“لكم قال الخبراء وعلماء البحر: إن الرياح عتية والإبحار مستحيل، ولم يثن هذا الرفاعي، من كل لحظة في عمر هذه الدنيا سيجيء، سيبدو للكل، من رآهم ومن سيعمل معهم، ومن سيلتقي بهم على غير اتفاق، سيظهر في الجهات الأربع الأصلية، ويسري إلى الكل، عندئذ سيمضون إليه، فواحد يحنو عليه، يضمه، وآخر برداء الحرب يظلله، وآخر بالصمت ينظر إلى وجهه، وآخر في الهجوم يفديه وآخر قبل الاقتحام يستأذنه، وآخر بعد الجرح يلوذ بجانبه، وآخر يقول: نأيت عنا زمنا طويلا ولم نعتد منك البعد، فيقول أبو الفضل عندئذ: كان سكنه في العمر وضريحه في قلبي”.
هكذا تحدث الروائي المصري جمال الغيطاني عن أحد أبطال حرب أكتوبر 1973 وأحد قادتها وشهدائها في روايته “الرفاعي”، ففي الحرب يتعانق القلم مع البندقية، وإقدام الجندي مع جموح خيال الأديب، فيغدو الأدب صنو القتال محفزا للمعركة حين اشتعالها ومؤرخا مصورا لها بعد انقضائها.
ماذا عن الأدب وتفاصيل الحرب؟
دعونا نتفق بداية أن الأدب وإن كان انعكاسا للواقع إلا أنه لا يصوره تصويرا حرفيا، وفي هذه النقطة يختلف عن التأريخ التفصيلي الذي ينقل الأحداث بدقة ويصورها بحرفيتها، فهو ضرب من التأريخ الإجمالي للحدث.
إن الأدب نتاج إنساني بحت، وما دام كذلك فهو قابل للتفاوت والخضوع لنفسية صاحبه ومزاجه وأفكاره ومحاكماته ونظرته للأمور ورؤاه وتطلعاته، فالموضوعية في الأدب حكاية مفتوحة، ومسرح مترامي الأطراف! والأدب حقيقة أشبه بمرآة تعكس الوقائع والأحداث فتكبر بعضها وتضيق زواياها عن الإحاطة بحجم بعضها والوفاء بحقها، وكلنا ندرك جيدا ما معنى اختلاف المرايا وتموضعها، والأمر نفسه يسحب باتجاه الأدب، إذ لطالما كانت الحروب العالمية والانتصارات الكبرى مصدر إلهام لأعمال أدبية خالدة.
لا شك أن حرب أكتوبر كانت انتصارا نفسيا للإنسان العربي والمقاتل العربي على نفسه وأوهامه وما صنع من أساطير حول الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، بغض النظر عن نتائجها العسكرية على الأرض، وإلى هذا المعنى يشير توفيق الحكيم في مقاله “عبرنا الهزيمة” إذ يقول “عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك، فإن الأهم الوثبة، نعم عبرنا الهزيمة في الروح”.
وقد كتب عن حرب أكتوبر التحريرية وحولها أعمال أدبية تشمل الشعر والقصة والرواية، لكن تفترق الآراء حول وفاء الأدب بحق هذا الانتصار وتصديره بنصوص أدبية توازي النصوص الأدبية العالمية التي تحدثت عن الحروب العالمية الكبرى، إذ يرى بعض الروائيين والنقاد أن الرواية العربية لا تعطي حرب أكتوبر حقها، وهناك من يفسر ذلك بأن ما خلفته تلك الحرب كان السبب الرئيس وراء قلة الاحتفاء بها في الفن والأدب، إذ يذهب الصحفي والناقد المصري فاروق عبد القادر المتخصص في دراسة علم النفس في كلية الآداب، إلى أن شعور الشعوب بالخيبة، وإجهاض فكرة الانتصار الساحق سريع التحقق، أثر سلبيا على مسار الإبداع الفني والأدبي، ويعلل ذلك مميزا بين فكرة انتصار السلاح المذهل وتراجع السياسة مباشرة في أثناء الهجوم العسكري وحدّها من إقدام الجنود وآلياتهم، مما أدى إلى تقهقر نفسي عام وصلت تداعياته إلى الشعوب العربية كلها.
ما أهمية المعاصرة في الروايات التي جسدت حرب أكتوبر؟
قد يرى بعض المفكرين والأدباء أن الكتابة عن الحروب وتداعياتها يجب أن تزامن حدوثها، فالوقائع تكون حية والذاكرة قريبة وقادرة على التقاط التفاصيل التي قد تغيب بفعل امتداد الزمن، لكن ذلك يستدعي بالضرورة المعاصرة الفعلية للوقائع أو الأشخاص الذين كانوا في خضم الأحداث.
