في الوقت الذي لا تزال فيه إسرائيل تلقي بقنابلها على النساء والأطفال في قطاع غزة -باحثة منذ أكثر من شهرين عن ظل إنجاز عسكري لا يبدو أن هناك أي مؤشرات على قرب تحققه على الأرض- تظهر خسائرها أمام الرأي العام الدولي كل يوم أكثر فداحة ومعها كل الإنجازات الثقافية التي حققها حلفاؤها حول العالم على مدى قرون، بشكل قد يصعب التعافي منه على الأقل في المدى المنظور.
وقد هز العدوان الوحشي على غزة سرديات ثقافية راسخة غدت مؤخرا محل تشكك ليس من طرف عدد كبير من المثقفين العرب الذين خبا افتتانهم بفلسفة الأنوار الأوروبية، بل انسحب إلى مثقفي الغرب أنفسهم الذين بدؤوا بطرح تساؤلات كبيرة عن “القيم الغربية” وعلاقتهم الحضارية بالعالم في ظل تواطؤ مؤسساتهم الرسمية واستقوائها على شعب محتل.
الإنسانية في مأزق
“هل يكره الإسلام الغرب؟” هكذا عنون عالم الاجتماع الإيطالي الشهير أليساندرو أورسيني فيديو له نشره مطلع هذا الشهر في قناته الرسمية على يوتيوب التي أسسها بعد تعرضه لهجوم ممنهج من وسائل الإعلام الإيطالية الكبرى وضغوط مهنية وصفها بالإجراءات الانتقامية بحقه من طرف الجامعة الإيطالية بسبب تحليلاته السياسية عن الحرب والتي لا تتوافق مع المروية الرسمية. تحليلات أتى من بينها ما دوّنه على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني تعليقا على صفقة تبادل الأسرى الأخيرة بين حماس وإسرائيل:
“فيما يخص موضوع الرهائن دعوني أشرح لكم شيئًا لن تخبركم به وسائل الإعلام الإيطالية الفاسدة. بما أن الغرب حضارة عنصرية على نحو شرس، فهي مقتنعة بوجود أعراق متفوقة وأعراق أدنى منها، لذلك فإن البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي يسعيان لتحقيق هدنة تدوم لفترة كافية من أجل تحرير الرهائن الغربيين، أي العرق المتفوق، لكنهما يعارضان هدنة لإنقاذ الفلسطينيين الذين يعتبرهم الغرب عرقا أدنى، وبالتالي فهم يستحقون الإبادة. وليس من قبيل الصدفة استخدام بايدن حق النقض في مجلس الأمن ضد الفلسطينيين، وذلك بدافع من العنصرية الغربية عديمة الإنسانية، لكنه يريد هدنة لمدة 5 أيام لإنقاذ الرهائن الغربيين ثم تُستأنف بعدها المقتلة بحق الفلسطينيين”.
أورسيني في تدوينة أخرى بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني بدأ كلامه مجددا دون أي تنميق:
“الوحوش هم نحن.. مجزرة غزة تكشف أن لا أحد يقوم بانتهاك حقوق الإنسان مثلما تفعله الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. الأدلة التجريبية تشير إلى أنه لا يوجد أي تحالف أكثر إجراماً وانعداما للإنسانية من ثلاثي المفوضية الأوروبية، والبيت الأبيض، وإسرائيل”.
ويواصل بأسلوبه المباشر المعتاد والخالي من أي تلاعب بالكلمات “إن نحن استخدمنا الملاحظة العلمية، أي الملاحظة غير العاطفية وغير الموجهة أيديولوجياً، يتبين أن التنظيم الأكثر إجراماً في العالم يتكون من التحالف بين هذه الجهات السياسية الثلاث: الاتحاد الأوروبي، البيت الأبيض، إسرائيل.. الأكثر انعداما للإنسانية على الإطلاق هم نحن.. نحن الأوروبيين، نحن الأميركيين، نحن الإسرائيليين.. أعطوني اسم دولة إسلامية واحدة تذبح الأطفال مثلما يفعل تحالف الاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض وإسرائيل؟ لا يوجد.. فمَن الأكثر دموية وانعداما للإنسانية بين الإسلام والغرب إذن؟”.
ويضيف أورسيني دون مهادنة، بتاريخ 7 ديسمبر/كانون الأول، أن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن يقول إن على إسرائيل أن تفعل المزيد لحماية المدنيين بغزة “لكن البيت الأبيض لا يفعل شيئا حيال ذلك، والرئيس جو بايدن يؤكد أنه ضد وقف إطلاق النار. فمن ناحية، يضع بايدن نتنياهو في وضع يسمح له بذبح الفلسطينيين بحرية، ومن ناحية أخرى يطلب منه أن يذبحهم باعتدال”.
ويردف عالم الاجتماع الإيطالي معقبا “المسلمون لا يقتلون ولا حتى طفلاً غربياً واحدا، الغربيون يقتلون آلاف الأطفال المسلمين.. فهل ندرك كم هو صعب حالنا؟ نحن نذبح المسلمين فهم الأشرار ونحن الأخيار.. نحن نعيش في الكذب والخداع.. الإعلام يمكن أن يجعلنا نصدق أي شيء تقريبًا”.
وخطاب بهذه الصراحة لم يعتد عليه المتلقي الغربي من مثقفيه الحريصين عادة على تقديم قراءاتهم ضمن اصطفافات أيديولوجية محسوبة بالملليمتر تُقسّم المواقف السياسية كلها بعناية بين يسار ويمين، ولا يظهر فيها إرادة لفتح موضوعات جوهرية من شأنها هز أسس الفكر الغربي القائم على فكرة التفوق الأخلاقي والتي تبناها مؤخرا مثقفو اليسار الغربي أنفسهم من خلال محاولة إرساء منظومة أحادية الفكر تقوم على أيديولوجية معولمة لكنها متنافرة في تفاصيلها الداخلية مع جوهر الثقافات المحافظة التي تسعى المنظومة النيوليبرالية لضمها تحت جناحها جنوب العالم مع محاولة صريحة لتسطيح مكون الدين فيها وتحويل الإسلام تحديدا من داخلها لعنصر فولكلوري “منزوع الكافيين” بتعبير الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو.
حوار الأديان
أورسيني -على غرار فوزارو- بدأ مشروعه الفكري الخاص للحوار بين الأديان، كما ذكر في فيديو الأول من ديسمبر/كانون الأول، وعاد فيه إلى علاقة الغرب بالإسلام من بوابة فلسطين حيث قال صراحة إن الغرب هو من يكره الإسلام وليس العكس، وإن العدوان الأخير على غزة يثبت كيف أن أقلية غربية في المنطقة هي من تتغوّل على مسلمين محتلين ومحاصرين تماما كما فعلت قبلها أميركا في العراق وقتلت أكثر من نصف مليون طفل.
وذهب عالم الاجتماع الإيطالي المختص بشؤون الإرهاب لما هو أبعد من ذلك، وذكر أنه -وبعكس كل ما قيل لنا طيلة عقود إن المسلمين يريدون فرض نمط حياتهم على الغرب- فإن الحقيقة أن الغرب هو من يسعى لفرض نمط عيشه على المسلمين، وهو لا يوفر لأجل ذلك أدنى جهد ولا يتردد حتى لاستعمال القنابل لتحقيق ذلك، كما تبين لنا كل وقائع التاريخ.
وغزة -التي زعزعت مركزيات هيمنةٍ فكرية لم يكن تصور المساس بها أمرا ممكنا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي- فجّرت احتجاجات طلابية غير مسبوقة داخل الجامعات الإيطالية كان أبرزها حراك طلبة جامعة تورينو يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني والذي جرى بموجبه إلغاء برامج الدراسة وتنظيم ملتقى أثار جدلا واسعا بوسائل الاعلام، دُعيت إليه عبر الإنترنت الفدائية الفلسطينية ليلى خالد وهو ما دفع بعميد الجامعة لإعلان تبرؤه من أي ملتقى عُقد أثناء “احتلال الحرم الجامعي”. وطالبت النائب بالاتحاد الأوروبي عن الحزب الديمقراطي اليساري، بينا بيتشيرنو، السلطات الأمنية العليا للبلاد بالتدخل لإيقافه.
عمليات “احتلال” الجامعة بتعبير الصحافة الإيطالية التي عرفتها مدن مختلفة -على غرار نابولي وروما وبولونيا وبادوفا وماتشيراتا وجنوة وفلورنسا وترييستي- فجّرت تساؤلات كبيرة حول مصداقية الملتقيات الرسمية بشأن القضية الفلسطينية (تلك التي تعقد بموافقة السلطات) وأظهرت وعيا كبيرا للطلبة بمشهدية التضامن الاستعراضي مع غزة من طرف الأكاديميا الإيطالية، وهي التي حرصت منذ بدء الحرب على إطلاق مبادرات حوارية في جامعات عدة، لا يبدو أن مقارباتها قد أقنعت الطلبة الإيطاليين.
