ارتفعت توقعات المشاهدين والنقاد من قبل عرض مسلسل “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” (All the Light We Cannot See) على شاشة نتفليكس، فالعمل ذو الأربع حلقات مقتبس من رواية لـ”أنتوني دوير” فازت بجائزة بوليتزر عام 2014، ويشرف على إخراجه كمسلسل “شون ليفي” صاحب واحد من أشهر المسلسلات الحديثة “أشياء غريبة” (Stranger Things)، وتحولت الرواية إلى سيناريو على يد “ستيفن نايت” مبدع المسلسل الناجح “بيكي بلايندرز” (Peaky Blinders)، ويشارك في التمثيل كل من “مارك رافلو” و”هيو لوري”.
بالفعل احتل المسلسل رقم 1 على المنصة، كأكثر مسلسل باللغة الإنجليزية مشاهدة، ولكن بمجرد معرفة القليل عن قصته نجد أن هذه اللغة لغز في حد ذاته، فلماذا تدور أحداث عمل تلفزيوني في كل من فرنسا وألمانيا، فلا يتحدث أبطاله سوى بالإنجليزية؟ يأتي هذا التساؤل كبداية لأسئلة أخرى، حول عملية الاقتباس ومدى نجاحها في نقل روح الرواية شديدة التميز.
اقتباس أزهق روح الرواية
تنتقل أحداث “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” بين فرنسا وألمانيا، وذلك لتغطية الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20 ويتبع كل من المسلسل والرواية السرد غير الخطي، أي تنتقل الأحداث بين خطوط زمنية مختلفة، حيث تستدعي الفرنسية “ماري” والألماني “فيرنر” طفولتهما التي رسمت حاضرهما التعيس.
لا يجتمع البطلان سوى مرة واحدة قرب النهاية، ولكن بينهما مساحة واسعة من التشابهات، أهمها أنهما ضحايا للنظام النازي، فالأولى اضطرت للنزوح من باريس مع والدها لتقيم في مدينة صغيرة قرب البحر في ضيافة العم “إتيان” وأخته “مونيك”، بينما الثاني تم تجنيده قسريا في الجيش لمهارته الكبيرة في استخدام الراديو، الاختراع الذي كان له أثر كبير في هذه الفترة، سواء في الترفيه أو نقل الأخبار والإحداثيات في الحرب.
الراديو كذلك هو ما يجمع بين الشخصيتين عبر صوت “ماري” الذي يستمع إليه “فيرنر” من خلال البث الإذاعي السري الذي تقرأ فيه رواية “20 ألف فرسخ تحت الماء” للفرنسي “جول فيرن”، في محاولة بث الطمأنينة بنفسها ومستمعيها ومستخدمة صفحات معينة لنقل رسائل المقاومة الفرنسية للقوات الأميركية.
يبلغ طول رواية “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” حوالي 500 صفحة، وفي نسختها الصوتية تعدت الـ17 ساعة، بينما تم نقلها على الشاشة في 4 حلقات فقط، يبلغ طول كل منها ساعة واحدة، ما يعني بالتبعية الكثير من الاختصارات للتخلص من شخصيات وحبكات فرعية وتغيير النهاية الأصلية.
ما قام به صنّاع المسلسل ليس فقط بضعة اختصارات، ولكن كان هناك تغيير في روح الرواية نفسها التي ركزت بشكل أساسي على المعرفة كوسيلة لدرء أخطار الأفكار الفاشية، حيث كَوَّن الطفل فيرنر والطفلة ماري معارفهما من محطة راديو موجهة للأطفال في الفترة ما بين الحربين العالميتين، تنقل رسائل عن السلام والمحبة، والضوء الذي لا يمكننا رؤيته كاستعارة لضوء العلم، وساهمت هذه المعرفة في بلورة شخصية كل منهما، فماري الطفلة العمياء تعلمت المقاومة، بينما كان التأثير أكبر على فيرنر، الذي يتربى في بيئة نازية، ولكنه لم يتطبع بها لأنه اكتشف الظلم والعنصرية والعنف وراءها.
وبالإضافة إلى النهاية التي سنعود إليها لاحقا عند الحديث عن “أمركة” المسلسل، فإن أهم تغييرات المسلسل حدثت في شخصية “فيرنر” ففي العمل الأدبي لم يتم تجنيد الشاب رغما عن إرادته، بل توجه بنفسه للمعهد العسكري، وقام بالاختبارات الشاقة في سبيل الهرب من وظيفة قاتلة بالمناجم، فقد كان الانضمام للجيش النازي بالنسبة له ترقيا حلم به، ولكن بعدما أصبح أحد جنوده اكتشف عمق المأساة التي يسببها هذا الجيش، فتحولت شخصيته بالتدريج، حتى انقلب على رؤسائه.
الكثير من الأمركة
استغرقت كتابة رواية “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” 10 سنوات، قضى الكاتب جزءا منها في “سانت مالو” المدينة التي دارت بها الأحداث، بالإضافة إلى ألمانيا وفرنسا، ورغم استخدامه لغته الأولى وهي الإنجليزية في كتابة عمله الأدبي؛ فإنه استعان بالكثير من المصادر الفرنسية والألمانية لتعزيزها وجعلها أقرب لروح المكان الذي تدور فيه.
ربما لم يمتلك الكاتب المهارة اللغوية لكتابة روايته باللغة التي تتحدث بها شخصياته، ولكن نتفليكس كانت بالتأكيد قادرة على صناعة مسلسل يعيد القصة للغتها الأصلية، ولن تكون هي المرة الأولى التي تقدم فيها أعمالا شديدة النجاح بلغات غير الإنجليزية، منها على سبيل المثال فيلم “كل شيء هادئ في الميدان الغربي” (All Quiet on the Western Front)؛ الفيلم الألماني من إنتاج المنصة والفائز بـ4 جوائز أوسكار منها أفضل فيلم دولي، بالإضافة إلى ذلك شارك بالمسلسل بالفعل ممثلين من جنسيات ألمانية وفرنسية، ولكن استخدموا اللغة الإنجليزية.
ولسنوات اعتادت السينما الأميركية على جعل الجميع يتحدث لغتها، فنشاهد فيلما تدور أحداثه في اليابان، ونجد حتى اليابانيين يتحدثون فيما بينهم بالإنجليزية بدون أي سبب حقيقي سوى أن المنتج وصنّاع العمل أميركيون، يفترضون أن العالم بأجمعه عليه التحدث بلغتهم.
أبطال مسلسل “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” الفرنسيون يتحدثون الإنجليزية بلهجة أميركية، بينما الألمان يتحدثونها بلهجة بريطانية، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا من الأمركة غير مستساغ، ولا يحمل سياقا وسببا مفهوما، خاصة أن المسلسل يُعرض على منصة إلكترونية تتيح بشكل آلي ترجمات ودبلجات مختلفة لكل عمل، وبالتالي كان من المنطقي إصدار المسلسل بلغت أبطاله الأصلية، مع وجود دبلجة بالإنجليزية لمن يفضلها.
جانب آخر من “الأمركة” ظهر في الهالة التي تحيط القوات الأميركية بالمسلسل، فعلى سبيل المثال جعل صناع “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” الطائرات الأميركية تقصف فقط أماكن تمركز الجيش النازي، وعندما دخل الأميركيون المدينة الصغيرة، طلبت ماري من فيرنر تسليم نفسه إليهم، وليس المقاومة الفرنسية، لأنهم سيقتلونه، بينما الجنود الأميركان سيعاملونه باحترام كأسير حرب، وهي جملة غير موجودة في الرواية؛ ما يجعل إضافتها رسالة مشفرة للمشاهدين تروج للجيش الأميركي.
ويمثل مسلسل “كل الضوء الذي لا يمكننا” فرصة ضائعة، فقد أُتيح لصنّاعه رواية مميزة وشديدة النجاح من الناحية النقدية والتجارية، وطاقم تمثيل جيد للغاية، ولكنه أهدر هذه الإمكانيات بمحاولته ضغط الرواية في مسلسل قصير، وتخفيف أحداثها المفجعة لتتحول إلى صراع مبسط بين الخير والشر.