من الثورة إلى الشعبوية.. سلالات التفكير السياسي في أميركا

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

شكّل تاريخ الولايات المتحدة المبكر ملامح ومحددات التفكير السياسي الأميركي لدى النخب والجماهير، وبناء على المواقف المتخذة منها تكوّنت الأيديولوجيات والسلالات السياسية الأميركية.

واستعرض الجزء الأول من هذه القراءة لتاريخ السلالات السياسية في أميركا قصة الهجرة ووصول المستوطنين الأوروبيين للعالم الجديد، وبداية تشكّل المستعمرات اجتماعيا وثقافيا ودينيا، وسمات ذلك التشكيل المبكر عبر مجموعة القضايا والاهتمامات الرئيسة، ومنها حلم المهاجرين للوصول لأرض الميعاد وبلاد اللبن والعسل، والتحرر من عسف الكنيسة وملوك أوروبا، والحرية الدينية، والتطلع للمجد والقوة والشهرة، والاعتقاد بفرادة التجربة الأميركية في تاريخ الحضارة، وأخيرا الحق في التسلح وسيادة الفرد.

ويناقش هذا الموضوع الحقبة ما بعد نجاح الثورة الأميركية ضد البريطانيين، وبزوغ التجربة الدستورية ثم حقبة الشعبوية.

 التفكير الدستوري والسياسي

بعد نجاح الثورة الأميركية، صادقت الولايات على الدستور الكونفدرالي في 1781، وبناء عليه أقيمت حكومة مركزية للولايات الأميركية لتخلف الكونغرس القاري الذي غطت مهامه مرحلة 1775-1781. تعلمت الولايات الأميركية من تجربتها مع الحكم الاستعماري البريطاني أن تشك دائما في سلطات الحكومة المركزية.

لذلك كانت الولايات تفضل تكوين حكومة مركزية ضعيفة، لا تنافس أو تتجاوز سلطات حكومات الولايات المستقرة؛ مما أدى لإضعاف سلطات الحكومة المركزية المنصوص عليها في الدستور الكونفدرالي. وقد أعطيت لحكومات الولايات سلطات واسعة ومستقلة عن الحكومة المركزية.

بيد أنه عندما ثبت ضعف هذه الصيغة من الحكم الكونفدرالي وعدم مناسبته لمصالح البلاد المستجدة، أفلحت الجهود في إلغاء الدستور الكونفدرالي ووضع دستور جديد، يتكون بمقتضاه اتحاد فدرالي يمكن بواسطته التخلص من نقاط الضعف التي وجدت في نظام الحكم الكونفدرالي السابق.

في 1787، عُقد المؤتمر الدستوري لصياغة دستور فدرالي (اتحادي) بهدف إقامة حكومة مركزية فاعلة تختلف عن الحكومة المركزية في الدستور الكونفدرالي السابق. كان أبرز الداعين لحكومة مركزية قوية في المؤتمر ألكسندر هاملتن، وقاد جيمس ماديسُن الملقب بـ”أبو الدستور” مناقشات المؤتمر وسجل محاضر اجتماعاته، وطرح مبادرة الولايات الكبرى سكانيا بإقامة مجلس كونغرس واحد يعكس تمثيل الأوزان السكانية للولايات.

ولُقِّب بنجامين فرانكلين بـ “حكيم المؤتمر”، إذ كان يسهم في تهدئة الحاضرين لدى احتدام النقاش أحيانا. وبسبب تخوفه من صياغة حكومة مركزية قوية، لم يحضر باتريك هنري المؤتمر، بينما كان توماس جفرسُن، وهو من أنصار حقوق الولايات، غائبا -أيضا- عن المؤتمر حيث كان وزيرا مفوضا للحكومة الكونفدرالية في فرنسا.

