تقول الكاتبة الأميركية ورئيسة قسم كتابة السيناريو في كلية السينما في لوس أنجلوس ليندا كاوغيل، “حين تحمّل الحبكة أكثر مما ينبغي من الحدث، فأنت لن تزوّد الحبكة بما يكفي من الشخصيات والعاطفة، ولن يكون لديك وقت لإدخال ردود فعل الشخصيّات على الصراع”.
فما بالك إذا كان حدثك عنفيا ودمويا بصيغة مقحمة، ودون بناء متين وفق مبررّات مقنعة، وذرائع وافية، تمنح الحكاية طريق تصاعدها العميق نحو الذرى المطلوبة!
من المؤكد أنه عندما يصير العنف مجرّد استنساخ مجاني لواقع مضطرب، فإن النتيجة ستكون إعادة تصويره للقسوة بطريقة مربكة وسيكون الهدف بقصد أو دونه بمثابة تكريس الجريمة وجعلها أسلوب حياة!
هذا بالضبط ما يحصل مع المسلسل السوري “ولاد بديعة”، وهو من تأليف علي وجيه ويامن حجلي، وإخراج رشا شربتجي، وبطولة كل من سلافة معمار، وسامر إسماعيل، ومحمود نصر، وفادي صبيح، وروزينا لاذقاني، وتيسير إدريس.
العمل الذي بيع إلى شركة إنتاج سورية على عجل، ومن دون وجود حلقات مكتوبة، إنما على ملخص شامل وبضمانة مخرجة “بيّاعة” اعتادت أن توقف أعمالها الشارع السوري على قدم واحدة، فأنجزت الحلقات بسرعة قياسية، ودارت الكاميرا بنفس الوتيرة، ثم تمت الاستعانة بمخرج آخر هو علي علي كمنقذ للموقف من أجل اللحاق بالموسم الرمضاني.
بدأ عرض المسلسل وذهب نحو إثارة بلبلة واضحة منذ بداية عرضه بسبب البنية الحكائية التي تطغى عليها الخيارات الفجّة والمباشَرة الفظّة، والسعي المحموم وراء تحقيق “الترند” رغم أن مفهوم القيمة يشيّد عداء جذريا مع هذا المنطق التجاري الاستهلاكي!
تنطلق قصة “ولاد بديعة” عبر زمنين مختلفين، في منطقة الدبّاغات بدمشق، وتحديدا من رجل ميسور له وزنه في السوق هو عارف الدباغ (فادي صبيح) واللحظة التي يرزق فيها بمولود جديد يسمّيه “مختار” بعد سنوات من الصبر وعدم الإنجاب، يتعرف حينها على سيدة مختّلة لا تجيد الكلام (إمارات رزق) فينجب منها ولدين غير شرعيين هما ياسين وشاهين، تبدأ معهما مسيرة طويلة من الأحداث الدموية، والعنف المبالغ فيه، والقسوة المفتعلة، وتقفي أثر السلوكيات الإجرامية، دون أدنى عناية بصوغ المبررات المطلوبة، والتمتين اللازم للحلول.
فمنذ انطلاق المطارح التأسيسية للحكاية تبدو الهلهلة الصريحة في صوغ الحبكة هي السمة السائدة، إذ لن يكون مقنعا انحدار رجل مقتدر لا ينقصه شيء نحو الاعتداء على سيدة مختلة لا تجيد الكلام، وقد أمضت غالبية سنوات عمرها مشرّدة في الشارع، عدا عن الاستفادة الواضحة لدرجة القص واللصق من السينما المصرية القديمة وتحديدا من فيلم “توت توت” (كتابة عصام الشمّاع وإخراج عاطف سالم أنتج سنة 1993 بطولة نبيلة عبيد التي أدّت دور مختلة يتم استغلالها من رجل غني يلعب دوره سعيد صالح يستدرجها ويتركها حامل بطفل).
إلا أن الفرضية في المسلسل السوري خارج السياق الصحيح والمبرر دراميا خلافا للفيلم المصري، حتى في الحوار الساذج الذي يدور بعد سنوات طويلة بين عارف الدباغ وزوجته يعترف فيه بأنه اعتدى على ابنة الشارع بسبب إحساسه بالنقص تجاه زوجته كونها ابنة عائلة مترفة، تنازلت حتى قبلت الزواج به ومن ثم أذلّته بسبب الفوارق الطبقية بينهما. لكن لا يمكن تبرير الاعتداء على امرأة مستضعفة ومختلة ومشردة، إلا من شخص مضطرب لديه نقص واضح، وهذا غير موجود نهائيا في شخصية عارف الدبّاغ التي أدّاها ببراعة فادي صبيح!
بعد ذلك سيتدحرج المسلسل إلى مطارح موغلة في الاستعراض المجاني على مستوى الحبكة، والشغل الخارجي بالنسبة للسوية الأدائية عند غالبية الممثلين خاصة في الاعتماد على لوازم حركية ولفظية، دون إحساس عميق بمنطق الشخصية، قد يكون ذلك لأن أغلب شخوص الحكاية عائمة على السطح لا تملك ذلك العمق الكافي للخوض فيه، ومحاولة استحضار حالات نفسية يمكن الاشتغال عليها.
لذا فإن التجسيد “البرّاني” على مستوى الأداء سيبدو سمة ظاهرة في شغل سكر (سلافة معمار) التي تعتمد في منطقها التجسيدي على الصراخ والعويل والأداء الخارجي، وهو ذاته الذي يعتمد عليه محمود نصر، فيما يظلّ يامن حجلي عالقا عند الأدوات التمثيلية ذاتها التي ظهر عليها في مسلسل “أيّام الدراسة” أي نفس نبرة الصوت وحركات الجسد والانفعالات الحسية ما عدا المشهد الذي يتخاصم فيه مع شقيقته وقد لعباه بعمق لافت.
كلّ ذلك إلى جانب تنفيذ مشهد شنق القطط بقصد إظهار المرض النفسي الذي يعاني منه مختار مع تنويه ساذج في بداية الحلقة، بأن المشهد نفذ بوجود مختصيّن دون أن يصيبهم أذى، وهو ما فتح نافذة الهجوم الشرس من جمعيات ومختصين بالحيوانات بسبب الأذى النفسي الذي يمكن أن يلحق بالحيوانات الأليفة في مثل هذه الحالات، عدا عن تكريس سلوك إجرامي مشين يمكن أن يصل للأطفال في بيئة ومجتمعات خصبة لسريان العنف بعد معاناتها مع الدموية والقسوة خلال سنوات الحرب الطويلة!
إضافة لذلك سنكون أمام غياب لضبط الزمن اللازم، في مشاهد معينة مثل تلك التي تحدث عند المعركة بين مختار وشقيقه في المخفر ثم امتداد العراك لموقف سيارات فارغ ويستمرّ لوقت طويل جدا وينتهي بتناقض مع منطق الشخصيتين المتعاديتين أصلا وغرابة السؤال عن إمكانية المصالحة!
هكذا، تتواطأ الحكاية المفبركة في الاتكاء على الحلول السهلة، والمصادفات المتلاحقة مع تطعيم دائم لمشاهد عنيفة ودموية مجانية، وسيصادف وجود شاهد عند وقوع كلّ جريمة، فيما ستخبر الشخصيات خصومها بمستمسكاتها بطريقة تخالف المنطق البديهي في الصوغ الدرامي، ثم فجأة تتنكّر الشخصية لخطّها المتصل وتتصرّف عكس الطريقة المبنية عليها، كأننا أمام مصحّ درامي شخصياته مصابة بالفصام!
فعلى سبيل المثال، تقرر مروى (لين غرّة) أن تتوب لمدة نصف ساعة وترفض خلع الحجاب، فيما تدفع سكر جميع ديون إحدى البقالات في نفس الوقت الذي تسطو فيه على بيوت جارها أبو رياض (فراس إبراهيم) ثم سنظلّ أمام تعاقب متواصل لارتكاب مجازر جماعية، وعمليات السطو المسلّح، والخطف، وكأن المكان الجغرافي المقترح هو عبارة عن غابة لا وجود فيها نهائيا لأي سلطة أو قانون، وحتى نهاية الحلقة الـ11 لن نلمح رجل دولة واحدا ولو يمرّ ملوحا، إلا فيما يخص العملة المزورة التي عثر عليها بحوزة ياسين على الحدود اللبنانية؟!
