لا شيء يوحي بوجود أي نشاط ثقافي بمنطقة “أولاد يحيى” الريفية الهادئة التي تبعد نحو 4 كيلومترات عن مركز مدينة بئر لحمر، التابعة لمحافظة تطاوين، جنوب شرقي تونس.
أغلب أهل “أولاد يحيى” يعملون في الفلاحة، إلى أن تكتشف المتحف الخاص بالشابة زينب اليحياوي، الذي يحمل اسم “حملة تونس” ويوثق مرحلة مهمة في تاريخ البلاد تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية بين 1942 و1943.
اليحياوي، الحاصلة على الإجازة الوطنية في التراث والآثار من الجامعة التونسية، افتتحت في أواخر 2022 متحفها الخاص، انطلاقا من شغفها بالتراث.
وعلى مساحة 120 مترا مربعا يعرض المتحف أكثر من ألف قطعة حربيّة وأدوات عسكرية مختلفة من مخلفات المعارك التي دارت على أرض تونس خلال الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها آلاف الجنود المشاركين في المعارك وحتى من المدنيين التونسيين.
محتوى المتحف
يبدو المتحف كمرآب كبير؛ حيث يضم حوالي ألف قطعة حربية وأدوات أخرى مختلفة من مخلفات الحرب قضت صاحبته قرابة 3 سنوات في جمعها من عدة مناطق في البلاد.
ووفقا للمؤرخ الألماني بيتر ليب المتخصص في تاريخ ألمانيا النازية؛ نُقل إلى تونس بدءا من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1942 وحتى أبريل/نيسان 1943 ما مجموعه 137 ألف جندي ألماني و40 ألف جندي إيطالي و495 دبابة وحوالي 975 قطعة مدفعية.
وينتشر الكثير من تلك القطع أو المعدات على نطاق واسع بين المزارعين وسكان المناطق الريفية، حيث تستخدم في الغالب في الأنشطة الزراعية، كما يجري اكتشاف قنابل مدفونة تحت الأرض بشكل متواتر.
وتقول اليحياوي إن ولعها بالتراث منذ صغرها دفعها إلى التخصص في هذا المجال والبحث في مرحلة تاريخية لم تحظ بالتدقيق الكافي من قبل المؤرخين. وتضيف أن المتحف كان بمثابة “الحلم” بالنسبة لها.
ومن بين مخلفات الجنود الذين شاركوا في تلك المعارك، حاملات لواقيات الغاز وعبوات أكسجين طيار وقناني ماء بلاستيكية، بعضها ألمانية وأخرى فرنسية.
وهناك أيضا أواني أكل وأجهزة راديو عتيقة لا تزال في حالة جيدة وآلات “رقن” لفها الصدأ.
ويقدم المتحف نماذج من قذائف غير محشوة وذخيرة تعود إلى المعارك في تلك الفترة وبراميل وصناديق ذخيرة وأوعية محروقات وفوانيس ومواقيد تقليدية سهلة الحمل.
ومن بين المقتنيات المعروضة حذاء لجندي أميركي في حالة جيدة يعود لعام 1941. تصنفه صاحبة المتحف كقطعة “ثمينة جدا” تخفي قصة جندي من بين عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين الذين قدموا من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي لدحر القوات الألمانية.
وعلى الجدران تتوزع صور أرشيفية عن جبهات القتال وقادة ميدانيين وصور لضحايا تونسيين سقطوا في المعارك، من بينهم ضحايا مجزرة “هنشير الصفصافة” بولاية باجة شمال غرب البلاد، وعددهم 9 ضحايا تونسيين والعاشر مغربي.
وتبرز صورتان مجاورتان لتونسيين متطوعين ضمن القوات الألمانية أمام عربات ناقلة للجنود وصور لدمار بأحياء سكنية تضررت جراء القصف العسكري.
كما يوثق المتحف بالصور لأعمال تسخير بالقوة استهدفت أفراد الأقلية اليهودية بتونس من قبل القوات النازية لإجبارهم على العمل في المعسكرات.
وتكشف صور التقطت في بداية الحملة مرور وحدات من الجيش الألماني وسط العاصمة وصور أخرى التقطت بعدها بأشهر تؤرخ لاستعراض عسكري لقوات الحلفاء في الشارع الرئيسي المعرروف اليوم باسم الحبيب بورقيبة، بعد انتهاء حملة تونس بهزيمة قوات المحور في 13 مايو/أيار عام 1943.
مراجع ووثائق
يضم المتحف مراجع وكتبا ومذكرات تؤرخ للحملة موجهة للباحثين. وتكشف وثيقة نادرة عن مراسلة من ممثل السلطات في منطقة “ورغة” بولاية “مدنين” إلى وزير الداخلية محمود الماطري آنذاك بتاريخ الخامس من مارس/آذار 1943، لإحاطته بآثار القصف الجوي الذي بدأ في 19 يناير/كانون الثاني من نفس العام وطال المنطقة وتسبب في سقوط ما لا يقل عن 60 قتيلا وعن نزوح السكان إلى المناطق الجبلية.
وجاء في مقتطفٍ من الوثيقة “أما السكان فهم الآن في راحة ما، وقد أصيب عدد منهم قبل الانجلاء بقاذفات الطيران فمات البعض تحت الردم وآخرون بالشوارع ولم نتمكن من ضبط عدد الموتى لتفرق الناس بمجرد وقوع الرمي الذي بدأ يوم 19 ديسمبر/كانون الأول عام 1943 ولا يستبعد أن يكون عدد الأموات 60 على أقل تقدير”.
وتقول الباحثة إن المتحف نجح في خلال مدة قصيرة أن يستقطب الزائرين وطلبة المدارس في المنطقة الريفية ما يعزز معارفهم بحقبة مهمة في تاريخ تونس.
وتعد الحملة التي بدأت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني واستمرت حتى 13 مايو/أيار 1943، منعرجا للحرب العالمية بجانب حملة الجيش النازي على الاتحاد السوفياتي. ووفق المؤرخين دارت 9 معارك رئيسية بين قوات الحلفاء وقوات المحور في “حملة تونس” أشهرها معركة “خط مارث” جنوب البلاد.
وبدأت الحملة العسكرية بنجاح عسكري لقوات المحور؛ إلا أنه سرعان ما تحول إلى هزائم متتالية بسبب التفوق العسكري الواضح لقوات الحلفاء على مستوى المعدات والمؤونة.
وكانت الضربة القاضية في معركة القصرين التي وضعت نهاية لوجود قوات المحور في تونس، وأدت إلى أسر حوالي ربع مليون جندي إيطالي وألماني، إضافة إلى الغالبية العظمى من قوات فيلق الصحراء.
وليس بعيدا عن “تطاوين” تضم مدينة مارث التابعة لولاية قابس اليوم، متحفا عسكريا يخضع لإدارة وزارة الدفاع وهو يؤرخ لمعركة خط مارث الشهيرة.
ووفق المؤرخ التونسي فيصل الشريف خلفت “حملة تونس” حوالي 90 ألف قتيل من بينهم 8 آلاف من المدنيين التونسيين بجانب آثار كارثية على المعيشة والبيئة والبنية التحتية في مدن الصراع.