كيف تحول الراب من فن الهامش إلى صوت الشباب العربي؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 14 دقيقة للقراءة

استرد الفن، أواخر القرن الـ20، الفضاء العام، فخرج تدريجيا من كنسيته ليلتحم بالشارع والصخب والحركة والفوضى. فأصبحنا نتحدث عن مسرح الشارع والغرافيتي والراب والهيب هوب. ولئن كانت هذه الفنون قد نشأت في الغرب وأميركا تحديدا قبل أن تنتشر في أوروبا فإنها استطاعت تدريجيا أن تجد لها موطأ قدم في العالم العربي.

كان لبعضها مساهمة مهمة في الحراك الاجتماعي والسياسي قبيل الانتفاضات الشعبية سنة 2011، فما زالت الجماهير تذكر أغنية “يا رايس البلاد” للشاب التونسي الذي أطلق على نفسه اسم” الجنرال”، مثلا، وقد أثرت في تحريك الشباب في المناطق المهمّشة والأحياء الشعبية حيث كانت الأغنية تنقد بجرأة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للتونسيين وتفضح آلة القمع البوليسي.

انتشرت أصوات الراب شرقا وغربا قبل ذلك وبعده حاملة عبء فضح الأنظمة الحاكمة وقتها واستمرت بعد الثورة في تلاحم حميمي بين الغرافيتي والراب على الطريقة الأميركية. كانت جماعة أهل الكهف التونسية أهم مجموعة للغرافيتي وقتها.

عاد الجنرال سنة 2014 ليقدم أغنية “يا ريس البلاد 2” لينقد واقع ما بعد الثورة مذكرا أن الثورة لم تحقق شيئا مما وعدت به، لكنه هو الآخر اختفى كالكثير من الفنانين قبل انقلاب 2021 وظل مختفيا بعده بينما واصل الفنان “بلطي” تجربته الفنية التي تراجع فيها النقد السياسي وتوجه نحو العاطفي والنقد الاجتماعي الخفيف أو تلك الأغاني التي تقدم نوستالجيا في أجواء كوميدية ليؤكد أنه “الرابور” الأنجح في تونس والقادر على التأقلم مع كل الأنظمة السياسية وتحولات المشهد من دون أن يتورط في الاصطفاف مع أحد .

إعلان

على نفس هذا النموذج التونسي كسب مغني الراب العربي شعبية كبرى عند الشباب حتى تفرغ لهذا الفن وأطلق كل واحد منهم قناته الخاصة على اليوتيوب التي صارت تدر عليه أموالا تكفي لتجعله يعيش حياة باذخة ومرفهة بعد أن كان أغلب مغني الراب يعيشون ضنك العيش في أحيائهم الفقيرة. لكن سرعان ما حاولت أنظمة ما بعد الانتفاضات توظيفهم في الانتخابات والدعاية لها، بعضهم انخرط في لعبة السياسة وبعضهم جندته الجماعات المتطرفة والبعض الآخر غرق في عالم المخدرات والجريمة والبعض لم يكن له نفس وانسحب من المشهد أو استقطبته فنون أخرى كالسينما والدراما بينما واصل البعض الآخر الإنتاج والنجاح والتأثير في الشباب العربي.

لم يسبق لفن الراب أن وقع تناوله كتابة بجدية وعمق قبل كتاب سيد عبد الحميد ” فن الشارع حكايات عن كتابة الراب والموسيقى” الذي صدر بالقاهرة في طبعة عربية عن دار صفصافة وصدر هذه الأيام بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في ترجمة إنجليزية لعمر المهدي عن سولفير للنشر.

الكتابة عن الراب أو مغامرة إحراق المراجع

ظل التطرق إلى فن الراب شفويا في العالم العربي ويتناول هذا الفن بشيء من السطحية أو عرضيا ويرجع ذلك إلى بقاء الكتابة النقدية العربية منغلقة على متونها الكلاسيكية وهو ما جعل النقد يعيش جمودا من خلال ارتهانه لأدوات متكلسة حول مفاهيم العملية الإبداعية. اعتمد هذا الفن كليا لفرض نفسه على جمهوره الذي يعتبر خطابه أقرب له من خطابات أخرى كالفنون الكلاسيكية والآداب المكرسة والصحافة الفنية الضعيفة. لذلك كان الراب في حاجة إلى كتّاب ثوريين وأصوات جديدة من الشباب الذين تماست حيواتهم مع منتجي هذا النوع من الأداء أو كان بهم شغف بفنون الشارع أو مغامرين حقيقيين في البحث والنقد.

لهذا كله كان البحث في الراب حتى عالميا مغامرة المبدعين من القصاصين والروائيين فأقدم على البحث فيه الكاتب الأميركي ديفيد فوستر ولاس والملقب بجويس الأميركي وأحد رموز ما بعد الحداثة وصديقه المبدع مارك كوستيلو عندما نشرا كتابهما “مغنيو الراب المميزون: موسيقى الراب والعرق في الحاضر الحضري” ليقتحما عالم الراب معرفين به وبرهاناته وطرق اشتغاله في بوسطن.

غلاف كتاب David Foster Wallace Mark Costello

كان الكتاب في أصله مقالا نشره ديفيد فوستر والاس في أحد المجلات قبل أن يتوسع المقال بعد ذلك ليتحول إلى كتاب شهير ويصنف ضمن الكتب الأكثر مبيعا. ذات الأمر حدث مع الكاتب سيد عيد الحميد الذي بدأ كتابه “فن الشارع” من مقال نشره ثم جاءت فكرة التوسع في هذا الفن بحثا ونقدا.

إعلان

يوضح سيد عبد الحميد منذ البداية مشروعه ودوافعه ويعتبر الاهتمام بالراب نابعا من ارتباط أغانيه بأصحابه باعتبارهم كتّابا فلا ينفصل -حسب رأيه- “الراب بشكل خاص عن الأدب باعتباره كتابة بشكل مغاير تعتمد بالتأكيد على عوامل موسيقية، تساهم في خروجها في شكل نهائي كأغنية ولكن صاحبها كاتب يعتمد على موضوع خاص أو عام، ويستخدم آليات كتابة الأدب ليقدم قصة من خلال قصيدة”.

المقدمة الأطروحة.. الراب وتفجير الذات

وضع الباحث مقدمة مهمة للكتاب استطاع من خلالها أن يمهد لبقية فصوله، ففيها قدم مبرراته وعلل اهتمامه بالراب وأكد على محلية الكتاب باعتباره توجها مدروسا على الرغم من اعتماده المقارنة أحيانا بين ما يجري في العالم والعالم العربي، كما أجاب عن سؤال العلاقة بين الأدب والراب والجمهور المستهدف، وعن سؤال لماذا الراب؟ يجيب: “بالنسبة لجيل ما بعد الثورة بالتحديد، فإن موسيقى الراب هي الأكثر تعبيرا عنهم في صورتها المعقدة المحصورة ظاهريا في هجاء الآخرين والتفاخر المفرط بالذات، وفي صورة أعمق في محاولات الخروج من الاكتئاب أو نمطية التعبير عن الذات، العملية الأكثر تعقيدا لجيل كامل نشأ في تشتت وتخبط، جيل نشأ في الأزمة ولم يعرف رفيقا غير الاكتئاب ولم يعرف صديقا أقرب من سماعة الهاتف التي تعزله عن العالم”.

ويعتبر الكاتب أن الراب شكل فني من تلك الفنون التي تحطم الأسوار التي ارتفعت حول الذات من سلط متعددة لكي تقول ذاتها مما جعلها محل فضول الآخر الذي صار جمهورا. يقول: “لا ينفصل الراب عن الحياة الواقعية في أي مجتمع، تنعكس التجربة الحياتية لكل شخص منا على فنه أيا كان نوع هذا الفن، وبما أن الراب يعتمد على الكتابة الذاتية في الأصل، فإن حميمية العلاقة بين النص وصاحبه تدفع المتلقي للغوص أكثر داخل تفاصيل العالم الموسيقي أو المرموز له في كل أغنية، على سبيل التلصص والتقصي في البداية وصولا لمرحلة الإعجاب بالمشروع الفني ككل، أو تجاهله ورفضه إذا لم يكن معبرا بشكل كاف”.

وبيّن الباحث أن مغني الراب لا يستعين بأحد لكتابة أغانيه، بل إن البعض في بداياتهم لم يستعينوا حتى بغيرهم لوضع موسيقى أغانيهم، ومن ثم فهذا الفن شديد الذاتية، وهو ما يجعل من الراب تجربة حياتية خاصة قبل أن يكون فنا.

إعلان

لا ينسى الباحث الإشارة في مقدمته إلى انحدار الراب من الهيب هوب ونشأته الأميركية، واعتماده على نرجسية المؤدي وافتخاره بنفسه، وقدرته على التقليل من الأعداء الآخرين في سياق أغنيته، ليشمل ذلك أغانيهم وليمتد إلى نمط الحياة الخاصة بهم، وهذا ما يشبه الهجاء في الشعر الجاهلي”.

