يقول مالك بن نبي عن العام الذي ولد فيه: “من ولد بالجزائر 1905 أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي المتمثل في أواخر شهوده، وبالمستقبل المتمثل في أوائل صائغيه، فكان لي حين ولدت تلك السنة الحظَّ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان”.
وقد تعرض بن نبي كغيره من الجزائريين لآثار الظلم الاستعماري الذي حول سكان البلد المحتل إلى كتلة بشرية يقتلها الجهل والفقر والخمول والسلبية، وهذا ما وضعهم في نقيض الحضارة، ولكن كان -رحمه الله- من تلك الفئة الوطنية التي لم تخضع للمعامل الاستعماري، فجد منذ صغره واجتهد، متنقلا للدراسة في طفولته بين قسنطينة وتبسة، وأخذ في الكتّاب حظه من حفظ القرآن وقواعد اللغة، وتعلم في المدرسة الابتدائية مبادئ اللغة والثقافة الفرنسية، ولكنّ الأثر الذي صقل شخصيتَه كان في قسنطينة عاصمة الحركة الإصلاحية التي انتقل إليها ليكمل دراسته الثانوية.
لقد شهد مالك بن نبي في شبابه التحولات الكبيرة التي تلت نهاية المقاومة الشعبية المسلحة وبداية حركة سياسية ثقافية غير منظمة ضد الإدماج تزعمها الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، كما وقف على تفاصيل التحول إلى العمل الوطني المنظم، فتعلق كثيرا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين واعتبرها هي الحل العملي الذي يجسد التوجهات الإصلاحية النظرية الرائجة في بداية القرن الـ20.
انتقل في شبابه إلى فرنسا للتعليم الجامعي محاولا التخصص في ما يحبه ويتقنه في معهد الدراسات الشرقية، لكن الفرنسيين حرموه من ذلك، فدرس الهندسة الكهربائية فساهمت ثقافتُه المزدوجة ونشاطه في الأوساط المغاربية وعلاقاته بالساحات الفلسفية الأوربية في بناء قدراته الفكرية الفذة. وحينما ظهر تميّزُه حاول المستشرق المشهور لويس ماسينيون إدماجه ضمن النخب الجزائرية المفرنسة التي يرعاها، فلما رفض ألحق به أذى كثيرا، وحين ظهرت قدراته على التأثير في النخب المستعمَرة المستسلمة للاستعمار لاحقه الأمن الفرنسي في قوته وحياته الشخصية حتى باتت أوضاعه شاقة ومضطربة، وقد نشر عمر المسقاوي -أحد مترجمي كتبه- وثائق من الأرشيف الوطني الفرنسي في كتاب له بيّن فيه تفاصيل الملاحقة من قبل المخابرات الفرنسية.
معركة الأفكار
شعر مالك بن نبي بأنه وحيد في معركة الأفكار التي كان يخوضها ضد الاستعمار أثناء وجوده في فرنسا، ومما قاله في مذكراته: “… ما أثار حفيظتي أكثر فأكثر أنني كنت وحيدا ولم أر طالبا عربيا مسلما يخاطب هذا العالم من حوله بروح من التأمل”، ومما قاله عن النخبة الجزائرية: “أنها يئست من مستقبل العروبة والإسلام في الجزائر بعد أن فشلت كل الثورات التي قام بها الجزائريون منذ قرن لإخراج الفرنسيين منها”.
لقد كانت نظرة مالك تجاه الأداء السياسي للأحزاب الجزائرية في الجزائر ناقدةً ومتشائمة؛ حيث اعتبرها تتوسل الحقوق عند الفرنسيين دون أن تكون لها نظرةٌ شاملة في كيفية إنهاء الاستعمار من داخل النفوس وبالارتفاع إلى المستوى الحضاري الذي يجعله ينجلي من البلاد وتنجلي معه القابلية للاستعمار. وقد تسبب موقفه المعارض لمشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المؤتمر الإسلامي عام 1936 إلى اضطراب علاقته مع بعض علماء الجمعية رغم تعلقه الشديد بها.
وأمام خيبات الأمل وحالة العزلة التي كان يشعر بها لم يجد وسيلةً مؤثرة يساهم بها في محاربة الاستعمار وإدارته وأجهزته الأمنية والنخب الجزائرية الموالية له والنفوس الضعيفة المستسلمة أفضل من الفكر والكتابة والتأليف؛ فتوالت مؤلفاته التي صنعت شخصيته، وقد حاول -وفق شهادة المجاهد رابح مشهود- أن يلتحق بالثوار في الجبل لكتابة تاريخ الثورة ولكن القيادة رفضت حفاظا عليه.
وكما هو حال المفكرين والعلماء الكبار لا تشتهر كل كتبهم بل يُعرفون ببعضها، وهي الكتب التي احتوت أفكارَهم الأساسية، ومن أهم الكتب التي عُرف بها مالك بن نبي كتاب “الظاهرة القرآنية” الذي ألفه عام 1946 وكتاب “شروط النهضة” عام 1949 الذي قال عنه ماسينيون: “أما هذا الكتاب فخطر حقيقي على الاستعمار”، وكتاب “وجهة العالم الإسلامي” عام 1954، وكتاب “الفكرة الآفروآسيوية” عام 1956، وكتاب “مشكلة الثقافة” عام 1958، وكتاب “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” عام 1959. وكتب بن نبي هذه الكتب ضمن سلسلة “مشكلات الحضارة” باللغة الفرنسية. وباعتبار أن أفكاره كانت موجهة للعالم العربي والإسلامي فقد حرص على أن تترجم إلى اللغة العربية.
ملاحقات الاستعمار
ولتعلقه بالعالم العربي والإسلامي وبسبب ملاحقات الاستعمار له هاجر إلى المشرق واختلط بالحركة الفكرية العربية وتأثر بها وأثر فيها، وهناك بدأ يشجع وينظّر لتحالفات الشرق في مواجهة الاستعمار الغربي فألف كتاب “الفكرة الآفروآسيوية” عام 1956 وأهدى نسخة منها لجمال عبد الناصر، وسافر إلى الصين، حيث التقى ماو تسي تنغ، وكان من قبل قد التقى بغاندي في فرنسا. كما اهتم بالتفكير في تحقيق وحدة العالم الإسلامي على أسس عصرية فكتب كتاب “فكرة كمنويلث إسلامي”، وكان يؤمن كثيرا بأهمية تحالف العرب مع العالم الآسياوي.
عاد مالك بن نبي إلى الجزائر عام 1963 معتقدا بأنه سيجد البيئة التي يجسد فيها أفكاره من أجل صناعة نموذج عملي للنهضة في بلاده بالتعاون مع السلطات، فتولى بعض المناصب الحكومية في عهد بن بلة منها مستشار التعليم العالي ومدير جامعة الجزائر، ولكن اضطرته ضغوطات بعض التيارات المعادية لفكره الإسلامي أن يستقيل عام 1967. وتأكد لديه ما كان دائما يؤمن به بأن المشكلة الأساسية التي تمنع النهضة والاستنهاض الحضاري هي مشكلة الأفكار فحول كل نضاله إلى نشر أفكاره في أوساط الشباب عبر الندوات التي كان ينظمها في بيته وفي الجامعات والمنتديات، كما ألف عدة كتب في تلك المرحلة تتعلق بالموضوع منها على الخصوص كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” عام 1970، وكتاب “من أجل التغيير” وهو عبارة عن مقالات كتبها في الستينيات قيّم فيها الفرص التي ضيعتها البلاد التي نالت استقلالها بسبب شلل الأفكار.
لم يشعر مالك بن نبي بالراحة ولم ينل الترحيب اللازم بمنجزاته في حياته في بلده، وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 1973 عن عمر يناهز 68 عاما، توفي رحمه وهو يحمل هموما كثيرة، غير أن الله سبحانه أنصفه فانتشر فكره بعد مماته في كل أصقاع الدنيا وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات، فبلغ بها مقام العلماء الكبار الذين تميزوا في الدراسات التاريخية والاجتماعية وأسباب سقوط ونهوض الأمم، أمثال ابن خلدون وتوينبي وديورانت وغيرهم، واعتمدتها العديد من الجامعات واستفادت منها قصص نجاح كبيرة في ماليزيا وتركيا وغيرها.
لقد استشرف كيف يكون مصيره ومصير أفكاره في كتابه “شروط النهضة” حين قال في الأنشودة الرمزية التي افتتح بها الكتاب حيث قال: “وها هم أولاء قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة”، وحين قال “ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك .. في عمق المستقبل”.