اشتهر تشارلي كوفمان بأفلامه الفلسفية التي تعد علامات فارقة في السينما، كـ “أن تكون جون مالكوفيتش” (Being John Malkovich)، و”إشراقة أبدية لعقل نظيف” (Eternal Sunshine of the Spotless Mind)، و”أنا أفكر في إنهاء الأشياء” (I’m Thinking of Ending Things)، و”أنوماليزيا” (Anomalisa)، إلا أنه قرر مؤخراً الكتابة للأطفال والغوص في عالم الرسوم المتحركة العائلي من خلال فيلم “أوريون والظلام” (Orion and the Dark).
إذا كنت تعرف أعمال كوفمان، فستتوقع أن يكون “أوريون والظلام” موجها لك أيضا بغض النظر عن سنك، كما أنك ستنتظر أن يضعك أمام اكتشافات جديدة أو مواجهات لم تكن بالحسبان. وهو ما أكده الجمهور والنقاد الذين وجدوا العمل شديد النضج، وليس مجرد فيلم كارتوني للتسلية بقدر ما صُنع بكيفية تسمح للمشاهدين استكشاف مواطن قلقهم والشك في ذواتهم.
ورغم ذلك، فقد جعل كوفمان محتوى الفيلم مناسبا للصغار أيضاً، وتحديدا أبناء جيل “ألفا” الذين يتسمون بالذكاء والإدراك والخوف المفهوم والمنطقي من العالم الذي نعيش فيه.
وينتمي “أوريون والظلام” لفئة المغامرات والفانتازيا، وهو من إنتاج “دريم وورك أنيميشن” وتوزيع “نتفليكس” وإخراج شون شارماتز في أول فيلم روائي طويل له، وسيناريو تشارلي كوفمان.
أما الأداء الصوتي، فشارك به كل من جاكوب تريمبلاي، وبول والتر هاوزر، وكولين هانكس، وميا أكيمي براون، وآيك بارينهولتز، ونات فاكسون، وغولدا روشوفيل، وناتاسيا ديميتريو، وأبارنا نانشيرلا.
وبالرغم من أن قصة العمل مُقتبسة عن كتاب أطفال للمؤلفة والرسامة البريطانية إيما يارليت، استهدفت به الأطفال تحت سن 6 سنوات لتعليمهم كيفية مواجهة مخاوفهم، فإن كوفمان أخذ نواة الفكرة الأساسية وطورها بشكل أكثر جموحاً، سواء من حيث الحبكة أو السرد.
حكاية قبل النوم بعيون كوفمان
تدور أحداث فيلم “أوريون والظلام” حول أوريون، وهو طفل بالـ11 من عمره يخاف كل شيء: الكلاب، والنحل، والمحيط، والسقوط من ناطحات السحاب، والمهرجين القتلة، والمتنمرين. لكن أشد ما يخشاه هو الظلام. وما إن يجد نفسه وحيدا ليلا، حتى ينسج خياله كل أشباحه المخيفة بسبب كثرة تذمره وشكواه بل وصراخه كل مساء، ويتجسد له كائن “الظلام” ذات ليلة ويُصر على اصطحاب أوريون معه خلال عمله الليلي عساه يُخلّصه من الهلع الذي يُسيطر على حياته بأكملها.
وخلال الرحلة يتعرّف أوريون إلى كائنات ليلية أخرى، مثل “الهدوء” و”الأرق” و”النوم” و”الأحلام السعيدة” و”الضوضاء” و”النور” قبل أن يشاركهم مغامرة لن ينساها أبدا، وبالتزامن مع ما يجري تنشأ بينه وبين الظلام صداقة تساعد الاثنين على مواجهة مخاوفهما، ففي حين يخشى أوريون المجهول، يخاف الظلام أن يُساء الحكم عليه ويتم نبذه أو تجاهله بسبب الشائعات والتصورات الطفولية المنسوجة حوله والتي تُناقض حقيقته الطيبة والمحبّة.
قصة داخل قصة
للوهلة الأولى سيبدو الفيلم بسيطا وعاديا أشبه بأفلام بيكسار، حتى أننا نلمح الكثير من أجواء فيلم “إنسايد أوت” (Inside Out) لكن سرعان ما يضعنا كوفمان أمام المفاجأة الأولى، والأحداث بأكملها ليست سوى قصة قبل النوم يرويها أوريون الأب على مسامع طفلته هيباتيا التي تخاف الظلام بدورها.
ونرى أوريون ناضجا وكبيرا، ومع ذلك لا يزال جزء من مخاوفه القديمة يسكنه، يروي القصة ربما لتهدئته هو، لا ابنته، ذلك لأن الكبار أيضا لديهم مخاوفهم ويحتاجون من وقت لآخر للشعور بالأمان تجاه العالم.
ومع توالي الأحداث، يلتوي السرد من جديد وتتداخل الخيوط حين تضطر الابنة إلى الدخول للقصة في محاولة منها لمساعدة أوريون الطفل على وضع نهاية للحكاية والعودة إلى عالمه الأصلي. ومرة أخرى يفرض كوفمان بصمته السريالية على فيلم للأطفال، فتُعالج الابنة الأزمة باستخدام قصيدة قبل أن ينتهي الفيلم بمعالجة ساخرة لفكرة السفر عبر الأزمنة.
للكبار فقط أم يناسب الأطفال؟
إذا كنت رب أسرة تسأل نفسك هل “أوريون والظلام” مناسب للأطفال؟ فلست وحدك الذي طرح هذا التساؤل خاصة مع ما عُرف عن أعمال كوفمان المعتادة من أجواء تجمع بين الفلسفة والكآبة والأفكار الوجودية.
وبالرغم من أن الفيلم صُنّف باعتباره عائليا ومناسبا بداية من سن 7 سنوات، إلا أنه يتضمن حفنة من الكوابيس والمشاهد التي قد يجدها بعض الأطفال مُرعبة مثل الطريقة التي يستخدمها كائن النوم لإخضاع البشر لتأثيره أو العبارات التي يلجأ إليها الأرق لإبقاء البشر متيقظين حتى الصباح.
كذلك يطرح كوفمان بعض الأفكار الوجودية بإشارات واضحة وبارزة، حتى أن البطل يظهر بأحد المشاهد بينما يقرأ كتابا بعنوان “العدمية مقابل الوجودية للأطفال” بينما نرى الأرق يهمس لأحد الأشخاص ليلا “ماذا لو كانت الحياة حادثا كونيا وليس لوجودي أي معنى؟”.
وهي الأفكار التي وإن أخافت البعض من تعريض أطفالهم لعمل كهذا وجعلتهم يجدونه غير مناسب، وجدها آخرون فرصة مثالية لفتح آفاق جديدة أمام أولادهم ومناقشة انطباعاتهم عن العمل سويا فيما بعد.
وضم العمل الكثير من الرسائل الإيجابية، والحرص على تشجيع الصغار على عدم السماح لمخاوفهم بمنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية واستكشاف العالم، وإن فعل ذلك بطريقة قاتمة غير معتادة أو متوقعة. أما فنيا، فقد حصد الفيلم الكثير من التقييمات الإيجابية، إذ أشاد النقاد بالإخراج والحوار والسرد المُركّب غير الخطي، والرسوم الكاريكاتيرية التي جرى استخدامها لخدمة الحبكة.
“أوريون والظلام” فلسفي بقالب فانتازي يحكي عن طفل لديه الكثير من المخاوف تجاه العالم، بعضها قد يكون مبالغا، وبعضها الآخر مُستحق، وإن كان بحقيقة الأمر يعاني من أزمة “عدم اليقين” فهو غير موقن بنتيجة قراراته أو أفعاله. وبين الخوف من المجهول، والإهانة، والرفض، والموت، يقف مكانه دون حراك. لكن القدر يمنحه فرصة ذهبية لتبديد مخاوفه، فهل يستغلها أم يظل مستسلما للرعب؟