كانت السينما في بداياتها صامتة، واعتمدت بشكل أساسي على حركة الكاميرا وأداء الممثلين في حكي قصصها، ثم ظهر الصوت، ليعطي صنّاع الأفلام أداة سينمائية كانت حينها أقرب للمعجزة، لكن مخرجا عظيما مثل تشارلي تشابلن ظن أن الحوار ما هو إلا إفساد لنقاء هذا الفن، فاستمر في صنع الأفلام الصامتة لسنوات مراهنا على جمهور ما زال يتذوق الصورة بدون مساعدات خارجية.
ورغم وجهة نظر تشابلن، استمر الصوت في السينما، بل تطور، فلم يعد يقتصر على الحوار، فضم موسيقى ومؤثرات صوتية، وأصبح فرعا في حد ذاته يعزز من جماليات الأفلام.
إلا أن عام 2023، شهد عرض الفيلم “لن ينقذك أحد” (No One Will Save You) الذي لا يحتوي سوى على جملة حوارية واحدة، ومع ذلك كان أحد أكثر الأفلام مشاهدة على أي منصة إلكترونية خلال أول أسبوع من عرضه.
فلماذا وقع المشاهدون في حب غير المألوف في زمن تضج فيه الأفلام السينمائية من كثرة الأصوات؟
“لن ينقذك أحد”.. فن عدم الحاجة للحوار
تبدو قصة فيلم “لن ينقذك أحد” أقرب للكلاسيكية؛ بطلة تعيش حياة تبدو مستقرة. لكن هذا الوضع يتغيّر عندما ياتي للشخصية الرئيسية نداء المغامرة، ويتمثل هنا في هيئة غزو فضائي يستهدف سكان الأرض بأكملهم، فترفض برين (كايتلين ديفير) النداء، وتحاول الهرب، ولكنها في النهاية تستجيب، تدافع عن نفسها، وعن الأرض التي تمثل موطنها.
تتمحور أحداث الفيلم حول رحلة البطل للبحث عن سلام نفسي تفتقده برين التي نجمع قصتها على هيئة أحجية ينسجها المخرج والمؤلف بريان دفيلد.
وتبدو حياة برين لأول وهلة مثل صور تطبيقات “إنستغرام”، كل شيء مثالي وبراق في استعادة واضحة لأزياء وديكورات عقود سابقة، الأمر الذي لا يبدو فقط مجرد اختيار من البطلة لهيئة حياتها بل في المقتنيات يدوية الصنع التي تبيعها عبر الإنترنت، لكن حياتها شديدة البهاء والأناقة لا تبدو سعيدة، فهناك غطاء شفاف من العزلة يغطي كل شيء، يبدأ من تعلم البطلة الرقص وحيدة، وحتى زيارتها للمدينة الصغيرة ونظرات أهل البلدة المريبة نحوها.
تدرك برين أن أحدا لن ينقذها، فتحاول إيجاد حل لإنقاذ حياتها من الغزو الحالي، والذي جعل الجميع لا ينقلبون عليها فحسب، بل تسكن كائنات فضائية أجسادهم.
اختار بريان دفيلد أن يقدم فيلمه صامتا بلا حوار تقريبا، لكنه ليس خيارا متحذلقا يستعرض فيه قدراته الإخراجية، بقدر ما هو حاجة فنية تجعل هذا الصمت منطقيا، وتعكس مقدار عزلة ووحدة البطلة.
غياب الكلمات في فيلم “لن ينقذك أحد” لم يكن حالة تتطلب الملاحظة، بل هو جزء منطقي من نسيج الفيلم، فالشخصية الرئيسية تواجه الخطر وحدها، في منزل ناءٍ، بينما الخطر نفسه لا يتحدث بلغتها، فمع من تتحدث بالأساس؟
تم تعويض غياب الحوار بالأداء الممتاز للممثلة ذات الـ27 عاما كايتلين ديفر، التي مثلت إعادة إحياء لبطلات السينما الصامتة مثل ليليان جيش وماري بيكفورد بملامح وجهها ونظرات عيونها التي تعكس كل مشاعرها، من الحزن والقلق إلى الرعب والذعر.