في الحقيقة تبدو فكرة الجندي الأديب أو الشاعر مثيرة للاهتمام، فماذا لو استطاع العسكري نفسه أن يصور لنا ما عاشه من مشاعر إنسانية مختلطة، يحدثنا عن خوفه ويأس رفاقه من حوله في أحيان، وعن بهجتهم بإحراز التقدم والنصر، وعن ثورانهم وتعاقب الأمل واليأس في نفوسهم في أحيان أخرى، ماذا لو استطاع أن ينقل لنا أحاديثهم وأفكارهم وهم في الخنادق وتحت وطأة الحصار والقصف، وفي مواجهة الموت والمصير المجهول، وكأن الموت والنصر يتجاذبان دفتي حيواتهم الملقاة بينهما!.
وهذا ما فعله تماما الروائي وضابط الجيش المصري السابق علاء مصطفى في روايته “دوي الصمت”، إذ تعد هذه الرواية رصدا حقيقيا لما عاشه وعاناه منذ نكسة يونيو/حزيران 1967 إلى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وقد نجح كاتبها في تحقيق المعادلة الصعبة في المزج بين التفاصيل الفنية والواقعية لسير المعارك العسكرية، وبين الجانب الأدبي المحلق بالتصوير والمفعم بالمشاعر والروح الإنسانية الفياضة التي تجسد معاني الحرب وما يحفها من مشاعر مختلطة، وما فيها من قصص الحب العارم.
سيقول آخرون اعتراضا: ومتى كان الأدب محض أداة لتصوير الأحداث والوقائع تصويرا فوتوغرافيا؟!
لم يكن، وما هو بذلك، لكنه يبدو بديعا حين يكون مختلطا بخفايا النفوس التي يتجاذبها الأمل والألم وهي في سراديب الحروب وعلى جبهاتها.
ويعبر عن هذا المعنى الأديب الروائي السوري عبد السلام العجيلي الذي كتب روايته “أزاهير تشرين المدماة” ليجمع فيها بين التأريخ والفن في قالب أدبي رفيع، إذ يتحدث فيها عن يوميات مقاتل في الحرب، ويقول في مقدمتها “روايتي هذه قصة إطارها متخيل، وأحداثها واقعة، وقد انتقيت لأغلب أبطالها الواقعيين أسماء مستعارة، وإذا كان فيها من أسماء حقيقية فهي لمن استشهدوا وقضوا في سبيل وطنهم والمثل العليا”.
ثم يقول: “هي عمل أدبي مقتضب لم يتسع إلا للمع ضئيلة من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وبطولاتها في مختلف ساحات القتال، وأنا أعترف بعجزي عن إيفاء هذه اللمع حقها من الوصف فيما كتبت، فالكتابة مهما بلغت من الإعجاز لا تستطيع الإحاطة بالواقع كل الإحاطة، فكيف إذا كان الواقع خوضا للمخاطر، والتضحية بالنفس والسير إلى الموت اختيارا ودون تهيب لصد المعتدي وصيانة تربة الوطن المقدسة”.
روايات على الجبهة السورية
ربما كان انفعال الكتاب والأدباء بالحرب ومفاجأتهم بأحداثها ودهشتهم من سيرها، وراء ميلهم إلى كتابة المقالات عنها أكثر من ميلهم إلى تطريز إبداعات طويلة النفس، لكن هذا لا ينفي وجود عدد من الروايات بالغة التميز لأدباء كبار سطرت حرب أكتوبر بأدب رفيع.
سطر الروائي حنا مينة رواية بالغة التألق تربو على 300 صفحة، سماها “المرصد”، وهو موقع بالغ التحصين، بنته إسرائيل على قمة مرتفعة في جبل الشيخ، يكاد يكون من الاستحالة الوصول إليه فضلا عن اقتحامه، لكن جنود المشاة على الجبهة السورية فعلوا هذا المستحيل وعاشوا لحظة النصر بإنزال العلم الإسرائيلي، وعندما بدؤوا باستكشاف المرصد وجدوه زاخرا بالأجهزة التقنية، وكانت المفاجأة بعد سلسلة من الاقتحامات لطوابق المرصد أنهم وجدوا جنودا إسرائيليين فقدوا ثقتهم بأنفسهم فاختبؤوا والرعب يملأ قلوبهم على الرغم من أنهم كانوا مدججين بعتادهم الكامل.
وقريبا من الجبهة الروائية السورية جاءت رواية “رفقة السلاح والقمر” للروائي المغربي مبارك ربيع، التي صدرت عام 1976، وفازت بالجائزة الأولى للمجمع اللغوي بالقاهرة سنة 1975م، وتعد من أهم الروايات الأدبية التي تحدثت عن حرب أكتوبر وعن العلاقة الوثيقة بين أبناء الأمة الواحدة ومشاركة الجنود المغاربة وتسطير البطولات الملحمية على جبهة القتال السورية.
أما كتاب “سنوات الحب والحرب” للأديبة السورية كوليت خوري فقد كان مجموعة من القصص القصيرة والمقالات الأدبية التي تحدثت فيها عن بطولات حرب أكتوبر وما سبقها من أحداث كاغتيال الشاعر والقائد الفلسطيني كمال ناصر والقائدين الفلسطينيين البارزين كمال عدوان وأبو يوسف النجار.
روايات على الجبهة المصرية
أبدع الروائيون المصريون أيضا في تسطير بطولات حرب أكتوبر، وتحديدا ما كان على الجبهة المصرية، وتعد رواية “الرفاعي” للروائي جمال الغيطاني من أبرز تلك الروايات وأهمها، فقد كان جمال نفسه مراسلا حربيا في الفترة ما بين 1969 و1973، فعاين الهزيمة وما تلاها والحرب التي أعادت شيئا من روح الانتصار.
ورواية “الرفاعي” تعد من أقدم ما كتب عن العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي الذي يوصف أنه أمير شهداء أكتوبر، وقد كتبها الغيطاني سنة 1976، وصدرت لتكون في أيدي القراء سنة 1978، وعنها يقول الغيطاني “كلمة الرفاعي في الموروث الشعبي المصري تشير إلى ذلك الشخص الخبير في اجتذاب الأفاعي والقضاء عليها، ويبدو أن مقولة (إن كلا منا له نصيب من اسمه) صحيحة، فها هي تصدق مع العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي الذي يمكن تسميته برفاعي الصهاينة”.
لم يكتف الغيطاني بروايته “الرفاعي” عن حرب أكتوبر، بل ضم إليها مجموعته القصصية “حكايات الغريب” التي سلطت الضوء بتركيز كبير على روح أكتوبر التي تفجرت شعبيا، لا سيما في أثناء حصار السويس، فيومها وجد المواطن المصري البسيط نفسه أمام تحد كبير، فكان على قدر التحدي ورفض أن يترك أرضه، ودافع عنها بكل ما يمكنه من قوة.
وقصة “حكايات الغريب” نفسها تجسد قصة حقيقية لسائق بمؤسسة صحفية، هو عبد العزيز محمود، الذي قتل في فترة حصار السويس، وهي قصة وثقها الغيطاني بنفسه إبان عمله مراسلا حربيا، وقد تحولت هذه المجموعة إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه، وقد لعب بطولته محمود الجندي ومحمد منير ونهلة رأفت.
وكذلك كانت رواية “الرصاصة لا تزال في جيبي” لإحسان عبد القدوس من أوائل الروايات التي تحدثت عن حرب أكتوبر فقد صدرت عام 1974، وتدور أحداث الرواية حول شخصية “محمد” الذي يضل طريقه في الصحراء شهورا طويلة محتفظا برصاصة في جيبه، تلك الرصاصة التي احتفظ بها منذ نكسة يونيو 1967، وهو يتوق إلى استخدامها بنفسه في أول مواجهة حقيقية مع إسرائيل، وبالفعل يحقق حلمه في النهاية بالمشاركة في حرب أكتوبر وعبور قناة السويس، وقد تم تجسيد هذه الرواية في فيلم يحمل نفس اسمها، تم إنتاجه عام 1974، ولعب بطولته مجموعة من الفنانين الكبار أمثال محمود ياسين وحسين فهمي ويوسف شعبان وصلاح السعدني وسعيد صالح.
وعلى الرغم من هذه الروايات وغيرها وعلى جبهات عد، فإن كثيرا من النقاد ما يزال يرى أن الرواية العربية قصرت بحق حرب أكتوبر مواكبة ومتابعة، ولعل ذلك يعود إلى شعور اللهفة للنصر والتوق له في زمن الهزائم المتلاحقة، وشعورهم أن انتصار الإنسان العربي على خوفه في حرب أكتوبر يستحق أكثر مما هو مسطور ومنشور في عالم الرواية العربية.