“عائدون لديارنا المدمرة”.. غزة مخيلة عصية على الاستعمار

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 10 دقيقة للقراءة

كيف ظننتَ أن تهزم شعبا كشعبنا
وغزّة كغزّتنا؟
يا محتل
الأرض لنا والتاريخ لنا والجذور لنا
فمن أنت؟
سلام علينا بما صبرنا
نحن الذين تألمنا وتحسرنا.. نحن الغزيين
نحن الذين انطفأت قلوبنا
ولكن أُنيرت بصيرتنا

موطني يا مهجة قلبي
موطني يا حبيبي
اليوم هو يوم المنى
اليوم عادت لي الروح التي ظننت أنني فقدتها

عائدون
عائدون لديارنا المدمرة الجميلة
موطني وإنا نراك في أعيينا جنة يطيب بها مر الحياة
رحم الله شهداءنا وشفا الله جرحانا
والسلامة التامة للجميع

بهذه الكلمات التي أتت بوقع قصيدة مستوفية، خاطبت فتاة غزية المحتل صباح 27 يناير/كانون الثاني عبر ميكروفانات الجزيرة، معلنة بابتسامة عنفوانٍ لم تفارق وجهها أنها عائدة للشجاعية حتى “لو كانت مدمرة… بتضل أرضنا وبلادنا”. فهل تدرك هذه الفتاة الفلسطينية أنها بقصيدتها العفوية تقلب رأسا على عقب سردية ثقافية حاولت زج الفلسطيني والإنسان العربي، بل وجميع سكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ضمن شعريةِ “عدم الانتماء للأرض” (ideological statelessness) التي رُصد لها منذ حوالي العقد موارد ثقافية معتبرة من مهرجانات وجوائز تحتفي بثقافة الانخلاع عن الجذور والاندماج في “هوية كونية واحدة”؟ فعمّ نتحدث؟

استعمار المخيلة

تقول الفيلسوفة الإيطالية “غلوريا جيرماني” (Gloria Germani) إن “الاستعمار الغربي خرج من الباب ليدخل من النافذة من خلال استعمار المخيلة”، واستعمار المخيلة، تقول المفكرة الإيطالية المختصة بالحوار بين الغرب والشرق، “يتمثل في استعمار الرغبات وفرض نموذج العولمة الذي يفرض على الشعوب الشرقية أسلوب حياة لا يشبهها”، وتواصل المفكرة في حوار على شاشة بيوبلو الإيطالية بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني أن “تحفيز أنماط استهلاكٍ موحدة تصب كلها ضمن “احتلال الرغبات” وصنع مواطن عالمي يشتهي المنتجات ذاتها ونمط العيش ذاته، وإن هو لم يدخل ضمن هذا النسق يصبح خارج منظومة الحداثة بالمعايير الغربية”.

ولعل التصريحات الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب عقب تنصيبه، بشأن غزة تدل على أننا أمام نموذج استعماري جديد لا يؤمن بالضرورة بالغزو العسكري للبلدان وإنما بغزو المخيلة. فترامب يرى غزة بعين المقاول الليبرالي كـ”قطعة أرض تتمتع بمناخ رائع يمكن إنشاء مشاريع مذهلة فوقها”. ليظهر وكأنه من البديهي بالنسبة لترامب أن يكون الغزيون متطلعون لنموذج من العيش تتحول فيهم سواحلهم إلى منتجعات سياسية تزخر بالملاهي، والكازينوهات والمراقص وشواطئ العراة المكلّفة، على غرار مينوركا وميامي وإيبيزا وسان تروبي، وبذلك تصبح غزة وجهة الاستجمام النموذجية التي تدغدغ المخيلة المقولبة على النمط المعولم.

الوجهات التي يكدح الإنسان الأوروبي المعاصر طيلة السنة حتى يتمكن من تجميع ثمن التلذذ بها بضعة أيام في العطلة الصيفية، ليغدو ثمن رحلات الاستجمام التي يستطيع الفرد أن يمنحها لنفسه كل سنة دليلا على المكانة الاجتماعية ومدى نجاح الفرد في مجتمعات احتلتها قيم السوق الرأسمالية.

قيم لا تتوافق بالضرورة مع قيم الإنسان الغزي ذي الرغبات المتحررة من نموذج العولمة أو بتعبير غلوريا جيرماني المخيلات غير المستعمرة، وهو نموذج ذهني يطلق عليه الفيلسوف الإيطالي جامباتيستا فيكو “الذهن البطولي” (Mente eroica). ذهن قادر على السفر في أبعاد ميتافيزيقية تتجاوز الحسي لرؤية ما لا تراه العين الخاضعة للرؤى الأرضية. “جنة جنة جنة تسلم يا وطنا/يا وطن يا حبيّب/يا بو تراب الطيب/حتى نارك جنة”. هكذا تغنى الغزيون بوطنهم طيلة حرب الإبادة والتدمير التي طالتها، وكأنهم كانوا يرون ما لم تكن أعين العالم القاصرة على رؤيته من وراء الشاشات. وهي ذاتها كلمات فتاة الشجاعية الحرة العائدة إلى أرضها بعد أشهر مريرة من النزوح والصمود التاريخي: موطني وإنا نراك في أعيينا جنة يطيب بها مر الحياة.

أشعار الاستعمار

والواقع أن الآلة الاستعمارية الجديدة حاولت من خلال الورقة الثقافية، لا سيما الشعر، الترويج لخطاب الانخلاع من الجذور على نحو أصبحت فيه كلمة “وطن” كلمة تخضع للرقابة في الترجمات الشعرية الإيطالية على سبيل المثال. فوطن كلمة يتم التحايل دوما في ترجمتها، وبـدل اختار مفردة “Patria” الدقيقة بكل ما تختزنه من زخم الانتماء إلى حيز مكاني محدد، يجري اختيار عادة “Terra” (أرض) وهي مفردة يمكن سحبها بجرعة قليلة من الشطط التأويلي إلى كامل الكرة الأرضية.

هذه المقاربات الترجمية التي تخص شعراء مكرسين يصعب غض البصر عن نتاجهم الشعري، لا تمس الشعراء الشباب الذين يتم تجاهل نتاجهم إن زادت فيه جرعة الوطنية عن حدها. ذلك أن الوطنية والارتباط بالجذور بحسب توجهات النقد المعاصر أصبحت تعد حالة قبل حداثية وما قبل ليبرالية، والمطلوب في حقبة العولمة هو الاحتفاء بخطاب الانتماء إلى اللا أرض، و”الهوية الكونية” المختلَقة.

وفي الوقت الذي تعد فيه حالة “عدم الانتماء إلى أي دولة” (statelessness) قضية قانونية معقدة تخص أشخاص فُرض عليهم عدم حمل أي جنسية لأسباب تتعلق عادة بالحروب واللجوء السياسي أو لأسباب عرقية خاصة، إلا أنها أخذت تكتسي أبعادا شاعرية رومنطقية في النتاج الشعري الأوروبي، على غرار ما نجده لدى واحد من أبرز شعراء إيطاليا، إيرّي دي لوكا (1950)، الذي أعلن في ديوانه الشعري “معدوم نابولي” (2006) بنبرة تراجيدية أنه يختار الانفصال عن جسده الأصلي ليهدي نفسه للعالم: “إن لم يكن لي الحق أن أصف نفسي كمعدوم الأرض، فأنا معدوم نابولي، رجل انخلع من جسده الأصلي ليسلِم نفسه إلى العالم”.

والحقيقة أن دي لوكا -الذي وقف مع إسرائيل في عدوانها على غزةـ كان يستطيع أن “يسلم نفسه للعالم” قانونيا من خلال طلب إسقاط الجنسية الإيطالية عنه والدخول رسميا في عداد معدومي الأرض والتلذذ بهذا الوضع قدر ما شاء كأي غجري أو مهاجر يعيش أيامه ولياليه بلا وثائق في أوروبا، لكنه لم يفعل. ذلك أن هذه الحالة اللاإنسانية التي يتم حضّ “الآخر” على الانخراط فيها كأسلوب حياة من خلال التشجيع الممنهج على الهجرة واللجوء ليست هي الحالة المثالية التي يمكن للإنسان أن يحيا من خلالها بكرامة ويتمتع بأبسط حقوقه في إطارها.