هل نرى بالفعل ما نراه؟
قال الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشه في كتابه “المجمل في فلسفة الفن”، إن الفنان “إنما يقدم صورة أو خيالا، والذي يتذوق الفن يدور بطرفه إلى النقطة التي دله عليها الفنان، وينظر من النافذة التي هيأها له، فإذا به يعيد تكوين هذه الصورة في نفسه ولا فرق هنا بين الحدس والرؤيا والتأمل، والتخيل والخيال، والتمثل، والتصور وما إلى ذلك، فتلك جميعا مترادفات تتردد باستمرار حين نتحدث عن الفن، وتنهض بالفكر إلى مفهوم واحد أو إلى منطقة واحدة من المفاهيم، مما يدل على اتفاق عام”.
يتلاعب فيلم “لن ينقذك أحد” بالحد الفاصل بين الحقيقة والوهم؛ فبينما يدلف المشاهد إلى عالم برين المثالي، ويشاهد العزلة التي تعيشها بسبب نبذ أهل البلدة، يتم التشكيك بسلامتها النفسية، الشك الذي يترعرع بعد الغزو الفضائي، والذي تضطر لمواجهته وحيدة.
ماذا يريد المخرج إخبار جمهوره؟ أن هناك غزوا حقيقيا، أم أنه ليس سوى جزء من خيالات وتوهمات البطلة؟
يعزز الهاجس الأخير هذا الصورة التي ظهرت عليها الكائنات الفضائية بشكلها الكلاسيكي للغاية ذي الرأس البيضاوي والعينين الكبيرتين على جانبي الوجه، لتبدو كما لو أنها وليدة خيال طفلة تربت على قصص الخيال العلمي.
ويسلط الفيلم الضوء على صدمة كبيرة تعرضت لها البطلة، أو ذنب اقترفته وأدى إلى وحدتها وحياتها المرسومة بدقة كما لو أنها تعيد إحياء قصص أميرات ديزني، لكنه لا يطلع متفرجيه على حقيقة هذه المأساة سوى قرب النهاية، الأمر الذي لا يشعر المشاهد بالراحة على الإطلاق، بل يجعله يعيد قراءة الأحداث ويزيده حيرة حول حقيقة كل ما يرى.
يوحي عنوان “فيلم لن ينقذك أحد” بأن البطلة تحتاج إلى منقذ خارجي يعينها في مصيبتها، ولكن مع تصاعد أحداثه حتى لحظة الذروة نجد أن المطلوب ليس إنقاذا خارجيا بل داخليا، أن تكسر البطلة الفقاعة الوهمية التي تعيش داخلها حياة تبدو كصورة من صور مواقع التواصل الاجتماعي الجميلة، وأن تعترف بما اقترفته، وتقول الجملة الوحيدة في طول الفيلم “أنا آسفة”، ثم تتصالح مع صدمة عمرها، وتفتح قلبها للعالم، أو تغلقه إلى الأبد.
وينتهي الفيلم بخاتمة محيرة، يمكن قراءتها بعدة طرق، وهذا يمثل جزءا من سحره الخاص، فهو ليس فيلما اعتياديا عن غزو فضائي، ومحاولة الشخصية الرئيسية مقاومته، أو فيلما متحذلقا يرغب في إعادة استخدام أدوات صناعة السينما، بل رحلة شخصية، كرحلة أي من المشاهدين في التعامل مع ماضي حزين، لها عدة نهايات، تبعا للزاوية التي ترى بها الوضع.
يعد فيلم “لن ينقذك أحد” المشروع الإخراجي الثاني لبريان دفيلد، وهو عمل حظي باهتمام المشاهدين والنقاد، وكذلك المشاهير مثل ستيفن كينغ، والمخرج غيلرمو ديل تورو، وينبئ عن مخرج قد يضفي نكهة مختلف على سينما الرعب.