كانت غالبية الممثلين الذين حضروا المؤتمر من المثقفين صغار السن، لكنهم كانوا -كذلك- من كبار الملاك والمحامين المشهورين المحافظين في التفكير ومن دعاة الفدرالية، ويمثلون طبقة كبار الملاك ذات المصلحة العليا في إيجاد حكومة مركزية قوية. وهكذا تمكن المؤتمر من معالجة أوجه القصور في الدستور الكونفدرالي، بما يؤدي لإقامة دولة مركزية فعالة ووحدة قوية، وبدت الصيغة الجديدة حكومة عملية ذات فعالية.

وأسفر المؤتمر عن تسوية وسط للجمع بين نظامي التمثيل السكاني النيابي المفضل للولايات الكبرى: مجلس النواب، ومجلس شيوخ لتمثيل الولايات على قدم المساواة، بصرف النظر عن أوزانها السكانية، وهذا ما أطلق عليه “التسوية الكبرى”.

رغم التصديق على الدستور في سبتمبر/أيلول 1787، أسفرت الساحة السياسية عن نخبتين متميزتين:

  • إحداهما: الفدراليون المؤيدون للدولة المركزية القوية؛ وأبرزهم: جون آدمز الرئيس الثاني للولايات المتحدة، ووزير المالية ألكسندر هاملتن، وعبّرت عن توجهها بحزب سياسي أسسه الأخير، وحمل الاسم نفسه، “الفدرالي”، ودام في الفترة (1792-1816).
  • الأخرى: المعارضة للفدرالية، وعبّرت عن توجهها نحو ترجيح سلطات الولايات بحزب آخر أسّسه الرئيس الثالث توماس جفرسن والرئيس الرابع جيمس ماديسن في 1793، وسُمي الحزب الجمهوري الديمقراطي، وسيطر الحزب على مقاليد الأمور بين 1800 و1824 حتى انقسم إلى مجموعات متنافسة، إحداها عُرفت بالحزب الديمقراطي (المبكر)، وهو السلف الذي تمخض عنه الحزب الديمقراطي الراهن، الذي يُعدّ جفرسن الأب الروحي المؤسس له. حافظ الرئيس الأول جورج واشنطن على استقلاله طيلة سنوات رئاسته، رغم كونه أقرب إلى الفدراليين.

رغم انفراط عقد الحزب الفدرالي عقب الحرب الأميركية البريطانية في 1812، وخسارة الفدراليين لصدقيتهم الوطنية، لكونهم محسوبين تقليديا على النفوذ البريطاني، لم تتوار الفكرة الفدرالية في الحياة الدستورية والسياسية؛ بل استمرت سيرتها وتأثيراتها الفاعلة على يد القاضي جون مارشال الذي كان فدرالي القناعات والانتماء، وقد عيّنه الرئيس الفدرالي الوحيد في التاريخ الأميركي، جون آدمز، رئيسا للمحكمة العليا (الاتحادية) في 1801 واستمر كذلك حتى 1835.

ومنذ بداية القرن الـ19، أدت هذه المحكمة دورا بارزا في إيجاد الأسس القانونية التي ثبتت دعائم الحكم المركزي، وكان لمارشال الأثر المهم في دعم نظريات الفدراليين.

وأصدر أحكاما في عدد كبير من القضايا الدستورية، ولم يَحِد أبدا في قراراته عن مبدأ “سيادة الحكومة الفدرالية”، بل كان يرى أن الدستور يعطي الحكومة سلطات أخرى ضمنية، بجانب السلطات الصريحة. وهكذا ترك مارشال أثرا بالغا في دور وسيرة المحكمة العليا في سياق سعيه لجعل الحكومة الفدرالية ذات قوة وفعالية.

من ناحيته، انحاز الحزب الجمهوري الديمقراطي إلى الفلاحين ومنحهم الأولوية على المصالح المالية للصيارفة والصناعيين والتجار، بيد أنه شمل نطاقا واسعا من وجهات النظر حول قضايا التجارة والأشغال العامة والتصنيع.

وتمايز داخله جناحان على الأقل؛ وهما جناح الديمقراطيين الشمالي الذي تزعمه ماديسون، وكان أكثر انفتاحا على هذه القضايا؛ مقارنة بجناح الجمهوريين الجنوبي بزعامة جفرسُون.

في عهد الرئيس الجمهوري الديمقراطي جيمس مونرو (1817-1825)، أيّدت الولايات استقلال أقطار أميركا اللاتينية عن أسبانيا والبرتغال، ابتداء من 1822، وأعلنت معارضتها التامة لأي تدخل أوروبي في شؤون الأميركتين، وهو ما عُرف لاحقا بـ”مبدأ مونرو”، وكان هذا تجسيدا لأحد أهم التطلعات الأميركية نحو الانفراد بالقوة والنفوذ والتجارة في أميركا الوسطى والجنوبية، وإخراج الدول الأوروبية من النصف الغربي للعالم.

واستكملت إدارة مونرو مبدأها بمطاردة النفوذ الروسي في الشواطئ الغربية للقارة الأميركية؛ فقد تمكن الروس في 1812 من الوصول إلى مسافة أميال من شواطئ سان فرانسيسكو، وأعلن القيصر الروسي انفراد روسيا بالحقوق التجارية لساحل المحيط الهادي حتى خط عرض 51 شمالا، وأن مياه روسيا الإقليمية تمتد 100 ميل في مياه الهادي.

واتخذت الولايات المتحدة من مبدأ مونرو أساسا لمنع تدخل الدول الأوروبية في شؤون أميركا الجنوبية، وأحيانا لتسويغ سياستها الانعزالية، بينما جعله الرئيس ثيودور روزفلت ذريعة للتدخل في شؤون أميركا الجنوبية أوائل القرن العشرين، عندما شجع انفصال إقليم بنما عن جمهورية كولومبيا، لكي تنفرد أميركا بالسيطرة على مشروع قناة بنما، بعد إخفاق الفرنسي ديليسبس في إنجازها.

بزوغ الشعبوية

شهدت انتخابات أميركا في 1824 استقطابا جهويا حادا بين مرشحي الحزب الجمهوري الديمقراطي، خاصة بين مرشح “الديمقراطية الجديدة” أندرو جاكسُن ذي الأصول الجنوبية (الحدودية)، ومرشح الشمال الشرقي الصناعي جون كوينسي آدمز، المنتمي إلى الجناح الفدرالي في الحزب الجمهوري الديمقراطي، وابن الرئيس الثاني فدرالي المبدأ جون آدمز.

جاء فوز الأخير بالرئاسة في جولة الإعادة رغم حصول جاكسن على أعلى الأصوات في الجولة الأولى، ليسبب مرارة لدى أتباع الأخير، وبدأ انقسام الحزب الجمهوري الديمقراطي رغم انفراده الكامل بالساحة لعقود واختفاء منافسه الحزب الفدرالي، وتحولت الخلافات السياسية إلى عداء مرير بين الرئاسة والمعارضة التي سيطرت على الكونغرس.

وأطلق أنصار جاكسون على أنفسهم “الحزب الديمقراطي”، بينما اتخذ أنصار آدمز الابن عنوان “الحزب الجمهوري القومي”، ثم تغير ذلك لاحقا إلى حزب “الويغز”.

يُشار إلى أن مسميات “الجمهوري” حتى ذلك الوقت لا تعني بالضرورة الحزب الجمهوري الراهن، الذي يعود بنسبه “السلالي” تحديدا إلى الرئيس أبراهام لنكولن.

شهدت الحياة السياسية الأميركية تحولا في عهد ديمقراطية الرئيس جاكسُن وخليفته ڤان بيورين من نمطها الجفرسوني المبكر، أي ديمقراطية الرجال الحكماء المتعلمين والمستنيرين إلى ديمقراطية رجل الشارع العادي، كالمزارع الصغير والعامل العادي على نحو مهّد للسياسات “الشعبوية” لاحقا، كما ظهر أكثر حضور المناطق الغربية الأقل تطورا على حساب الساحل الشرقي والشمالي الشرقي.