وعن ذلك يقول الدكتور حسن أيوب أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح تعليقا على مشروع “الهجرة الطوعية” الذي طرحه بن غفير قبل أشهر لتفريغ غزة من أهلها بعد أن فشلت آلة القتل: “لا يوجد شيء اسمه هجرة طوعية وإنما خلق ظروف طاردة تدفع للهجرة فيما يطلق عليه بالمصطلحات السياسية “الهجرة من خلال اليأس” (displacement by despair) وهي بالمعنى القانوني تبقى تهجيرا قسريا”.

عمليات التهجير القسري هذه كانت قد خضعت لها (ولا تزال) “أفريقيا المستباحة” كما تسميها الكاتبة المالية “أميناتا  تراووري” (Aminata Dramane Traoré) في كتابها الصادر عام 2008، حيث تخوض الكاتبة في مصطلح “استعمار المخيلة” مؤكدة: “أن استباحة القارة الأفريقية لا يكمن فقط في العنف الذي اعتاد الغرب ممارسته علينا. ولكنه يكمن أيضا في رفضنا لفهم ما يحدث لنا. إذ لا وجود من جانب واحد لقارة تختزن القيم وصور التقدم اسمها أوروبا بينما على الجانب الآخر أفريقيا التي تختصر معاني الظلمات والبؤس”. وتواصل تراووري معاتبة مثقفي الجنوب على تبني لغة المستعمِر وسرديته، وتضع للـ”مُهانين” خارطة طريق لأجل استعادة مصائرهم: “هذه الرؤية، التي يميل بعضنا إلى استبطانها تتحطم في اللحظة التي نرى فيها بأعيننا آليات الهيمنة والإفقار والإقصاء الذي نتعرض له. إن التحدي الذي نواجهه اليوم هو تصور مستقبل يتمحور حول الإنسان، وإعادة السيطرة على مصائرنا وهو ما لا يمكن أن يحدث سوى باستدعاء لغتنا ومرجعياتنا وقيم مجتمعنا وثقافتنا”.

خارطة طريق

خارطة طريق تبدو كأن فتاة الشجاعية قد اختصرتها في قصيدة عفوية وهي عائدة إلى ديارها شمال غزة رافضة أن تكون دمية مستباحة في يد الاستعمار الجديد على غرار ما يقترحه علينا “شعراء الهوية الكونية” الوهمية والتي لا تصب إلا في خدمة بارونات الرأسمالية: “نحن شعوب أفريقيا التي استعمِرت في الماضي وأعيد استعمارها الآن من طرف الرأسمالية العالمية، لا نتوقف عن سؤال أنفسنا: ماذا حل بنا؟”… تتساءل تراووري بمرارة في كتابها عن مصير يعرفه جميع من يرى حالة “الشاردين” الذين قطعوا علاقتهم بأوطانهم، واعتنقوا ثقافة عدم الانتماء والانسلاخ عن الجذور، وعنهم يقول أندريا زوك في كتابه “نقد العقل الليبرالي” (2020) إنهم “عناصر وظيفية للآلة الرأسمالية التي تستثمر في هشاشة المهاجر المترتبة عن انفصاله عن أرضه حتى يصبح طيّعا للاستغلال.

وعن هذه الجريمة الإنسانية كتب الشاعر الإيطالي “دافيدي كيندامو” (Davide Chindamo) قصيدة بعنوان “تجار بشر” ألقاها على “راديو بوتانزا” (Radio Poetanza) في حلقة مخصصة لأفريقيا بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 2023 ندد فيها “بالمجرمين الذين يتكسبون من حياة مهاجرين ضعفاء يتوهمون وجود سعادة افتراضية في أوروبا”.

ويذهب الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو لاعتبار عمليات تشجيع البشر على الهجرة من أوطانهم دفع لعبودية جديدة في الحقبة النيوليبرالية. مصيرٌ رفضه الغزيون بإباء، مصرين على العودة إلى ديارهم وإن كانت مدمرة، ليصنعوا مشهدية تاريخية عظيمة عزّ نظيرها. يحملون متاعهم سيرا على الأقدام من جنوب غزة إلى شمالها، لا يحلمون بشيء سوى بالانغراس مجددا في أرضهم، وإعادة إعمار بيوتهم بسواعدهم، لترجع غزة “جنة” كما هي في مخيلة أهلها البطولية… مخيّلة يستعصي على أي محتل استعمارها.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *