احتل الفيلم الوثائقي “ما فعلته جنيفر” (What Jennifer Did) مركزا متقدما ضمن قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة على “نتفليكس” في الولايات المتحدة والعديد من دول العالم، معولا على موضوعه الذي يتناول جريمة قتل حقيقية ويكشف تفاصيلها من البداية حتى النهاية. لكن هل يستحق العمل حقا هذا الصيت؟
يبدأ “ما فعلته جنيفر” بمكالمة تجريها فتاة تشعر بالهلع مع الشرطة، لتبلغ عن جريمة تحدث في منزلها وهي مقيدة. نعرف بعد دقائق أن الجريمة تسببت في وفاة والدة المتصلة ودخول والدها في غيبوبة، في حين نجت هي من الموت. ونتبع عبر الفيديوهات المصورة خلال التحقيقات والتعليق الصوتي ومقابلة مع مجموعة من معارف وأصدقاء عائلة جنيفر، تفاصيل الكشف عن شخصية المجرم.
وثائقي يفتقد الإثارة عن جريمة مرعبة
لا يضع الفيلم الوثائقي هوية الجاني موضع تساؤل، بل يوضح عنوانه للمشاهد منذ البداية أن جنيفر هي المجرمة! لذلك يتوقع المشاهد أن تتمثل الإثارة في تفاصيل ومراحل الكشف عن حقيقة جنيفر وإجبار الشرطة لها على تغيير شهادتها من ضحية فقدت أمها ودخل والدها في غيبوبة، إلى متورطة بجريمة قتل.
وبالفعل يبدأ الفيلم بشكل يمهد فيه لأسباب ارتكاب الجريمة؛ فيصور حياة جنيفر التي تنحدر من عائلة آسيوية صارمة، وتعيش في كندا مع والدين مهاجرين يتطلعان لأن تكون ابنتهما مثالية، وبالتالي يضغطان عليها للتفوق في المدرسة وفي دروس الموسيقى والتدرب على آلة البيانو، ويدخلان في حياتها العاطفية.
وتبدو هذه السردية مقنعة، بل قد تدفع المشاهد للتعاطف مع الابنة المحرومة من حنان أب وأم قاسيين، حتى تعترف في إحدى التحقيقات بأنها مزورة شبه محترفة؛ فقد أوهمت والديها بتفوقها الدراسي، وحصولها على منحة جامعية بتزوير شهادات وأوراق رسمية متعددة، بل سافرت إلى المدينة التي يفترض وجود جامعتهما بها دون أن تنتسب إليها.
تزداد علامات الاستفهام حول شخصية جنيفر التي يوحي عنوان الفيلم أنها قاتلة والديها في الفصل الثاني من الفيلم الوثائقي، خصوصا بعدما أفاق الأب من غيبوبته ويكشف أن ابنته كانت تتحدث مع المجرمين بشكل ودي خلال اقتحامهم منزله، وهو ما يوحي بأن الفصل الأخير سيزداد إثارة. لكن لسبب ما، يتخلى صناع الفيلم عن هذه الإثارة وينهون الوثائقي بشكل “مبتسر”، عبر عرض الاستنتاجات التي توصل لها المحققون بصورة شديدة المباشرة، ثم يعرضون التحقيق المفصل الذي اعترفت جنيفر بعده.
كان بين يدي صنّاع “ما فعلته جنيفر” قصة مثيرة؛ عائلة متماسكة تفككها جريمة قتل، وابنة تبدو مثالية نكتشف مدى إجرامها الممتد لسنوات، لكنهم اختاروا وضع القصة في قالب تقليدي يشبه النشرات الإخبارية، وهو ما أفقد العمل أهم ما يميزه وحوله إلى فيديو يصلح للنشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
“ما فعلته جينيفر” من إخراج جيني بوبلويل المخرجة المتخصصة في الأفلام الوثائقية المتمحورة حول قصص حقيقية مقززة ومرعبة منها “جريمة قتل أميركية: عائلة في المنزل المجاور” (American Murder: The Family Next Door) الصادر عام 2020 على منصة “نتفليكس” كذلك.
قصص الجريمة الحقيقية بين العرض والطلب
أصبحت المسلسلات والأفلام الوثائقية التي تقدم قصص جرائم حقيقية ظاهرة هذا العقد، سواء من حيث الكم أو من حيث عدد المشاهدات؛ فتبعا لهذه الإحصائية التي قام بها موقع “ذا رينجر” (The Ringer) قدمت منصة “نتفليكس” وحدها 18 عملا من هذا النوع خلال 18 شهر. وقد احتلت هذه الأعمال قائمة الأعلى مشاهدة لمدة 232 يوما.
ليست هذه الإحصائية الوحيدة؛ فشركة “باروت للتحليلات” (Parrot Analytics) المتخصصة في تحليل بيانات الطلب على المشاهدة، أكدت أيضا أن مشاهدات المسلسلات الوثائقية هو الأعلى على الإطلاق في السنوات الأخيرة.
هذه الإحصائيات والأرقام والنتائج ليست خافية على المنصات الإلكترونية وصنّاع المحتوى، بل أصبحت المحرك الأساسي لتغذية هذا الطلب المتزايد، وفيلم “ما فعلته جنيفر” نتاج لهذه الإحصائيات.
“ما فعلته جنيفر” عمل مصنوع تحت ضغط العرض والطلب، يروي حكاية جريمة حقيقية، لكنه لا يمثل الاستغلال الأمثل للقصة، إذ يبدو في الكثير من الأحيان كما لو أنه من إنتاج الذكاء الاصطناعي، وليس عملا فنيا وراءه طاقم كامل من صنّاع الأفلام.
وفي الواقع، اتُهم الفيلم بالفعل باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعديل إحدى المشاهد، الأمر الذي نفاه المنتجون.
وبعيدا عن هذه الاتهامات، يمكن وصف الفيلم الوثائقي بأنه ابنٌ بار لمعادلة تجارية بحته؛ نوع سينمائي يلقى الإعجاب ويحقق مشاهدات عالية، في مقابل قيمة سينمائية ضعيفة.
فعلى سبيل المثال، لم يهتم الفيلم بالأحداث التالية للقبض على جنيفر التي لم يتم إغلاق قضيتها حتى الآن، أو الدافع النفسي وراء ارتكاب ابنة الأسرة العادية لجريمة غير عادية، وقد مر “ما فعلته جنيفر” مرور الكرام على شهادة الطبيبة المتخصصة وأبرز فقط دهشتها كمشاهدة لا كشخص معني بتحليل الشخصيات.
وتبعا لعلم النفس التطوري، تداعب المسلسلات والأفلام الوثائقية التي تتناول جرائم حقيقية ذلك الجزء الخامل من الغرائز البشرية الذي نشط لدى الإنسان القديم عندما اعتمد على الصيد وقتل الحيوانات الخطيرة المهددة لحياته، والفضول البشري لمعرفة هوية القاتل وكيفية تنفيذه للجريمة، وكلها مشاعر طبيعية، ومن المقبول إرضاؤها بالفنون، غير أن الأزمة الحقيقية تتمثل في استغلال المنصات الرقمية لهذه الميول بإنتاجها أعمال دون المستوى.