كييف – مهما تقاذفت السياسة القضية وشوهتها، ومهما بُنيت المواقف الدولية على أساس المصالح، يبقى التاريخ شاهدا على مكانة وقداسة أرض فلسطين على ما يبدو، ليس فقط بالنسبة للمسلمين، بل لكثير من الشعوب والديانات حول العالم.
عشرات الآلاف من سكان وزائري العاصمة الأوكرانية يمرون يوميا أمام أحد معالم هذه المدينة، التي تشهد على فترة في القرن الـ19، عندما كانت فلسطين حاضرة اسما وفعلا، قبل عقود من وعد بلفور عام 1917، وقبل أن تولد عدة دول معاصرة كثيرة.
فلسطين الاسم والبركة
منحدر “فولوديميرسكي” واحد من أشهر الطرق التاريخية المرصوفة بالأحجار القديمة وسط كييف، يضم على أحد جنباته -حتى يوما هذا- مبنى “فلسطين” الذي كان فندقا لزائري المدينة وحجاجها، وفيه مصفاة لفلترة مياه نهر “دنيبر” المجاور.
فكرة البناء تعود إلى القديس فولوديمير الأول أمير كييف (الكنياز) الذي عمّد أبناءه في نهر الأردن بأرض فلسطين المباركة، قبل أن يقرر بناء الفندق والمصفاة عام 1886، لنقل بركة الاسم والمكان إلى أرضه وحجاجها المسيحيين، لاسيما وأن مملكة كييف كانت أولى مناطق شرق أوروبا التي اعتنقت المسيحية القرون الوسطى.
وعلى أساس الفندق والمصفاة، بني دَرَجٌ طويل باق حتى يومنا هذا، يصل الفندق بضفة النهر، وأطلق عليه في بعض المراجع التاريخية “مسلك فلسطين” أيضا.
وهكذا، أطلق اسم فلسطين على فندق لم يعد موجودا في وقت لاحق سيطرت فيه الشيوعية السوفياتية على كييف، لكنه بقي اسما لذلك الدَرَج، ولأول مصفاة شرب منها سكان المدينة، وتعد واحدة من أبرز المعالم التاريخية فيها.
أوكرانيا المنحازة لإسرائيل
لا يبعد المكان التاريخي سوى مئات قليلة من الأمتار عن مقرات الحكم الرئيسية في كييف. ومع ذلك، يبدو أن التاريخ لا يلعب دورا في موقفها من الحرب الإسرائيلية الراهنة وغير المسبوقة على قطاع غزة.
موقف الرئاسة في أوكرانيا انحاز سريعا وبقوة لصالح الاحتلال مع بداية الحرب، قبل أن تعدله وزارة الخارجية في وقت لاحق ببيان تحدث عن أهمية حل الدولتين لحل القضية.
ومع ذلك، يبقى من الواضح أن معظم وسائل الإعلام الأوكرانية تتناول الحرب من منظور منحاز لصالح إسرائيل، بل إنها خصصت حيزا كبيرا من ساعات التغطية لهذا الغرض، يضاهي أحيانا حجم اهتمامها بالحرب الروسية الدائرة على أوكرانيا.
تحولات سياسية
فرادة الموقف الأوكراني هذه المرة تأتي أنه لم يتناغم -كما جرت العادة- مع الموقف الأوروبي الأكثر تأنيا إزاء القضايا الدولية، بل جاء في بدايته مطابقا لموقف الولايات المتحدة المندفعة بقوة لصالح إسرائيل واستمرار الحرب.
وسبب ذلك، بحسب كثير من رموز الجاليات العربية والمسلمة، حاجة أوكرانيا لتملق الولايات المتحدة لضمان استمرار دعمها السخي في مواجهة روسيا، حتى وإن تحولت بوصلة واشنطن فجأة نحو الشرق الأوسط.
والسبب الآخر أن رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، ونسبة كبيرة من أعضاء حزبه الحاكم، ينحدرون من أصول يهودية، وأن اللوبي اليهودي المنحاز لصالح إسرائيل يسيطر على معظم وسائل الإعلام المحلية والعالمية المؤثرة.
أحد رموز الجالية الأردنية في كييف، وقد طلب عدم الكشف عن اسمه، يقول للجزيرة نت “هذه حقيقة لا تخفى على أحد في أوكرانيا، لكني أعتقد أن التملق المصلحي يطغى على الجانب الديني في أوكرانيا، حتى وإن كان حاضرا في الخفاء”.
وتابع في سياق آخر “صدقني، الشعب الأوكراني مغيب تماما عن حقيقة ما يحدث في الشرق الأوسط بسبب الإعلام الموجه لصالح إسرائيل الذي يسوق تحركاتها العسكرية على أنها شبيهة بحق أوكرانيا في الدفاع عن أرضها أمام روسيا”.
وتابع في ذات السياق “هذا بسبب غياب الإعلام البديل أو المتوازن، ولهذا لا نلمس ردود فعل كبيرة إزاء ما تفعله إسرائيل من مجازر، بل نرى أن شريحة واسعة من العامة تنظر إلى الفلسطينيين على أنهم همج، وأن مجتمعهم مليئ بالتنظيمات الإرهابية”.
صوت العرب المغيب
ويطرح بعض المطلعين على الشأن الأوكراني سؤالا عن غياب أدوار وأصوات العرب والمسلمين في أوكرانيا، ولماذا لم تتفاعل هذه المرة أبدا مع الحرب الإسرائيلية على غزة، كما جرت العادة في الحروب السابقة.
سبب ذلك -كما يقول مراقبون- هو الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بحجتها تُمنع الجاليات من الدعوة إلى أي تجمعات أو مظاهرات كانت في الحروب السابقة تنظم عادة أمام مبنى الأمم المتحدة أو مقر السفارة الإسرائيلية.
وبعض رموز هذه الجاليات أكدوا للجزيرة نت أيضا أن مختلف السلطات الأمنية شددت على الأمر في الوقت الحالي، واعتبرته مخالفا لقانون حالة الحرب المعلنة في البلاد.
كما أشاروا إلى قلة أعداد العرب والمسلمين وأنصارهم، لأن نسبة كبيرة منهم غادرت كييف وباقي أرجاء البلاد بسبب الحرب أيضا.
ويتخوف بعض أبناء الجاليات من الحديث للجزيرة نت خشية معاقبة الداعين والمشاركين إلى أي فعالية، بتوزيع إيعازات التجنيد عليهم، وهو أسلوب عقابي صار منتشرا في أوكرانيا زمن الحرب ويستخدم لإسكات المخالفين.
وحدة بعد انقسام
ورغم ضعف الحيلة، لم يعد العرب والمسلمون في أوكرانيا كما كانوا قبل الحرب، فالوحدة ضد المجازر المستمرة باتت صورة لافتة لا تخطئها العين اليوم، وحلت بديلا عن الانقسام والانحياز والتنافر السياسي والأيديولوجي السابق.
وتعبر جلساتهم بعد صلاة الجمعة وفي أمسيات باقي أيام الأسبوع عن وحدة الألم، بينما كانت قبل ذلك تشهد انقساما وجدلا وكيلا متبادل للاتهامات بعض الأحيان.
كثيرون منهم منهمكون بالتواصل مع وسائل الإعلام المتاحة، ونشر ما يستطيعون نشره على مواقع التواصل من صور ومقاطع مرئية ومعلومات بالروسية والأوكرانية، بغية إيجاد شيء من توازن، كما باتت صفحات سفارة فلسطين على مواقع التواصل أيضا منبرا رسميا لنشر البيانات وما يفضح جرائم الاحتلال.
من خلال الحديث مع بعض رموز الجاليات في أوكرانيا حول ما تشهده غزة، يلتف الجميع حول فكرة مفادها “لا عتاب على الأعداء أو مواقف من كنا نحسبهم أصدقاء وأصحاب قيم، إذا كان أخوة الدم والعرق والدين عاجزين عن اتخاذ مواقف مشرفة”.