خلال فترة وجيزة، عرض عملان لمخرج سوري شاب هو ورد حيدر. الأول يحمل عنوان “كنبة أورانج” وهو مخصص لشبكات التواصل الاجتماعي، والثاني “عقد إلحاق” الذي يمتد لـ12 حلقة.
في العمل الأول نحن أمام فرضية صعبة، إذ تدور أحداث “كنبة أورانج” في عيادة طبيب نفسي وتنطلق صراعاته من خلال اعترافات مجموعة من المرضى الذين يزورون العيادة. وحالما يجلس المريض على كنبة برتقالية اللون، يبدأ بالتعري النفسي من كل زيف، وتتهاوى الأقنعة ليترك نفسه بمساعدة طبيبه للبوح، وسرد الحقائق مهما كانت قاسية، لأنها تترك شعورا لدى كل زائر بأنه أمام فضاء آمن.
هكذا، يعج هذا الفضاء لاحقا بفوضى المرضى من الإدمان والصدمة والاكتئاب إلى الخيانة والذكورية المرضية والهوس وألم الفقد وغيرها. وتتنوع حالات المرضى بينما يُصغي المعالج، محاولا كل مرة العثور على بصيص أمل لمعالجة زواره.
المسلسل قصير جدا تتراوح كل حلقة بين 5 و10 دقائق، والهدف محاولة تقديم دراما مسرحية ولكن بوسائل بصرية مختلفة لتوضيح الحكاية.
ولن يدعي العمل خوضه عميقا في موضوع الصحة النفسية، كما أنه لا يحاول التعاطي مع الحالات، دون أن يحرم على حلقات تضمينها شيئا من الحس التوعوي الذي يفترض أن تكتنزه الدراما بشكلها الحديث.
لعل “كنبة أورانج” يجري كشفا موسعا للمجتمع السوري بعد الأهوال المتعاقبة التي لحقت به، ويختار من دون عناية عينات عشوائية من هذا المجتمع المصاب بالعطب، ويضعها وجها لوجه أمام طبيبها النفسي الذي يلعب دور المرآة ويترك الفرصة لمرضاه أن يجربوا فكرة كرسي الاعتراف، لنرصد من خلال حكايا هؤلاء المرضى مجموعة من الأزمات التي صارت تسيج المجتمع السوري، لعل أبرزها التباين الثقافي الهائل لدى المهاجرين إلى أوروبا الذين تخلى بعضهم عن عالم الأحلام بسبب اختلاف الثقافات ومنعهم في تلك البلاد من التحكم بمصير زوجاتهم وأولادهم.
كما يجنح العمل في مكان آخر للحديث عن العلاقة المأزومة بين الآباء والأبناء في المجتمعات المقفرة والسؤال عن شكل الوفاء للأب وجدلية العلاقة بينه وبين عائلته عندما يصبح عبئا بسلوكه الناتج عن وضعه الصحي المتردي.
وتأخذنا القصص اتجاها مغايرا نحو قضية الإدمان الذي تُفرد له حيزا من الاعترافات، في حين لا يمسك الطبيب النفسي (جلال شموط) نفسه عن الاندماج مع مرضاه والتأثر بقصصهم لعله يريد من هذا السلوك أن يشعر المريض أنه برفقة صديق وليس في عيادة طبيب.
أداء غالبية ممثلي العمل الذين ظهروا حتى الآن وهم: جلال شموط، وجفرا يونس، وسعد مينا، ونيرمين شوقي، والشريف قصار، هي الورقة الرابحة التي تخلق قيمة مضافة وحاملا يقدر فعليا أن يحقق شرط الجذب، بينما يبذل المخرج قصارى جهده للهرب من ضيق الفضاء المتاح أمامه.
ويحاول ورد حيدر قدر الإمكان التعاطي مع المادة الدرامية من دون مبالغة في التشكيل البصري بمعنى أن تصل كما هي بعيدا عن أي استعراض مجاني.
يمكن القول باختصار أن “كنبة أورانج” تجربة لافتة تمثل خطوة نحو عالم كثيف الدراما، يمكنه فعليا مجابهة القضايا بجرعات مفرطة من الجرأة والاشتباك معها وجها لوجه مع المسائل الحياتية بمنطق درامي متحرر بالمطلق من أي نوعية رقابية.
“عقد إلحاق”.. عمل كامل عابه النص
أما في مسلسل “عقد إلحاق” (ورشة كتاب وإخراج ورد حيدر وبطولة: دانا مارديني، ومهيار خضور، وسمر سامي، ونانسي خوري، وشادي الصفدي، وسارة بركة)، فنحن أمام انطباع صريح من دون أية مواربة عن دخول مخرج سوري أكاديمي متمكن من أدواته، يعرف كيف يضبط ممثليه ويصوغ حكايته بشكل بصري، وحلول جمالية تبتعد بالمطلق عن أي استعراض مجاني، مع الرغبة الواضحة في إظهار البيئة المفترضة بكامل حيثياتها وتفاصيلها.
أما المطب الذي وقع فيه النص فقد كان بسبب الاعتماد على الاقتراح المتعدد للزمن، إذ يمكن للحكاية أن تدور على بضعة أزمنة بشكل عشوائي، بما يخدم التصعيد الحكائي ويزيد من التشويق، لكن الخيار لم يكن موفقا إذ خلق نوع من التشويش عند المشاهدة وأصاب التدفق اللازم للحكاية ببعض الخلل، عدا عن امتناعه عن الاهتمام الكافي بتفاصيل كان يجب على النص أن يعتني بها أكثر.
إذ نحن هنا في تسعينيات القرن الماضي مع مطلع الحكاية نشاهد عائلة لا ترزق بأطفال، تتجه نحو خيار التبني من دار الأيتام -علما أن التبني في سوريا مسألة لا يجيزها القانون- لذا كان يفترض أن يوجد لها حلول درامية، لكن بعد ذلك ترزق العائلة بطفلة فتعيد الطفلة التي تبنتها للدار وسط غضب الأب من تصرفاتها الطفولية تجاه ابنته الحقيقية، لنكتشف لاحقا بأن المرأة ذاتها -تلعب دورها سمر سامي وتشتغل فنانة تشكيلية- قد تبنت بطلة الحكاية وهي ريما وأورثتها حب الفن لدرجة احترفت النحت.
هذه الخطوة تحديدا كانت بحاجة لتوضيح وعناية على مستوى السيناريو أكثر. إضافة لما يبدو وكأنه إقحام لخط المسافرين عن طريق البحر الذي يتكفل برحلتهم جاد (مهيار خضور) مقابل أن يصوروا له فيلما وثائقيا، لكن القارب بالمطاطي يتعرض للغرق ولا ينجو منهم سوى واحد.
ربما لو تم التفكير بحلول مغايرة لهذا الخط لخدم الحكاية أكثر، خاصة أنه فيما لو حذف الخط كله أصلا فلن تتخلخل الرواية أو تتأثر ملامح تطورها طالما أننا نحكي عن ريما (دانا مارديني) النحاتة التي ترث حب الفن من والدتها بالتبني (سمر سامي).
ويسير المسلسل بين حقبتين، الأولى عندما كانت ريما طفلة وهربت من الميتم مع صديق لها يتعرض لحادث ويموت، فتبقى وحيدة ومن ثم تتعرض للاغتصاب، وتخلق علاقة عميقة لها مع صديقة مثلها في الميتم لكنها في نهاية المطاف تقوم بدفعها من أعلى المبنى وتموت.
ستعيش ريما لاحقا في كنف والدتها التي تبدأ بالنسيان وملامح مرض ألزهايمر الذي يفتك بها، بينما يطلب من ريما نحت تماثيل أثرية لشخصيات تاريخية مقابل مبلغ مادي كبير، وتظل على علاقة وطيدة بصديقتها لمى التي تلازمها وتشكل لها عالما مكتملا من الأمان والسلام، في حين تجمعها قصة حب بالمصور (جاد) الذي تعاني معه بسبب تأرجح القصة وما يسيجها من إرباكات ستصل في النهاية إلى قناعة بأنها أمام عصابة متشابكة وبأنها تورطت في عملية تزوير منحوتات أثرية بقصد تبديلها من المتحف.
وستجرب إبلاغ الشرطة، لكن أحد أفراد العصابة سيلاحقها ويحاول قتل صديقتها عندما تجرب الدفاع عنها، لكن ريما ستتمكن من قتله ليصل جاد بعدها وينقلها إلى المشفى وهي في حالة انهيار عصبي.
ونكتشف بأن أغلب الأحداث التي كانت تجري معها منذ أن قتلت صديقتها في الميتم مجرد خيال مرضي نتيجة إصابتها بصدمة نفسية حادة إثر تعرضها للاغتصاب في صغرها، وزادت الحالة وتفاقمت لتصل إلى ذهان وانفصام شديد يودي إلى تخيلات وتهيؤات وشخصيات غير حقيقة.
يقف جاد مع ريما بشهامة من دون تبرير درامي كاف لوقفته تلك، وبمرور 6 شهور نرى الرجل قد ارتبط بالنحاتة لتنتهي القصة بخبر إذاعي يفيد بمحاولة سرقة تماثيل أثرية من المتحف على يد إحدى العصابات، ما يخلط الأوراق مجددا وينهي الحكاية على إمكانية فتحها مجددا باقتراحات مختلفة.
الميزة في العمل كانت في الجانب الإخراجي الواعي والناضج والسعي الجاد نحو تظهير حالة جمالية، وصيغة درامية مشوقة هو الشغل الأدائي والتجسيد المحترف عند عدد كبير من الممثلين على رأسهم دانا مارديني التي تقدم اقتراحا مغايرا لشخصية المريض النفسي من النواحي الداخلية والفهم العميق للحالة، وتقلباتها ثم تكسوها مظهرا خارجيا مناسبا ومشية وحركات جسد وردود فعل تنسجم بالمطلق مع جوهر الشخصية وطبيعتها والحالة النفسية التي تعاني منها وتقدر على قطف ذروة الإدهاش في كثير من الأماكن.
الحال ذاته عند نانسي خوري التي تلعب بأريحية شديدة دون عناء، وكأنها بحضورها الخفيف تترك الانطباع الوافي لشخصية متخيلة أصلا موجودة في ذهن مريض فقط، لكنها تمتلك كل المقومات التي تخولها أن تكون حقيقية.
ولن يكون جديدا على سمر سامي، الحضور النوعي الوازن ولو كان الدور هذه المرة لا ينضوي على الكثير من التفاصيل التي تستوجب إظهار مقدرات أدائية، لذا ستكتفي بقاعدة الفن الحديث يعني ألا تمثل إلا حين يستوجب منك المشهد ذلك.
على أية حال التجربة التي تقدم تيمة عالمية سبق أن قدمتها السينما العالمية تبدو أنها جادة للحد الأقصى، وقد رافقها التوفيق في كثير من الأماكن خاصة على مستوى إعادة الكتابة بشكل بصري وتقديم حلول ومقترحات إخراجية سهلة ممتنعة، قريبة للمشاهد، كما أنها وافية ومترفة بكل عناصر الجمال.