ليبيا والشعر والصداقة.. أدب مراسلات عربي في الزمن الإلكتروني

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

لماذا نحب قراءة المراسلات الأدبية؟ وهل هذه المراسلات الأدبية رؤانا حول ما حدث في زمن ما؟ وهل يستمتع القارئ بمعرفة الجوانب الحياتية لكُتاب المراسلات؟ وما الفرق بين المراسلات الأدبية المكتوبة بخط اليد وتلك المرسلة عبر البريد الإلكتروني؟

ويحاول كتاب “أثر الطائر في الهواء” (دار الفرجاني-2023) الذي هو عبارة عن مراسلات أدبية بين كاتبين ليبيين هما سالم العوكلي وعاشور الطويبي، الإجابة على هذه الأسئلة.

وتفوح من الرسائل رائحة القلق والعزلة والروتين اليومي الممل، ووطن يسير نحو المجهول، ووجد كلا الكاتبين في كتابة تلك المراسلات رفقة طيبة تخفف آلام ما يشعران به، عاشور يكتب من تروندهايم النرويجية البعيدة، وسالم من قرية كرسة شرق ليبيا.

فهل يجد الكاتبان في تبادل هذه المراسلات فسحة للبوح والحنين؟ تجيب على هذا السؤال الروائية الأميركية إليزابيث هاردويك بحديثها عن المراسلات الأدبية، فتقول “أهم ما في الرسائل هو أنها مفيدة كوسيلة للتعبير عن النفس العليا المثالية، ولا توجد طريقة أخرى من طرق التواصل تضاهيها في تحقيق هذا الغرض”.

وتردف “في المحادثات تمثل تلك الأعين المثيرة للقلق التي تتطلع إليك، وتلك الشفاه المتأهبة للتصحيح حتى قبل أن تبدأ الحديث، رادعاً قوياً لعدم الواقعية، بل للأمل”.

عبثية الواقع وجمالية الأدب

يبدأ الكتاب بمقدمة للشاعر الليبي خالد مطاوع أشبه بدراسة مطولة عن نشأة أدب الرسائل في العالم وتطوره التاريخي، مشيرا إلى أن هذه المراسلات تقدم قراءة عضوية مزدوجة للحالة الليبية تجمع بين وجهة نظر من المنفى البعيد والأخرى من “شبه حصار” داخل الوطن.

ويشير خالد مطاوع إلى أن الشاعرين يجمعهما “شجن ليبي” مشترك، على أن الوضع في ليبيا بات عبثياً بامتياز، ويصف الشاعر سالم العوكلي -الذي يعايش الوضع الليبي وعاشر أزماته الاقتصادية والسياسية- بلاده بأنها صارت بلد “الحزن والخيبة والإحباط”.

تبدأ المراسلات يوم 30 يوليو/تموز 2017، بالحديث عن الشعر والترجمة، يكتب الشاعر والمترجم عاشور الطويبي عن نصه الشعري الجديد الذي ينطلق من مثنوي جلال الدين الرومي، وترجمته لقصيدة الشاعرة الإيرلندية فونا غروارك، تقول فيها:

“أشح بصرك عن الوردة / اتبع أثر الطائر الذي حط على الوردة ورحل/ هل تعرف كيف تجد أثر الطائر في الهواء”.

المنفى وهروب الشعر

هنا يسأله الشاعر سالم العوكلي، ماذا يمنح الشاعر والشعر للمترجم؟ وماذا تمنح ترجمة الشعر للشاعر؟ ويسترسل العوكلي في رسالته ليخبره أن الشعر قد هرب منه إلى مكان بعيد، ربما يختبئ في ملجأ تحت الأرض وبالتالي طقوس استعادته صعبة.

وعن ذلك الهروب شرح قائلا “لست قوياً بما يكفي لأكتب شعراً في زمن الحرب أو داخل زنزانة كما فعل شعراء آخرون، ولم أجرب المنفى الذي ما زلت أنظر إليه برومانتيكية عاتية، لأن أجمل الشعر الذي قرأته كان يتدفق من المنافي”.

وفي رسالته الموقعة يوم الخامس أغسطس/آب 2017، كتب سالم العوكلي عن رغبته في تقديم كتاب نثري عن الشاي، وتحديدا الشاي في ليبيا على غرار الكتاب العظيم الممتع “الشاي” لمؤلفه الياباني أوكاكورا كا كوزو، واصفا الكتاب بأنه من أروع الكتب التي قرأها شعرا ونثراً.