وهنا السؤال، أين اختفت الجهات السلطوية، والشرطة، في بلد أمني أصلاً، لدرجة أنك لا تلمح في “ولاد بديعة” كلّه حتى شرطي مرور يذكّرنا بأن هناك ضبطا محتملا، ضد أي مخالفة سير مرتكبة؟! فما بالك بعشرات جرائم القتل التي لا يسأل عنها أحد.
فيما يجرّب العمل أيضا اقتحام حياة الليل، والراقصات بطريقة برّانية ومشوهة حتى لتلك الأماكن الغنية بالقصص المثيرة، إذ نلاحق حياة سكر وهي التي تجرّب احتراف الرقص دون أن تجافيها المشاكل وضرب الزبائن واستشراس أخيها بسبب إحساسه بهدر شرفه رغم أن هذا السياق يجافي تماما حياة الملاهي، ومنطق إدارتها بالشكل الواقعي، فيما تبقى العناية بالتفاصيل غائبة عندما نرى مطلع الحلقة الـ11 عملة سورية ترمى على مسرح الكباريه في زمن لم تكن تلك العملة مطبوعة أصلاً!
ليزيد بعد ذلك إقحام خطّ عن صراع الديكة، رغم أن الأمر الموضوع نادر ولم يسبق أن سمع به السوريون، لكنّ الدراما فن انتقائي يمكنه النبش من التاريخ وإعادة تدوير الأشياء الغريبة، لذا كان سيسجل للعمل هذه الالتقاطة التي كانت تحدث فعلاً في بعض المناطق الساحلية السورية، لكن الحقيقة بأن الفرضية مقتبسة بحذافيرها من السينما الإيرانية وتحديدا من فيلم “نصف القمر” للمخرج باهمان غوبادي.
كلّ ذلك إضافة إلى إشارة واضحة من رواد شبكات التواصل الاجتماعي للتقاطعات على مستوى البناء الهيكلي بين مسلسلي “ولاد بديعة” و”مال قبان” (إخراج سيف السبيعي) لنفس الكاتبين، وقد أنجز للموسم الماضي دون أن يحظى بفرصة عرض ليتاح له رؤية النور هذا العام فإذا بتشابهه مع المسلسل الثاني يظهر بوضوح!
عموما وبعيدا عن أي استفادة من أعمال ثانية، أو اتكاء على حلول ساذجة، أو غياب المبررات الصلبة، أو تقصد الميل باتجاه القسوة المجانية، والجريمة المفبركة بداعي تحقيق الشعبوية العريضة، لا بد أن بعض المشاهدين سيسألون أنفسهم: صراع مثل ذلك الذي يدور بين مجرمين وقتلة وإخوة على الميراث، ما العبرة فيه وما الرسالة التي يمكن أن يوصلها مثل هذا الصراع لمتفرّج بعيد عن مثل هذه المسارح المصطنعة؟!
أخيرا، يجدر بنا تذكير صنّاع هذا المسلسل السوري بما تفيد فيه المرجعيات الأكاديمية من قواعد واضحة فيما يخصّ إعادة تمثيل العنف، ففي حال لم تكن محمّلة بمعنى عميق، فإنها ستنحو باتجاه أن تكون تحقيقا صحفيا لا يصل لمكانة فن ذي قيمة… والمثال على ذلك أنه عندما قدم المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني فيلمه “سالو” (Salo) الذي يقطر عنفا نفسيا وجسديا شديدا، لم يكن ذلك مجانيا، بل كان بقصد إدانة الفاشية!
كذلك الأمر في “سيتي أوف غادز” (City of Gods) والذي يعتبر أحد أفلام سينما القسوة بهدف تشريح العنف في المجتمع البرازيلي ومن ثم تجريمه.