في هذه الزاوية الثقافية “نصوص في الذاكرة” تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة.
وهذه الحلقة نصوص مختارة للشيخ محمود محمد شاكر، أبو فهر (1909-1997) وهو أديب ومحقق مصري، دافع عن العربية في مواجهة التغريب، اطلع على كتب التراث، وحقق العديد منها، صاحب منهج التذوق في الشعر، خاض كثيرا من المعارك الأدبية حول أصالة الثقافة العربية، ومصادر الشعر الجاهلي، حفظ ديوان المتنبي كاملا وعمره 12 عاما.
وبعد اجتيازه الثانوية تعذر التحاقه بكلية الآداب لانتسابه إلى القسم العلمي، لكنه بوساطة من الدكتور طه حسين وزير المعارف لدى أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك استطاع أن يلتحق بها وعمره دون الـ16 سنة.
وفي الجامعة لم يكن كأي طالب، بل كان أستاذا في موقع الطلاب، استمع شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي، وكانت صدمته حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل، وأنه كذب ملفق، وجد نفسه عاجزا، تمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشا أستاذه، وعندما رد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سطو على أفكار بعض المستشرقين.
ومع هذا الموقف ترك الجامعة وهو في السنة الثانية؛ لأنه لم يعد يثق بها، وسافر إلى جدة مهاجرا، وكان عمره أقل من 19 عاما، وأسس، بناء على طلب الملك عبد العزيز آل سعود، مدرسة جدة السعودية الابتدائية، وعمل مديرا لها، حتى استدعاه والده الشيخ، فعاد إلى القاهرة سنة 1929.
وكان الشيخ محمود شاكر -برغم صغر سنه- من كتاب مجلة الرسالة الدائمين، والرسالة مجلة ثقافية أسبوعية عربية صدر منها 1025 عددا، وكانت منصة لإطلاق عدد كبير من الكتاب والأدباء والشعراء المصريين والعرب، ظهر العدد الأول في 15 يناير/كانون الثاني 1933، ولفظت آخر أنفاسها مع عددها الأخير في 23 فبراير/شباط 1953 بعد شهور قليلة من ثورة الضباط في مصر، ترأس تحريرها الأديب المصري أحمد حسن الزيات (1885-1968).
وتصدت مجلة الرسالة للدفاع عن القضية الفلسطينية منذ أعدادها الأولى، وكان الشيخ محمود شاكر من الكتاب الذين شغلهم الهم الفلسطيني، وانطلق يكتب ويؤازر الفلسطينيين، ويندد بالسياسات البريطانية والأميركية على الأرض المقدسة ودعمهم لإسرائيل وخيانتهم المستمرة للعرب.
وكتب الشيخ شاكر عددا من المقالات عن فلسطين خلال محنة التقسيم وحرب 1948، وطالب المسلمين والعرب بالتصدي للمؤامرة التي تحيكها الدول الاستعمارية لطرد الفلسطينيين وتأسيس الوطن القومي لليهود على التراب الفلسطيني، وفي هذه النصوص المختارة بعض ما كتبه شاكر بتصرف محدود:
“لا تقبلوا مساعدة ولا تنتظروا عطفا”
في مجلة الرسالة -العدد 744- في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1947 كتب مقالة بعنوان “لا هَوَادة بعد اليوم” موجها حديثه للعرب جميعا، مؤكدا أن الجهاد للدفاع عن فلسطين هو فرض عين على كل عربي:
لا يحل لعربي منذ اليوم أن يرفع يده عن سلاح يعده لقتال عدو قد أحاطت به جيوشه من كل ناحية، ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يدع ثغرة من ثغور العدى إلا سدها بنفسه أو ولده أو صديقه، ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يضع عن عاتقه عبء الكد والكدح التماسا للراحة أو الدعة.
ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يتواكل ويقول لنفسه “لقد تعبت، وما يضرني أن أترك هذا لفلان فهو كافيه”، ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقول “غدا أفعل ما حقه أن يفعل اليوم”، ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يخدع نفسه عن حرب دائرة الرحى بيننا وبين إسرائيل وأشياعهم من أمم الأرض.
ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يكتم الحق عن أهله أو عن عدوه، ويقول هذه سياسة وكياسة وترفق، ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يمالئ قوما يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق.
ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقبل من رجال السياسة تأجيل شيء من قضايا العرب، فهي كل مترابط لا ينفك منها شيء عن شيء.
لا تنتظروا مساعدة ولا عطفا من أحد، كيف تستجدون العطف من أميركا وبريطانيا وهم سبب المشكلة وبكم لا يبالون؟.
وكيف تعطف بريطانيا وهي التي ورطَّت الدنيا كلها في مشكلة فلسطين، ثم تجيء فتطلب من هذه الدنيا أن تحل المشكلة لها؟ وكيف تعطف أميركا وهي التي تمد إسرائيل بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟.
وكيف وهي التي تبيح لشركات النشر والإذاعة والصحافة أن تدلس وتكذب وتخدع في شأن العرب، ولا تجد منكرا ينكر، ولا لسانا يدافع، ولا قلما يشمئز من هذه الوسائل التي تطفح بالغدر والبغي والنذالة؟.
آخر الحروب الصليبية
وفي مقال بعنوان ” حديث الدولتين، نٌشر في مجلة الرسالة، العدد 746 في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1947، يبين دور الغدر الذي لعبته بريطانيا في تمكين إسرائيل من أرض فلسطين، وكتب يقول:
الآن حصحص الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول ها أنذا فاعرفوني، فهذه بريطانيا أم المكر والدسائس قد دخلت أرض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة (هذه آخر حرب صليبية)، فكان ذلك إعلانا عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة أن نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى.
ولما ثار العرب يطلبون حقهم، ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من أرض الآباء والأجداد، وقفت بريطانيا تذود عن باطل إسرائيل، فتفتك بالعرب فتكا وحشيا، تعذب طلاب الحق، وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة.
وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية في مخادعة ساسة العرب، حتى لانوا وانخدعوا بأن بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب أوزارها.
وانتهت الحرب.. فإذا أميركا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم، ولا بسمعتها في دواوين التاريخ. وإذا هي أشد بغيا على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف.
لبيك فلسطين
وتحت عنوان “لبيك يا فلسطين” كتب الشيخ محمود شاكر في مجلة الرسالة العدد 752 في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1947، يصف كيف خذلت بريطانيا العرب، وأرادت أن ترحل بجنودها عن فلسطين بعد أن مكنت إسرائيل منها تماما، وتركتهم ليملؤوا الفراغ بعد جلائها، في الوقت نفسه تتفق روسيا مع أميركا على تقسيم فلسطين، ويوجه حديثه للساسة العرب والحكام الشرقيين:
ثم بقي شيء ينبغي لكل عربي أن يعلمه، ولا سيما أولئك الذين يتعرضون اليوم لسياسة هذا الشرق العربي، وهذا الشرق الإسلامي كله -هو أن إقدام هذه الدول الثلاث (بريطانيا وأميركا وروسيا) على مناصرة المجرمين الصهيونيين تنطوي على معنى قد استقر في أنفسهم وغلب عليها، وهو احتقارهم للعرب وازدراؤهم لهم ولمدنيتهم ودينهم وحضارتهم واجتماعهم ودولهم وملوكهم، وقديمهم وحديثهم، وأن هذا لبان ارتضعوه منذ كانت الحروب الصليبية، وأن الثقافة والعلم وسهولة اتصال الأمم بعضها ببعض، كل ذلك لم يغير من شيء من عقائد الصليبية الأولى في هذا الشرق العربي، وكل ذلك لم ينفع شيئا في نزع السم الذي اختلط بالدماء، وجرى في العروق مع نسمات الهواء ومضغات الغذاء.
ويؤكد أن العرب سيخرجون مظفرين مهما لقوا من عنت، وأنهم لا ينامون على ذل أبدا، فلتعلم هذا روسيا ولتعلمه بريطانيا، ولتعلمه أميركا، وليعلمه الأفاقون من إسرائيل.
ولقد نادت فلسطين غير نيام، نادت أيقاظا يحملون بين ضلوعهم تلك الشعلة الخالدة في تاريخ الإنسانية، والتي نحن القوام عليها والقائمون بها، والتي سنحملها حيثما سرنا في الأرض -شعلة الإيمان بالله الواحد القهار- إن كل سلاح، سلاح مفلول إذا لقي سلاحنا، لأننا لا نقاتل بالتدمير والخراب، بل بالتعمير والإنشاء، ورد الحقوق على أهلها، وإن كانوا قد ظلمونا ونكلوا بنا من قبل. ولتعلم هذه الأمم العدو لنا جميعا أن المعجزة التي كانت يوما ما، سوف تكون مرة أخرى يوم ننبعث من ظلماء هذه الحوادث سراعا إلى نجدة أمنا فلسطين.
أنا جندي في المعركة
وفي مقال “إياكم والمهادنة” المنشور بمجلة الرسالة في العدد 756 في آخر ديسمبر/كانون الأول 1947، يتحدث عن مخافته من ثقل الكلمة وحمل أمانة القلم، وأن من تردد أو حجم عن كلمة الحق في شأن ما تتعرض له فلسطين من أخطار، فقد خان الأمانة وأثم قلبه:
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهارا في غير جمجمة ولا إدهان، ولو عرفت أن أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت بها إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم. وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئا يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه، فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا، ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب.
وأنا جندي من جنود هذه العربية، ولو عرفت أني سوف أحمل سيفا أو سلاحا أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينتهي الناس، أو يخدعهم أو يغرر بهم، أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر إسرائيل.. إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، وهو اليوم لا يسمع للساسة إلا كما يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم وتجاربهم وعقلهم ما يهديهم ويقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت، وهو يدب والغا في دم أو منشبا مخالبه في فريسة. ارحموا الناس وارحموا أنفسكم أيها الرجال.
ويحكم هبوا
وفي مقال بمجلة الرسالة العدد 757 في الخامس من يناير/كانون الثاني 1948 بعنوان “ويحكم هبوا!” يصيح في العرب والمسلمين أن يستنهضوا قواهم للدفاع عن فلسطين:
أيها العرب! أيها المسلمون! إنكم لا تغلبون اليوم عن قلة، ولأن كتب الله عليكم أن تغلبوا، فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، وما اجترحت أيديكم، وما فرطت عقولكم، وما نسيت قلوبكم، وما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم وأسلافكم وذريتكم، ووالله ما أراكم تغلبون عن جهالة، فقد وهبكم الله عقولا راجحة، ونفوسا حرة، وعزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر.
وأن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم وخاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي وصدقتم العزم، وعرفتم عدوكم من صديقكم -ولا أرى لكم في هذه الدنيا صديقا- فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجا مستقيما وصراطا سويا.
انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال إسرائيل مكانا يتبوأه طغاة المال وطواغيت الفجور وأبالسة الشر، وقد أخذوا يمدونهم بالمال والسلاح ليقهروكم وتكون لهم الكبرياء في هذه الأرض.
إنها ساعة في تاريخكم ليس يعدها إلا النصر أو الهزيمة، وكل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، ولا يعذره أداء حقها شيء. وأنتم 400 مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفا واحدا وبنيانا مرصوصا، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، ولن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه الأرض، فتماسكوا وتقاربوا وتعاونوا، ولا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم وأسلافكم في آلاف السنين، وأنتم الأعلون إن شاء الله، ولإسرائيل الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها العرب! أيها المسلمون! لا تهابوا أهل العصبية في أميركا وأوروبا، ولا تثقوا بأحد منهم، ولا تهادنوهم في حقكم، ولا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدروا بكم وتألبوا عليكم وامتهنوكم وقابلوا حقكم بالازدراء والتحقير في هيئة الأمم المتحدة، وأنكروا كل يد أسديتموها إليهم، ومزقوا أوطانكم.
يا ساسة العرب!
إياكم وخداع الناس، ولا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم، ثم غضب الناس عليكم، ولا تبيعوا تاريخكم وتاريخ آبائكم وذريتكم بعرض زائل ومجد مزيف، واعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين ولا واعظين ولا متهاونين. واعلموا أنها الحرب شذاذ الأمم وصعاليك إسرائيل بين ظهرانيكم، والبغاة الطغاة عن أيمانكم وعن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب والمسلمين ويطحنوهم طحنا.
فهبوا جميعا إلى الجهاد فمن نجا، فقد فاز بالنصر وبرضوان الله عليه، ومن قتل فقد فاز بالشهادة وجنة الخلد والذكر الذي لا يفنى. “كُلُّ نَفس ذائقة الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”.