ولم تفلح حتى الرسالة -التي وقّعها أكثر من 4 آلاف أكاديمي من مختلف الجامعات وُجهت في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني للخارجية الإيطالية للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة- في امتصاص غضب الطلاب الذين فهموا أن تحركا كهذا لا يشذ عن لعبة التجاذبات السياسة الداخلية بين اليمين واليسار، لاسيما وأن كل ما تعرض له أورسيني جراء تمرده على السردية المهيمنة لم يعد خافيا على أحد، وهو ما دفع بالأكاديميا للقيام بتحركات ترقيعية لتشتيت انتباه الرأي العام عن الإجماع المريب بشأن الموقف من إسرائيل بإيجاد حركة شبه ثورية للأكاديميين من خلال رسالة جرى تداولها بشكل واسع بوسائل الاعلام وأريد تمريرها على أنها حدث “بطولي” من أساتذة استهلّوا رسالتهم التضامنية مع أهل غزة بوصف مقاومتهم “بالوحشية”.
ويحدث هذا، في الوقت الذي رفض فيه الأكاديمي اليهودي البارز نورمان فينكلشتاين التنديد بعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحركة المقاومة الإسلامية، قبل ظهور نتائج أي تحقيق تثبت تورط حماس فعلا في أي أعمال وحشية. فلماذا وضع أكاديميو إيطاليا فكرهم النقدي جانبا ومعه موضوعيتهم، ولم يحذوا حذو فينكلشتاين وهو ابن ناجيين من المحرقة وأحد أكثر مفكري اليهود نزاهة في العصر الحديث؟
العنصرية والاستشراق والإسلاموفوبيا
العنصرية والاستشراق وكراهية الإسلام، هو ما أجمع عليه 3 صحفيين إيطاليين ينحدرون من تقاليد سياسية وفكرية متباينة، اتفق جميعهم -في حوارات نشرتها الجزيرة نت- أن الجامعة الإيطالية مسؤولة عن تقديم صورة مشوهة عن القضايا العربية والإسلامية بإيطاليا، حيث دعا فرانتشيسكو بورغونوفو نائب مدير يومية “لافيريتا” الجامعة الإيطالية -التي وصفها بـ”مدعية الطيبة”- للتوقف صراحة عن الكذب، بينما أكد دافيدي بيكاردو مدير “لالوتشي” أن الجامعة بإيطاليا تحولت إلى “بوق أيديولوجي” بينما قالت مديرة النسخة الإيطالية من “بالستاين كرونيكل” إن الجامعة الإيطالية تعاني من تخلف في الدرس ما بعد الاستعماري وإن المقاربات المطروحة داخلها عنصرية واستشراقية.
ويبقى ما هو أشد إثارة للاهتمام من خلال كل ما تكشفت عنه معارك السرديات الثقافية بشأن العدوان الأخير على غزة، هو أن الأكاديميا التي حاضرت على العالم العربي طيلة سنوات حول مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، تمارس هي نفسها اضطهادا وظيفيا على أساتذة إيطاليين يعتنقون الإسلام بحسب ما كشفه مدير مجلة “لالوتشي” دافيدي بيكاردو للجزيرة نت.
ليعيدنا كل هذا لمشروع أورسيني الفكري الذي تبناه بعد هذه الحرب، ومعه تدوينته الشهيرة ليوم 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي “(..) لقد تم تدمير مسيرتي الأكاديمية حرفيًا. في إيطاليا، لم يعد لدي مستقبل (..) في العالم الأكاديمي الإيطالي، أنا أتعرض لكمّ فظيع من الظلم والمضايقات والانتقام الشخصي والمؤسساتي بسبب تحليلاتي حول الحرب (..) لا تزال تنتظرني العديد من عمليات الثأر والانتقام من الجامعة الإيطالية (..) لكن على أي حال، دعوني أشكر كل من يحبني ويدعمني واشترك في قناتي على يوتيوب (85 ألفا مشترك) شكرًا جزيلاً لكم”.
واليوم تجاوز عدد المشتركين بقناة أورسيني 100 ألف على يوتيوب، وقد تصدر بحسب آخر الإحصائيات قائمة الشخصيات الإعلامية التي حصدت أكبر نسبة تفاعل من الجمهور الإيطالي خلال أكتوبر/تشرين الأول، في دلالة واضحة على تطلع الشعوب الغربية للتحرر من السرديات المهيمنة، والتفافها حول مثقفيها غير المرتهنين لمؤسسات سلطوية أعلنت إفلاسها الأخلاقي التام أمام عدوانٍ لم تشهد البشرية مثيلا لوحشيته بتاريخها الحديث. لتغدو غزة اليوم عنوانا للتحرر من سطوة المستعمر، بل أكثر من ذلك رمزا لانعتاق شعوب العالم بأسره من الهيمنة الثقافية وربقة الفكر الأحادي.