في الرسالة ذاتها أخبر العوكلي عاشور الطويبي عن كتابه “بنات الغابة” الذي ظلم مرتين، هذا الكتاب جاء -وفق كاتبه- في ذروة ولع سالم العوكلي بالكتابة عن الجسد الذي يعتبره “هذه الكينونة المقصاة بغيابها في خطاب الإثم والنجاسة والعورة أو بحضورها في خطاب السوق والسلعة والإعلان”.

وفي رسالة أخرى، يشير سالم العوكلي إلى أن كتابة نص شعري عن فن الطبخ يعد فكرة مذهلة، خصوصا وأن كل الحواس تنفعل مع الطبخ كما لا تنفعل مع أي فن آخر. لذلك أورد في رسالته نصه الشعري عن الطبخ:

“كساحر حقيقي/ وبرشاقة الظلال/ يقطع الطباخ المحترف/ أصناف الخضار/ وهو يحدث المشاهدين/ عن مهنة صيد النكهات/ من حقول العالم”.

أدب الزمن إلكتروني

يقول خالد مطاوع “في هذه المراسلات يبدو عاشور مثابرا على كتابة قصائده، وترجمة قصائد شعراء من حول العالم، وسالم الذي كاد يترك الشعر ووجد كتابته صعبة في زمن الحرب، نجده هنا يرجع له وقد ابتكر شكلا جديدا سماه الطواسين، هذه التسمية التي تلمِح للطلاسم كشكل شعري”.

وتعني هذه المراسلات الأدبية -التي تم تبادلها عبر البريد الإلكتروني- أن الأدب قد استفاد من التطور في وسائل التواصل الحديثة، مما يعد امتدادا لبعض الأعمال الروائية التي وظفت التقنية الحديثة مثل رواية الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد “في كل أسبوع يوم جمعة”، وفي أعمال الروائي الأردني محمد سناجلة وروايته “شات”، إضافة إلى “أدب المدونات” و”الرواية الرقمية”.

وفي رسائل العوكلي والطويبي رفض صريح للحروب التي تدور داخل المدن، والمزيدات السياسية، ورغبتهما في تحويل تلك الكراهية والقبح إلى مشروع جمالي.

وفي رسالته الموقعة يوم 11 أغسطس/آب 2017، يسأل عاشور الطويبي “عزيزي سالم كيف يمكنك تغيير العالم؟ أن تجعل من نفسك مركزا له، أن تختلط أحلامك مع أحلام الآخرين فلا تعرف أيها لك، أن تفكر في الأمر كل يوم ولا تجد كيف حدث الذي حدث، أن تحزن عندما تبلغ السبعين ولم تفهم الحياة بعد”.

ويأتي رد سالم العوكلي “لا أقوى على تغيير العالم، ولا أرغب في ذلك، أحب أن أتغير معه مثلما أتكيف مع امرأة أعشقها وأحبه أن يتغير معي، وأن يستسلم (العالم) لخيالي كفتاة موديل أمام رسام بطيء.. كثيرا ما أتساءل ما الحياة؟”.

ويرجع سالم العوكلي سر السردية المميزة في قصائده، إلى الصوت العالي الذي بدأ به تجاربه الشعرية الأولى، وربما يكون تعويضا عن الخجل والانطوائية التي رافقت طفولته.

رسائل الأدب والحياة

في الرسائل تساؤلات وأحاديث لا تنتهي عن شعراء وأدباء مثل محمود درويش، وبسام حجار، وسيوران، ولوركا، والترجمة، وهل حقاً هناك شعر رديء، وأسئلة عن المطربة فيروز، وصعوبة الحياة في ليبيا حيث يعجز المرء أحيانا عن توفير أبسط أشياء يومه مثل الخبز.

وفي الكتاب أيضا مراسلات عن الكتب والكتابة، عن عدم الرغبة في قراءة الشعر أمام الجمهور بسبب الكراهية، والأهم، كيف ساهمت هذه المراسلات في أن يتعرف الكاتبان على بعضهما بشكل مختلف رغم عمر الصداقة الطويل.

ويعتبر أدب المراسلات أو أدب الرسائل من أشهر أنواع الأدب وأكثرها رواجاً، ويعود ذلك إلى أن تلك الرسائل تكشف عن جوانب خفية من شخصيات الأدباء وتوثق لحظات من حياتهم لا يعرفها القراء، مثل رسائل إلى ميلينا لفرانز كافكا، والكتاب النثري “الرسائل” بين محمود درويش وسميح القاسم، ورسائل مي زيادة، ورسائل نابليون إلى زوجته جوزفين، ورسائل إلى شاعر شاب لراينر ماريا ريلكه، ورسائل إلى فيرا لفلاديمير نابوكوف، ومراسلات غوركي وتشيخوف، و”دولة الحب: مراسلات تولستوي وغاندي”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *