“كلّ كاتب للتاريخ مقيّد بروح العصر، وبطبيعة المكان، اللذين يحيا فيهما، وإذا كان منصفًا، فإنّه يتوجّب عليه أن يبذل جهدًا، وأن يكشف بقدر المستطاع الشحنات الذاتية التي تُرجّح موقفه من التاريخ وتصوغه” هذا ما يقوله شلومو زند في كتابه “عرق متوهم.. تاريخ موجز لكراهية اليهود” الذي صدر عام 2000م وصدرت ترجمته إلى العربيّة عام 2024م عن دار مدارات للأبحاث والنشر للمترجمين يحيى عبد الله، وأميرة عمارة.
شلومو زند هو أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب ومن أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، وكان أول كتبه إثارة للجدل “اختراع الشعب اليهودي” الذي صدر عن دار فيرسو للنشر سنة 2009م.
ولد زند لأبوين يهوديين بولنديين نجيا من الهولوكوست، وكانا ممن يعتنقون الآراء الشيوعية والمعادية للإمبريالية، وقد رفض والداه تلقي التعويضات من ألمانيا عن معاناتهم أثناء الحرب العالمية الثانية.
في معسكر للنازحين أمضى زند سنوات حياته الأولى، لينتقل مع والديه وأسرته إلى يافا عقب احتلالها عام 1948م. وطُرد من المدرسة الثانوية في سن الـ16، ولم يكمل دراسته الثانوية إلا بعد انتهاء خدمته العسكرية. وتنقّل زند بين اتحاد الشباب الشيوعي الإسرائيلي “بنكي” ومنظمة “ماتزبين” الأكثر تطرفًا ومعاداة للصهيونية في عام 1968م. واستقال منها عام 1970م بسبب خيبة أمله بها، ورفض عرضًا من الحزب الشيوعي الإسرائيلي “راكاه” لإرساله لدراسة السينما في بولندا، وفي عام 1975م حصل زند على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة تل أبيب. ثم انتقل بعدها للدراسة في باريس ما بين عام 1975م وعام 1985م، إثر فوزه بمنحة دراسية، وبعد دراسته في باريس درّس فيها عقب حصوله على درجة الماجستير في التاريخ الفرنسي، ومن بعدها الدكتوراه عن أطروحته حول “جورج سوريل والماركسية”.
ومنذ عام 1982م، تنقّل زند للتدريس بين جامعة تل أبيب وجامعة كاليفورنيا، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس.
هل اليهود عرق خالص؟ وما أصول كراهية اليهود؟ وهل معاداة الصهيونيّة كراهية لليهود ومعاداة للساميّة؟ يأتي كتاب “عرق متوهم” للإجابة عن هذه الأسئلة في 132 صحيفة يتحدث المترجم في مقدمته عن أهمية الكتاب الذي يقدم الإجابات من خلال تفنيد الأكاذيب التي أسس عليها الصهاينة مشروعهم الاحتلالي في فلسطين، فيقول “تفنيده، بالحُجة والدليل العلمي، أساطير مؤسسة للصهيونية وأكاذيب مروجة لها، منها: أكذوبة “نفي” اليهود من فلسطين على يد الرومان في القرن الأول للميلاد، وأكذوبة “نقاء العرق اليهودي”.
ويؤسس الكتاب للتفريق بين كراهية اليهود بوصفهم أبناء دين، وبين ومعاداة الصهيونية، ومناهضة ممارسات “دولة إسرائيل” الوحشية والإجراميّة ضد الفلسطينيين وانتهاجها نظامًا للفصل العنصري.
كما يستعرض الكتاب تاريخ العلاقة المركبة والمعقدة بين اليهودية والمسيحية، منذ نشأتها، ليصل إلى ظاهرة كراهية اليهود في أوروبا وبلوغها ذروتها مبينًا أسبابها المركبة، مركزًا في تفصيله على السبب العَقَدي. ويقدم الكتاب إثباتًا أنّ كراهية اليهود في أوروبا شملت مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ثمّ يتحدّث الكتاب عن انحسار ظاهرة كراهية اليهود في أوروبا، مُلمحًا إلى أن كراهية الإسلام حلَّت في الغرب محل كراهية اليهود.
بين 14 عنوانًا يتنقل زند للإجابة عن أسئلة الكتاب الرئيسة على النحو الآتي:
العنوان الأول: “كبح التهوُد”
وتحت هذا العنوان يتحدث زند عما يقوله علماء الأنثروبولوجيا عن انحدار اليهود من عرق واحد، ومن ذلك ما قاله ريمون أرون “السواد الأعظم ممن يُطلق عليهم اليهود لا ينحدرون، بيولوجيًّا، من نسل أسباط سامية”.
كما ينقل تحت هذا العنوان أقوال مفسري التوراة التي تدل على أنّ اليهودية ليست عرقًا ولا يمكن أن تكون كذلك، ومن ذلك تفسير أوريجينس، أحد أهم مفسري التوراة ـ في بداية القرن الثالث للميلاد، الذي يقول عن الاسم اليهوديّ: “ليس اسم عرق وإنما اسم اختيار ــ أسلوب وطريقة حياة ــ فإذا قبل إنسان ما، أجنبي ليس من أمة اليهود، منهاج اليهود وتهود، فإن هذا الإنسان يسمى يهوديًا بشكل واضح”.
العنوان الثاني: “شعب عِرق مُشتت أم جماعات دينية؟”
وتحت هذا العنوان يناقش المؤلف مفهوم “عرق” في العهد الجديد ففيه ولدت أسطورة “نفي” اليهود فيما يؤكد زند أنه لا يوجد أي إثبات أو دليل على استئصال الرومان لسكان يهودا استئصالًا مؤثرًا، أو أنهم قاموا بتهجيرهم طوعًا أو كرهًا من أرضهم، وهو هنا يعيد ما كان أثبته في كتابه المثير للجدل “اختراع الشعب اليهودي” الذي نفى فيه ما يسمى بالشتات اليهودي إذ يقول: “فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا”.
العنوان الثّالث: “بداية العلاقات اليهودية ـ المسيحية في أوروبا”
وتحت هذا العنوان يفصل زند القول في صورة اليهودي التي ترسخت عبر الزمن في المخيلة الأوروبية ـ المسيحية، والتي تقوم على اليهودي المرابي الذي يحصل الثراء من الإقراض بالربا في حين أن الكنيسة تعلن في رسالتها: “اليهودية صنو الربا، والربا أمر مستنكر”. ويستعرض المؤلف هنا جملة من عمليات طرد اليهود من مختلف المناطق الأوروبية في مناسبات مختلفة.
العنوان الرّابع: “غُرباء في الإنسانية.. من إيراسموس إلى فولتير”
“تعلمنا أن عقيدة معاداة اليهود لم تكن قط إرثًا للجموع. تشارك العقيدة المهيمنة مثقفون لامعون أيضًا” يشير زند بمقولته هذه إلى كراهية مجموعة من النخب الفكرية والأدبية والفنيّة الأوروبيّة لليهود منهم إيراسموس ولوثر وفولتير ويفصّل القول في ذلك.
العنوان الخامس: “ثورة.. انعتاق.. وقومية”
“غرباء غير أوفياء لأوروبا من قارة أخرى” هذه المقولة للفيلسوف الشهير كانط في وصف اليهود ينطلق منها زند للحديث عما غدا حالة نبذ لليهود داخل القارة الأوروبيّة، ويشرع زند الأسباب الخلفيّة لذلك بقوله “أسهمت حقيقة أن أوروبا أيضًا، التي باتت قومية أكثر فأكثر، أصبحت في الوقت نفسه أكثر رأسمالية أيضًا. وحيث إن بعض الأسر اليهودية، قلة قليلة من يهود أوروبا، برزت في هذا التنافس الكبير في تركيز رؤوس الأموال المصرفية الضخمة سواء في بريطانيا، أم في فرنسا أم في ألمانيا، فإن هذا البروز قد اقترن جيدًا بتراث العداء المسيحي للإقراض بالربا منذ عصر ما قبل الحداثة”.
العنوان السادس: “اليهود بين الرأسمالية والاشتراكية”
وتحت هذا العنوان ينقل زند مواقف المفكر الفرنسي الكبير شارل فورييه وانتقاداته القاسية لليهود ورؤيته للتعامل معهم، وهو وإن كان صهيونيًا شرسًا إلا أنه كان كارها لليهود في الوقت نفسه ومن ذلك قوله: “أقترح مرارًا وتكرارًا إغلاق أبواب فرنسا في وجوههم إلى الأبد”، وتتمثل رؤيته للحل في “إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة”.
العنوان السّابع: “تصنيف عرقي، دَمَقرطة وهجرة”
وتحت هذا العنوان يرصد زند المؤلفات التي صدرت منذ القرن الـ19 باحثة في الأعراق البشرية ليصل إلى نتيجة أنّ العنصرية أصبحت “أمرًا بديهيًّا، وعقيدة علمية وشعبية على حد سواء، وبقيت كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية على أبعد تقدير”.
ويقول زند: “كان أحد العوامل المحفزة لتحويل كراهية اليهود إلى صرعة في دوائر اليسار واليمين هو عملية التحول إلى الديمقراطية التي مر بها العالم الغرب ـ أوروبي”
العنوان الثّامن: “قضية درايفوس وولادة الصهيونية”
“انتهت قضية درايفوس الأولى بميلاد حركة قومية جديدة ــ يقصد الصهيونية” هكذا يقول زند وهو يستعرض مواقف شريحة من اليهود على ظهور الصهيونية، ليصل إلى القول “الاستعمار البريطاني الذي وضع الحركة الصهيونية على خارطة الدبلوماسية الدولية، فإن عملية الإبادة النازية هي ما مكن الحركة الصهيونية من تحقيق حلمها بصورة جزئية”.
العنوان التاسع: “إبادة شعب العِرق اليهودي”
يؤكد زند أنّ الألمان لم يكرهوا اليهود بشكل أكبر من كراهية البولنديين أو الأوكرانيين لهم، ويشرح ذلك بقوله: “لكن لم تُخترع في أوساط البولنديين أو الأوكرانيين آلة إبادة فعالة كل هدفها هو محو أناس أحياء بشكل ممنهج معتمدة على إنجازات تكنولوجيا القرن الـ20”.
العنوان العاشر: “انبعاث شعب العرق اليهودي”
تحت هذا العنوان يفصل زند القول في محاولة كثير من مفكري وقادة الصهيونية الانتماء إلى دولهم الأوروبيّة وبيئاتهم التي نشؤوا فيها في بداية مسيرتهم الفكرية فقد كانوا منحازين إلى الأفكار القومية التي تبلورت في مختلف الدول، لكن ما عايشوه من كراهية اليهود جعلهم يبحثون، عن هوية أخرى مغايرة.
وفي هذا العنوان يفصل زند القول في الكتابات الصهيونيّة والتنظير لها فيقول: “إذ كان تيودور هرتزل قد دفع بالفكرة الصهيونية في 1897م، فإنه لم يكن المخترع الحصري لها، فقد سبقه بضع شخصيات يهودية اقترحوا سيادة ذاتية قومية كرد محتمل على الكراهية المتعاظمة تجاه اليهود”.
العنوان الحادي عشر: “من هو اليهودي؟ من بصمات الأصابع حتى الحمض النووي”
وتحت هذا العنوان يفصل زند القول في التغيرات التي طرأت من التغير في رؤية ماهية اليهود، وكيف وصل الأمر إلى أن تغدو التوراة هي المعيار الوحيد للهوية اليهودية، ويؤكد زند أن “تصنيف اليهود عرقيًا عن طريق اختلاق أصل جيني يهودي متوهَّم”، ويصفه بأنه احتيال علمي زائف. ليصل إلى نتيجة مفادها: “لا يمكن حتى الآن تحديد من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي بناءً على نتائج الحمض النووي”.
العنوان الثّاني عشر: “حرب 1967م.. حق الآباء”
وهنا ينقل زند بشكل مستفيض صورة استنفار كل آليات المعرفة “الإسرائيلية” التأريخية، والأثرية، والبيولوجية، من أجل تحقيق إنجاز يعبر عنه زند بقوله: “إثبات أن أصل يهود العالم مشترك، وأنهم يشكلون أمة واحدة، نُفيت قبل ألفي عام وأن حقها في أرض إسرائيل لا جدال فيه”.
العنوان الثّالث عشر: “هل انحسرت الكراهية التقليدية لليهود؟”
وتحت هذا العنوان يستعرض زند كيف ولدت كراهية اليهود في حوض البحر المتوسط ثم يجيب عن سؤال نشأتها في القارة الأوروبيّة حتى العصر الحديث. وكيف نشأت عقب ذلك في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وصولا إلى الانحسار الكبير في كراهية اليهود عقب هجرتهم من أوروبا.
العنوان الرّابع عشر: “معاداة الصهيونية.. هل هي معاداة جديدة للسامية؟”
يصب زند في هذا العنوان إلى نتيجة يعبر عنها بقوله “سيكون من السخف أن نطالبهم ــ يقصد الفلسطينيين ــ بألا يكونوا معادين للصهيونية، وهم يعيشون تحت احتلال واستيطان متواصل يُنفذ باسم الرؤية الصهيونية ويرى في الأماكن التي يقيمون بها “وطنًا لـ”الشعب اليهودي”.
ويلفت زند إلى نقطة مهمة وهي أنه من الصعب إنكار حقيقة أن كارهي الإسلام من الأوروبيين يَرَونَ “في “دولة إسرائيل” حصنًا متقدمًا للعالم “اليهودي المسيحي” الذي يقف بكل قوة في مواجهة المد الإسلامي”.
ويختم زند كتابه باستشراف المستقبل معبرًا عن مخاوفه من انتشار “كراهية متجددة لليهود، ليس فقط في أوساط اليمين الراديكالي، ولكن في أوساط الضحايا الجدد للكراهية أيضًا”.