شغلت محاكمة فتيات الـ”تيك توك” الشارع المصري في عام 2022، ما دفع المخرجة ياسمين أحمد كامل للتوقف أمام القضايا، والتركيز في مسلسل “أعلى نسبة مشاهدة” على أسباب مجتمعية أكثر عمقا من الرغبة في الشهرة لدى الفتيات اللاتي سقطن ضحيتها.
وقدمت المؤلفة سمر طاهر تفاصيل حياة شريحة مجتمعية تعيش ظروفا اقتصادية طاحنة وانفصاما قِيميا اجتماعيا، تضطر كل فرد ليعيش نسختين من الحياة، إحداهما للعلن، والأخرى مستترة خوفا أو حياء.
وشكّلت مخرجة “أعلى نسبة مشاهدة” فريقا من الممثلين لم يتضمن نجما واحدا، ورغم ذلك صار المسلسل نجم الدراما المصرية بنسبة مشاهدته، وتميزه الفني.
وتدور القصة حول شيماء (سلمى أبو ضيف)، الفتاة التي تنحدر من عائلة بسيطة تعاني من الفقر، وتحاول هي وشقيقتها تخطي تلك الحياة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتواجه في مشوارها حقائق الحياة.
ثمة أب وأم تعصف بهما رياح الظروف المجتمعة والجور الاقتصادي، وتهين إنسانيتهما دون رحمة، فلا عمل مستقرا، ولا ضمان للوجبة المقبلة، ولا كرامة في ظل المهانة التي يلقاها كلاهما من أصحاب العمل، وملاك المال.
أما الابنة الكبرى آمال (فرح يوسف) فتتزوج -لسوء حظها- من شخص أقرب إلى كونه مجرما مبتزا (إسلام إبراهيم)، يحاول ترجمة كل ما يحيط به إلى مال بلا تعب، وقد طحنته الظروف مثل سابقيه، لكنها أخرجت أسوأ ما فيه.
أما بطلتا العمل ومحوره، فهما شيماء ونسمة (ليلى أحمد زاهر)، اللتان تنتميان لجيل تفتح وعيه على الـ”ديجيتال” والـ”أون لاين” والـ”تيك توك”، ونتيجة للشعور القاسي بالحرمان تندفعان باتجاه تصوير المقاطع، طمعا في المردود المادي منها.
قدمت المخرجة ياسمين أحمد كامل تجربة نادرة في تصوير الحي الشعبي المصري البسيط، فقد عبّرت الصورة عن حميمية تغلف البشر والمباني رغم صعوبة الظروف على الجميع، وكانت النتيجة مشاهد تميزت بالجمال الذي يشي بحب واحترام للحارة، على عكس التجارب السينمائية والتلفزيونية خلال السنوات العشرين الماضية، والتي قدمت الحارة باعتبارها متحفا بشريا يحوي المشوهين، ويتزين بألوان كالحة، وفوضى بصرية، ومشاجرات دموية وأسلحة بيضاء.
شيماء فريسة الجميع
تظهر حقيقة مجتمع حائر بين منظومة قيم تسقط تحت ثقل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بمساعدة التكنولوجيا، وبدا ضعيفا أمام هجوم المستقبل دون الاستعداد له، وقد التقط المسلسل خيط الضعف، ليقوم بتشريح واحد من مظاهره، وهي ظاهرة هوس “الترند” والمجتمع الزائف الذي تشكل للاستفادة منها، لكنه قام بالتحليل المؤلم لأسباب تمكن وتفشي وسهولة سيطرة الظاهرة على مجتمع هش اقتصاديا.
يقوم السيناريو ببناء تدريجي لصورة شيماء، الفتاة المهملة في أسرتها، التي لا تملك الحد الأدنى من الثقة في النفس، أما شقيقتها نسمة فهي الأكثر إشراقا وجمالا.
تنقلب الأوضاع خلال أسابيع قليلة، لتصبح شيماء نجمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتملك مالا نتيجة لذلك، فتتحول إلى هدف لمن حولها في شكل “ما بعد حداثي” قبيح؛ فصديق شقيقتها يطمع في الزواج منها، نظرا لامتلاكها المال والنجومية، وزوج أختها الكبرى يحاول ابتزازها، وعالم “التيك توكرز” بكل المتواجدين فيه يحاول استغلالها، طبقا لما يراه كل منهم فيها.
بدت شيماء كما لو كانت فريسة اجتمعت حولها حيوانات مفترسة تلتهم من جثتها الحية ما ترغب فيه، حتى شقيقتها تحولت إلى خصم حاقد، ترغب في امتلاك كل ما اكتسبته شقيقتها من شهرة ومال.
قدمت سلمى أبو ضيف أداء حركيا في الاستعراضات القليلة التي احتواها العمل وباستثناء رقصة الأغنية الرئيسية، كانت كل حركاتها أشبه بحركات شخص يدفعه الألم للحركة، لا الفرح.
بناء الشخصيات والأداء المختلف
جاء بناء الشخصيات في “أعلى نسبة مشاهدة” متكاملا، ونجحت كاتبة السيناريو الواعدة سمر طاهر في تحويل أفكار العمل إلى شخصيات من لحم ودم، يكاد المشاهد من فرط صدقها أن ينسى أسماء ممثليها.
وباستثناء هنات بسيطة، حققت طاهر المعادلة الأصعب في الدراما العربية، التي تسقط دائما في اختبار بناء الشخصية، لتأتي مبتورة، أو يكون سلوكها متناقضا مع تاريخها، أو مجتزأة من سياق مختلف.
ولعل السبب الواضح لذلك التماسك في البناء هو كون العمل مستوحى من قصة حقيقية تحوي شخصيات كان لها دورها في الحياة الواقعية، ومن ثم نقلت إلى الدراما بدعائم صلبة.
وأبرز الشخصيات من حيث البناء هي الأم حمدية، التي جسدت دورها الممثلة انتصار باقتدار وحساسية خاصة وطاقة أمومية هائلة، أما الأب فقد جسده الممثل المخضرم محمد محمود في واحد من الأدوار التي ستسجل في تاريخه كعلامة مضيئة.
وشكّل الأبوان ملامح أسرة أسقطتها التحولات الاقتصادية إلى شريحة أدنى، لكنها تتمسك بأهدافها وقيمها وتدينها، ورغم الوقوع في أخطاء، فإن الملجأ الدائم لها هو الدعاء والتوبة، وهو ما يمنح كلا منهما قوة وقدرة على الصمود، الذي بدا أكثر وضوحا في “الأم” بأداء انتصار الذي جسد قوة وسخرية خفية من همها، وخشونة اكتسبتها من قسوة الظروف.
قدم المسلسل نموذجا حيا للصدق الفني الذي يقود صاحبه إلى قلب المشاهد مباشرة، وذلك عبر الاقتراب من همومه، والتواضع أمام آلامه، والبحث العميق في أسباب ضعفه، بالإضافة إلى القدرة المدهشة على التقاط التفاصيل والخبرة العميقة بموضوعه.
ويعد “أعلى نسبة مشاهدة” المسلسل الأبرز في رمضان 2024، فهو ليس مجرد جرس للانتباه إلى أبنائنا وبناتنا وضرورة مراقبة علاقتهم بالوحش الصغير ذي الشاشة، الذي يفتح نوافذ الشيطان، لكنه صرخة للانتباه إلى شريحة اجتماعية يتم تمزيق أوصالها والتمثيل بجثتها وهي على قيد الحياة، وهي شريحة الآباء والأمهات، الذين يتحملون ما لا تستطيع الجبال احتماله.