هكذا يؤصل سيد عبد الحميد الراب في المخيال العربي بصفته نشاطا ثقافيا ليس غريبا تماما عن الثقافة العربية التي عرفت غرضيه في الشعر “الفخر والهجاء” وهما غرضان متلازمان في الشعر العربي القديم وعرفا نجومهما وعرفت الثقافة العربية هجّائين كبار منهم الثنائي جرير والفرزدق، والحطيئة، وفي الفخر أسماء لامعة من عنترة العبسي إلى المتنبي. وأحسب هذه النقطة التي شبه فيها الباحث الراب بما عرف في الشعر الجاهلي من فخر وهجاء كانت تحتاج إلى معالجة أعمق وأوسع لأنها أطروحة في حد ذاتها وفكرة أصيلة ما كان يجب أن تطرح بشكل مقتضب. وأحسب أنه لو عاد إليها كتيمة مركزية لكتاب آخر وأجرى مقارنة عميقة بين الشعراء القدامى ومغني الراب سيخرج بعمل أصيل ويشكل إضافة حقيقية خاصة أن بعض مغني الراب والهيب هوب جربوا في مصر غناء قصائد قديمة باللغة العربية.

كما أجابت المقدمة عن أسئلة من نحو: لماذا يتصدر الراب؟ ما الجديد في عالم الراب؟ الراب في مصر وموجات الاعتزال والعودة والراب والمتلقي.

فن البورتريه ومقاربة الجماهير

اعتمد سيد عبد الحميد في مقاربته لفن الراب المصري على فن البورتريه فعنون كل فصل بأحد نجوم الراب مرفقا الاسم بالقضية أو التيمة التي ينشغل بها أو إحدى خصائص شخصيته وعلاقتها بتوجهه إلى هذا الفن، من مثل “الجوكر الروائي”، و”مروان موسى: للحب آثار سلبية” و”ويجز: أحكم حكيم” و”مروان بابلو: من الجميزة إلى الحب فين” و”شاهين العبقري: عودة أشرس أنواع الصقور” و”أبيوسف.. متعدد الوجوه”. وساعد هذا الأسلوب على إنتاج نصوص نقدية ذات طابع سردي، فاستفاد الباحث من هويته الإبداعية كروائي وقاص ليكتب قصة الراب في مصر عبر هذا النقد الثقافي الذي جعل قاعدة قراءة هذا الكتاب تتوسع لتستهدف قراء الأدب ومتلقي الفن والمنشغلين بعلم الاجتماع والمؤرخين للفنون.

إعلان

تشير الأكاديمية والروائية المصرية الكندية مي تلمساني في مقدمة الكتاب في نسخته الإنجليزية إلى أهمية مقاربة الجماهير فتكتب: “تعد دراسة الجماهير واحدة من أكثر مجالات البحث تحديا، فإن هذا الكتاب يمثل فرصة لا تقدر بثمن لسد الفجوة بين إنتاج الموسيقى واستقبالها من خلال ربط الاستجابة الإعلامية لموسيقى الراب/التراب والثقافات الجماهيرية الفرعية في مصر. ويقدم الكتاب تقييما شاملا للكلمات الاستفزازية، والمحتوى الجنسي/السياسي، والتأثير الإيجابي للموسيقى وكلمات الأغاني على استهلاك وتوزيع الراب والتراب. لذلك، يعد الكتاب مصدرا مرجعيا ممتازا للباحثين والنقاد والجماهير العامة المهتمة بالموسيقى وتأثيرها على الثقافة الشعبية في مصر. من خلال عيني (وأذني) سيد عبد الحميد، الباحث ذي المعرفة الواسعة”.

في هذا الفصل الذي خصصه لمغني الراب المعروف بالجوكر ينطلق الباحث من بدايات المغني ومن اسمه الحقيقي وتحديد سنه وبداياته مع الأدب وتعلقه بالشعر وكتابة الرواية ليصل إلى ولعه بالراب واختباره للقب الجوكر كإعلان تمرد على موجة الراب السائدة والتي تتبنى التمرد الكامل واستعمال ألفاظ نابية ليخوض تجربة الهجاء على طريقة الشعر الجاهلي. وكيف تطور تدريجيا وأضفى بشخصيته ذات الميول الأدبية على أغنية الراب طابعا قصصيا وأدبيا وشحنها بالرموز، مما جعله حسب الناقد يحمل رسالة عبر هذا الفن الذي يعاني الوصم، فعرف بأغنياته بعد ذلك “في اختلافنا رحمة” ودعوته للتعايش السلمي وأغنيته “بلادي، بلادي، ليكي الحرية بتنادي” وقد عرف مجد شهرته مع ثورة يناير وبعدها وبصوته وكتابته الجريئة على غرار أغنيته في “اختلافنا رحمة” التي يقول فيها:

عايزينا صم بكم والدليل بتحاربو فكري
تهديد ماهزنيش من امتى صوت الحق بيجري؟
تراك بلدنا ثمرة تمسحوه أسقيلكو جدري
وبكرة استيكتكو تخلص وهيبقى حبري
تهدوا الي بيبني، بتبنوا اعلام بيعمي
وف ظل خوفكو الناس تفتّح، بيهددكوا اسمي
تزيفوا العبادة، وتفرشوا السجادة
أزاي بتقابلوا رب بتغضبوه لإرضاء السادة؟

ويكشف الناقد سيد عبد الحميد أن التقاء الجوكر بالشافي وتعاونهما كان سببا رئيسا في نجومية أخرى للجوكر خاصة عندما دمج الشافعي صوت أم كلثوم وصوت الجوكر.

إعلان

 

ظل الفنان ينقد النظام السياسي عبر نقد الواقع ومعاناة المواطن المصري كما توجه في بعض أغانيه نحو قضايا عربية ودولية ومنها القضية الفلسطينية كأغنية “ضحايا” التي وجهها لإسرائيل والنظام العالمي الجديد لنقد سياسة الكيل مكيالين:

مع المغني أبيوسف ينقلنا الناقد إلى احدى خصوصيات الراب وهي قدرته على تحطيم أبديات مفاهيم الغناء حيث الصوت الجميل لم يعد ضروريا. فيقول:

في السابق، كان يجب أن تمتلك صوتا جميلا لتحلم بالغناء، ومن ثم الحفاظ عليه وتدريبه وشرب الينسون بصورة متكررة، بالإضافة لإيجاد ممول أو منتج موسيقي ليتحمل الخسارة أو يجني الأرباح: هذه الصورة “الكلاشيهية” تم تحطيمها بسبب “أبيوسف” الذي اعتمد في تسجيل أكثر من 400 أغنية بصوت سيئ على إمكانيات معدومة تتمثل في سماعة هاتف وخزينة ملابس لتجميع الصوت”. والذي تحول إلى غريم أول للجوكر ونهض الثنائي فعلا في تناظر مع الثنائي جرير والفرزدق. ويروي الناقد مسيرة التقاتل الفني بينهما.

وبحركة روائية ذكية يُفشل سيد عبد الحميد أفق التلقي فيؤجل بورتريه أبيوسف الذي تحدث عنه في آخر بورتريه الجوكر، إلى آخر الكتاب، وهذه تقنية روائية تعرف بالاستباق والتأجيل والتي تضع في بدايات النص عتبات مضيئة لأمر مؤجل مما يضاعف حجم التشويق، فإذا بالقارئ يحاول التهام فصول الكتاب للوصول إلى حقيقة حكاية هذا الفنان الذي وقف في وجه الجوكر وغيّر من واقع الفن وشروطه.

 

يقطع الباحث إيقاع البورتريهات السردية فجأة ليقدم حوارا مع صانع الموسيقى راشد فيعوض الحوار والاعترافات البورتريه لنصبح أمام أوتوبرتريه يرسمه الضيف لنفسه عبر الإجابات ثم يعود إلى إيقاع البورتريهات مع شاهين العبقري وأبيوسف.

هكذا يحاول الناقد أن يدخل لتيمة من هذا الفن الشعبي والمغضوب عليه في آن من زاوية معينة، ليرسم خارطة أولية للراب في مصر فاتحا بابا للنقاد والمهتمين بهذا الفن في العالم العربي للاهتمام بتوثيقه والتأريخ له باعتباره جزءا من المعيش الثقافي الشعبي اليومي المؤثر في المواطن العربي، حيث يعكس هذا النوع أسئلة هذا الإنسان المسحوق من السلطة والفقر والجهل والعنف.

إعلان

ومن هذا المنظور نؤكد أهمية الكتاب باعتباره عملا فريدا وأصيلا يؤرخ لفن من فنون الهامش والشارع ويتأكد لنا أن الراب كما المزود في تونس أو الراي بالجزائر يحتاج كتّابا يحملون نزعة ما بعد حداثية وثقافة معاصرة ومعارف جديدة لمقاربتها بعيدا عن الأحكام الأخلاقية أو التقليدية.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *