمناسبات الدينية! والبعض سيصوّر أطفالك منهكين وجائعين لمجرد أن يحصل على مكافأة من رئيس التحرير أو مدير المحطّة”.
ويلتقي إبراهيم جبرا مع غسّان كنفاني في أنّ كلّ الخيام تشبه بعضها، وأنّ على اللاجئ أن لا يستسلم لتخدير التعامل الإنسانيّ مع اللاجئ، فيقول: “تلك حياتك الجديدة: سينشب حبٌ في الخيام، ويولد رَسّامٌ موهوب، وسيولد أيضا عميلٌ وعاهرة، لا تشكُ حرارة الطقس أو الحصى في الخبز، وحاذر أن تطالب بخيمةٍ أفضل، ليس ثمة خيمة أفضل من خيمة، وقل لهم إن مشكلتك ليست عاطفية ولن تحلّها زيارة أنجلينا جولي”.
وكم صدق ناجي العلي إذ ختم بقوله لغسّان كنفاني: “وسلامة تسلمك”.