واقتضى ذلك توسيع مظلة الديمقراطية السياسية ابتداء من 1828؛ نظرا لإلغاء مطلب المِلْكية والمطلب الديني كشرطين لحق الانتخاب، أو التوظيف.

وأصبح ناخبو الرئيس يختارون من قبل الشعب مباشرة وليس بواسطة مجالس الولايات التشريعية، وزادت دساتير الولايات الجديدة عدد المناصب التي تشغل بالانتخاب عوضا عن التعيين.

وأصبحت عملية الترشيح للرئاسة تتم عبر مؤتمرات حزبية عامة، وليست بطريق اللقاءات الضيقة لمجموعة الحزب في الكونغرس.

باختصار، أصبح الناس أكثر مشاركة في الحكم، وظهرت الأحزاب السياسية بشكلها الحديث المعروف حاليا، بحيث ينظم الحزب الحملة الانتخابية الرئاسية بين الناس، ويجري حملات لكسب الأصوات لصالح مرشحيه، ويكافَأ المخلصون بمناصب حكومية، مما أصبح فيما بعد قاعدة متبعة.

 الأغلبية على حساب النخبة

لكن هذا جاء على حساب قيمة التعليم والخبرات؛ فوفقا لديمقراطية جاكسن، أصبح أي شخص عادي موثوق وحسن النية يعدّ مؤهلا لممارسة السلطة، واستجدّت أفكار من قبيل “تطعيم الحكومة بدم جديد”، وأصبح “تداول” السلطة مقدما على “استمرار” أو “استقرار” النخب والسياسات، المؤدي إلى تكوين أرستقراطيات عائلية سياسية.

كان جاكسن يؤمن بأن الرئيس الذي يعدّ خادما للأمة ينبغي له استخدام سلطاته بقوة وحزم؛ لذلك فقد تحدى مرارا الكونغرس والمحكمة العليا عندما رأى أنهما لا يعبّران عن مصالح الشعب، واستخدم حق “النقض” أكثر من جميع الرؤساء.

كان جاكسون أول من عين وزراء “إداريين” بأسماء غير معروفة، ولا حيثية تشريعية أو سياسية أو طبقية لهم. وكان أول رئيس يعتمد في الحكم على دائرة ضيقة من المستشارين والخبراء الخُلّص، أطلق عليهم “وزارة المطبخ”، وطرد عددا من أتباع آدمز، واستبدل بهم رجاله مكافأة لهم على ولائهم وجهودهم.

المثير أن جاكسن لم يقدم أي برنامج معلن، بل رأى أن يحل المشكلات كلما طرأت. وشهد عهده انطلاقة في الغزو والتمدد نحو الغرب، وقد ارتبطت تلك الانطلاقة -أيضا- بالديمقراطية (الشعبوية) الجديدة، كونها فرصة لإفلات الطبقات الدنيا من قيود ورقابة الطبقات المحافظة بالمناطق الشمالية الشرقية، ومجالا لاستيعاب الفائض البشري، وتحقيقا لثروات وإمكانات مستجدة، وتطويرا لمشروع الاستيطان والتوسع.

ورافق العهد ظهور حركات وأفكار اجتماعية تحررية ذات منابع أوروبية، تهتم بتحسين أحوال الطبقات الدنيا والمرأة والرقيق والمعتوهين، ومكافحة انتشار الكحول.

وزادت فرص التعليم والوعي السياسي نتيجة لزيادة رقعة التعليم العام وارتقاء الصحافة، كما ظهرت تنظيمات عمال المصانع بالمناطق الشمالية للدفاع عن مصالحهم.

وتمثل هذه المرحلة في التاريخ الأميركي البوتقة التي انصهر فيها كثير من التوجهات وولدت فيها -كذلك- أفكار مهمة مثّلت أدوارا مقدّرة في تشكيل كثير من السلالات السياسية والأيديولوجية وبلورتها في التجربة الأميركية الممتدة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *