تضع بعض الأفلام النقاد ولجان الجوائز في حيرة شديدة حين تكون شديدة التقليدية لا تخرج عن دائرة المعتاد والمتوقع والقديم، لكن أحد عواملها يتميز بشكل مبهر، فيستحيل تجاهلها بالكامل، ويصعب التغاضي عن عيوبها في ذات الوقت.
ينتمي الفيلم الأميركي “نياد” (Nyad) إلى ذات الدائرة؛ فالفيلم مرشح لجائزتي أوسكار عن فئة أفضل ممثلة وأفضل ممثلة مساعدة، كما لو أن في هذين الترشيحين إشارة واضحة لأهم ما يميز العمل الذي لولا أداء الممثلتين الرئيسيتين لأصبح كأن لم يكن.
أخرج فيلم “نياد” الزوجان جيمي تشين وإليزابيث تشاي فاسارهيلي، وهو من بطولة أنيت بينينغ وجودي فوستر وتأليف جوليا كوكس اقتباسا عن مذكرات الرياضية ديانا نياد التي نشرتها عام 2015، ويُعرض حاليا على منصة “نتفليكس” بعد عرضه الأول في مهرجان “تيلوريد” السينمائي.
سباحة إلى المستحيل
يبدأ الفيلم بتعريف مشاهديه ببطلته السباحة “ديانا نياد” (أنيت بينينغ) التي استطاعت في شبابها سباحة مسافات طويلة وتحقيق العديد من الإنجازات الرياضية شبه المستحيلة، لكنها عجزت أمام التحدي الأهم في حياتها، وهو سباحة المسافة ما بين كوبا وفلوريدا، وقد حاولت ذلك وهي في الثلاثينيات من عمرها، وعندما فشلت في إكمال التحدي خرجت من البحر مقررة الاعتزال، لتعمل حتى اقترابها من الستينيات كمحللة رياضية، وتعيش حياة تختلط فيها مرارة إحباط الأحلام غير المحققة مع أشباح من الماضي تزورها لتنغص عليها أيامها.
تستعيد ديانا العجوز حلمها القديم في إحدى الليالي، وتقرر إحياءه بمساعدة صديقتها مدربة اللياقة البدنية بوني ستول (جودي فوستر)، ويعارض الجميع في البداية هذا الأمل المستحيل، فهي ليست بالستين من عمرها فحسب، بل إنها لم تمارس السباحة منذ عقود أيضا، هذا بالإضافة لصعوبة سباحة هذه المسافة على الأخص ما بين فلوريدا وكوبا (177 كيلومترا) نتيجة لتيارات المياه المتغيرة والكائنات البحرية القاتلة ومنها أسماك القرش.
لا تعرف نياد المستحيل، لذلك تحاول عاما بعد الآخر حتى تتمكن من تحقيق حلمها في النهاية، ويتتبع الفيلم هذه المحاولات واحدة تلو الأخرى، والمعوقات التي يحاول فريقها التغلب عليها باستخدام التكنولوجيا الحديثة أحيانا، وخبرات العاملين والسكان المحليين في كوبا أحيان أخرى، مستعرضا شخصية البطلة المتمحورة حول ذاتها وأحلامها بلا اهتمام حتى بتأثير حلمها هذا على صديقتها المفضلة التي تركت عملها وبلدها فقط لتتبع ديانا في مركب صغير خلال سباحتها الطويلة، وتشاهدها تتعرض للموت كل دقيقة تقريبا.
تصارع “نياد” في الفيلم تيارات المياه الصعبة لدرجة الاستحالة، وتشكك الآخرين في قدرتها على تحقيق الإنجاز بالنظر إلى كبر سنها، لا سيما أنها لم تحقق هذا الحلم وهي في أوج شبابها ونجاحها، ويستكشف شعور النساء بالوحدة في هذا العمر، ممثلا هذه الوحدة بما يشعر به أي سباح في الماء بعيدا عن أي اتصال بشري.
عمل شبه روائي وشبه وثائقي
يعتبر “نياد” الفيلم الروائي الطويل الأول لكل من جيمي تشين وإليزابيث تشاي فاسارهيلي، حيث قدما من قبل أفلاما ومسلسلات وثائقية من أشهرها فيلم “متسلق فردي حر” (Free Solo)، الفائز بجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي، ويتتبع متسلق الجبال آليكس هولاند خلال رحلته الوعرة لتسلق حائط الكابيتيان في يوسميتي، والذي يبلغ ارتفاعه 914 مترا (3 آلاف قدم)، وذلك بدون حبال أو ملابس آمنة، ليصبح أول شخص في التاريخ يحقق هذا الإنجاز.
يبدو فيلم “نياد” بالتالي -رغم طبيعته الروائية واعتماده على نص أدبي- كامتداد لنوع الأفلام المفضلة للمخرجين، فهو يتناول قصة رياضية حقيقية ومسعاها لتحقيق إنجاز تاريخي شديد الخطورة، تخلت خلاله عن العديد من عناصر الأمان المستخدمة في مثل هذه الرحلات مثل الأقفاص الحامية من القروش.
على الجانب الآخر انعكست خبرة المخرجين في تصوير الأفلام الرياضية على التصوير، ويظهر ذلك جليا في المشاهد التي تصور البطلة خلال سباحتها في البحر المفتوح، وتناول الحياة البحرية التي لا تمثل فقط أخطار تتعرض لها نياد؛ بل أيضا العالم الذي تشعر خلاله بالاندماج التام مع الطبيعة.
يتضح هذا الانسجام بين الشخصية الرئيسية والبحر المفتوح من أداء الممثلة آنيت بيننغ التي تبدو أكثر سلاما بينما تتعرض للأخطار الجسدية في المياه، على عكس التوتر والعنف الذي يميزها خلال وجودها على البحر، لتبدو كاسم على مسمى، فكلمة “نياد” ذات أصل يوناني وتعني “حورية البحر”.
قصة الهزائم وقصص الانتصارات
تبدو قصص الانتصارات دوما مثيرة، بينما في بعض الأحيان قصص ما بعد هذه الإنجازات هي الأكثر إثارة، ينطبق ذلك على قصة “ديانا نياد” وسباحتها من كوبا إلى فلوريدا، التي أصبحت وقتها محل اهتمام الإعلام وحتى الأشخاص العاديين غير المهتمين بالسباحة في الأوقات العادية، فهي ليست فقط منجز رياضي لم يحدث من قبل، ولكن قامت به امرأة تعدت الـ60 من عمرها، ودخلت بفضله موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية.
تظهر القصة براقة لأول وهلة، بينما في الحقيقة يخبو هذا البريق سريعا بعدما تعلن الجهات المعنية بهذا النوع من المنجزات الرياضية عن عدم يقينها من إتمام نياد السباحة دون تدخل فريقها، خصوصا مع غياب 9 ساعات من السجلات الرسمية للرحلة، ووصولها في وقت أبكر من المتوقع.
حاولت نياد وفريقها إقناع هذه الجهات بصدق رحلتها، ولكن حتى كتابة هذه السطور لا تزال هذه السباحة تُعد بمساعدة الفريق وليس سباحة فردية تماما كما حلمت ديانا وأعلنت بعد منجزها، وعلى هذا الأساس تم إزالة اسمها من موسوعة “غينيس”.
تجاهل صنّاع الفيلم هذه الشكوك تماما، وتوقف السرد بوصول البطلة إلى بر الأمان، واحتفالها مع فريقها، بينما يستعرض الفيلم فيما بعد تترات النهاية لقطات وثائقية للسباحة الحقيقية وهي تنشر أفكارها الإيجابية المضادة لقيود العمر.
أدى هذا التجاهل لأحداث ما بعد النهاية إلى جعل الفيلم تقليديا إلى حد بعيد، مجرد قصة نجاح وانتصار تأتي بعد تدريبات وتحدي المستحيل، قصة معادة ومكررة قدمها المخرجان في أفلام سابقة، وتم سردها عبر سرد خطي والقليل من مشاهد الفلاش باك، ولولا الأداء شديد التميز للبطلتين لما استحق الفيلم أي ترشيحات للجوائز أو حتى اهتمام المشاهدين.