“طوفان الأقصى” يعري أطروحات الاستشراق الجديد في إيطاليا

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

تورينو- عملية “طوفان الأقصى” هدمت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، وشاهد العالم بأسره ذلك يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل نسفت أيضا ثنائية تاريخية صمدت في إيطاليا لعقود طويلة اسمها اليمين واليسار.

ذانك الفصيلان اللذان اتفقا على ألا يتفقا في أي شأن سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي كان، اجتمعا يوم الـ10 من أكتوبر/تشرين الأول تحت قبة البرلمان الإيطالي للوقوف مع إسرائيل، وهو ما نوه به ماتيا فيلتري، مدير موقع “هاف بوست إيطاليا”، مشيرا بفخر إلى أن إيطاليا “تقف على الضفة الصحيحة للعالم”.

من جهته، خصص فرانتشيسكو بورغونوفو نائب رئيس تحرير الجريدة اليمينية “لافيريتا” مقاله ليوم 11 من أكتوبر/تشرين الأول للحديث عما أسماه “تبرّؤ اليسار من حلفائه المسلمين” عقب هذه الحرب، حيث ذكّر بورغونوفو قُرّاءه بأن القضية الفلسطينية طالما كانت مدعومة من اليسار الإيطالي، قبل أن يقرر التقدميون وعلى رأسهم أكبر الأحزاب اليسارية في البلاد (الحزب الديمقراطي)، أن المقاومة الفلسطينية “فصيل فاشي يعتنق أيديولوجيا يمينية متطرفة”.

ساحة “مريضة بالأيديولوجيا”

والواقع أن اليسار الإيطالي عمل طيلة عقود على تقديم سردية مشوهة عن القضية الفلسطينية أسقط منها عمدا أحد أهم عناصر الهوية الثقافية الفلسطينية، ألا وهو الدين، واعتبره “مكونا رجعيا” في حياة الشعوب ينبغي تفكيكه، وهكذا ركزت الساحة الثقافية اليسارية “المريضة بالأيديولوجيا” -بحسب توصيف الشاعر الإيطالي دافيدي روندوني- كل جهودها البحثية والترجمية للترويج أمام الرأي العام الإيطالي لـ”ثقافة فلسطينية وعربية” مزيفة وصلت حد محاولات تسويقها في السنوات الأخيرة على أنها ثقافة إلحادية ونسوية راديكالية مؤمنة بقضايا ما يعرف بالنوع الاجتماعي (الجندر) والمثلية الجنسية.

وعلى الرغم من أن هذه السردية الهشة والمتساقطة لم تكن تقنع حتى أصحابها، فإنها كانت تمر على بعض الفئات من أنصار اليسار الراديكالي الذين بدوا “مصدومين كليا” بعملية “طوفان الأقصى”، ولا غرابة في ذلك لأنهم خضعوا لسنوات من التضليل الذي جعلهم لم يتقبلوا صور رجال مسلحين يدافعون عن أرضهم، لأنهم ربما تعوّدوا فقط على صور نساء بشعر أزرق ورجال يرتدون الكعب العالي يُطلقون “صرخات متحولين جنسيا ينشدون الحرية”.

ويضاف إلى ما سبق أن الديانة الإسلامية في إيطاليا تتعرض للرقابة، ليس فقط من اليمينية، بل من طرف اليسار نفسه أيضا، لأسباب أيديولوجية تتعلق باحتقار المكون الديني واعتبار المقدس عنصر تفرقة بين الشعوب. وهذا الحظر الثقافي أثّر على نحو بالغ في وصول الصورة الحقيقية للقيم المجتمعية الفلسطينية إلى إيطاليا، وهو ما ظهر في كيفية تلقّي المَشاهد الأولى لعملية “طوفان الأقصى”.

فعلى الرغم من أن جريدةً كبرى تعد هي الأكثر انتشارا في إيطاليا (“كورييري ديللا سيرا”) نشرت فيديو على صفحتها بفيسبوك يُظهر مقاومين وهم يهدئون من روع سيدة إسرائيلية مع ابنيها وإظهار عدم تعرض الفلسطينيين لها إذعانا لأوامر دينية، فإن التعليقات السلبية التي حصدها الفيديو تؤكد العطب الذي ألحقه “أصدقاء فلسطين السابقون” -على حد تعبير بورغونوفو- بالشخصية الفلسطينية من خلال مراكمة سرديات مضادة للدين على مدى سنوات في مخيال المتلقي الإيطالي بشأنها.

هذا العطب حال بين المتلقي الإيطالي وتقبّل فيديو واضح لا لبس فيه عن مقاوم فلسطيني لم يؤذِّ أُما وأبناءها لدواع دينية. ليستحضر المتلقي بدلا من ذلك صور “الأبوية” و”الذكورية المتعفنة”، والصور المروجة لكراهية النساء، وكل التنظير الأيديولوجي الببغائي الذي لا تخلو منه أي دراسة إيطالية عن فلسطين والعالم العربي.

رقابة سلطوية

فهل نحن أمام عملية ذهنية تم التحضير لها ونحتها لسنوات من أجل الوصول إلى هذا العمق من نكران الحقائق، حتى لو كانت مسجلة بالصوت والصورة، عندما يتعلق الأمر بالثقافة العربية؟ وهل اليمين هو المسؤول عن ذلك بوصفه “الشر المطلق” في إيطاليا، كما يحاول أن يوحي بذلك اليسار باستمرار، مقدما نفسه على أنه المنافح الوحيد عن الثقافة العربية والإسلامية في الغرب؟

في تصريح جريء لها على بودكاست “فيه ما فيه” مع الإعلامي الفلسطيني سائد نجم أكدت الباحثة الإيطالية في الأدب العربي يولندا غواردي أن الجامعة في إيطاليا “أداة سلطوية تفرض رقابة على الباحثين” وأن هناك مواضيع محددة فقط هي ما يُسمح بمناقشتها بشأن المنطقة العربية.

أما إن حاول الباحث التغريد خارج السرب فستتراوح الإجراءات العقابية في حقه من الإقصاء من المشاركة في الملتقيات، إلى الحرمان من الترقية الوظيفية أو عدم التعيين أساسا.

وذكرت الباحثة أنها هي نفسها دفعت ثمنا غاليا جدا لقاء حريتها الفكرية. هذا التصريح يأخذ أبعادا مُدويّة عندما نعلم بأن مفاصل الجامعة الإيطالية في مبحث الإنسانيات تحديدا يسيطر عليها اليسار وليس اليمين.

يجعلنا هذا المعطى نتساءل إن كانت المنظومة الاستشراقية الأكاديمية قد عادت للعمل في الغرب من بوابة اليسار من أجل تبرير حملات عسكرية حقيقية تقوم بها حاليا إسرائيل ضد فلسطين على النحو الذي نظّر له المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد.

فإن نحن عدنا قليلا إلى آخر الإصدارات بخصوص فلسطين باللغة الإيطالية، سنجد مثلا أنها لا تخلو من التذكير بتحالف الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين مع النظام الفاشي دون أن يتم وضع سياق هذا التحالف في إطاره التاريخي، وهو الذي كان يعد خطوة إستراتيجية لا بد منها آنذاك للطرف الفلسطيني باعتراف مؤرخين إسرائيليين، على غرار المؤرخ اليهودي البارز آفي شلايم. إلا أن “الأصدقاء” اليساريين في إيطاليا لم يجدوا مانعا في التذكير به بلا أي مناسبة، بل والتنديد به بأثر رجعي.

“الفاشية الجديدة”

الفلسفات والاتجاهات المعادية للدين الإسلامي، والتي يُعدها اليسار الإيطالي ويدسها في كتب يُروّج لها على أنها صديقة للعرب والمسلمين، نجد أنها هي ما مهّد لأطروحة “الفاشية الفلسطينية” الأخيرة التي اعتنقها رسميا يساريو إيطاليا من خلال أحد أبرز الصحفيين المختصين بما يعرف باسم “الفاشية الجديدة” باولو بيريزي في مقال على جريدة “لاريبوبليكا” اليسارية، ذهب فيها للتأكيد على أن “الفاشية الجديدة تتحالف مجددا مع الإرهابيين”. والإشارة هنا تعود إلى حزب “فورزا نووفا” من أقصى اليمين (غير الممثل في البرلمان الإيطالي) والذي وقف رئيسه روبيرتو فيوري مع حماس معلقا على الحرب الأخيرة بالقول إنه “لا سلام بلا عدل”.

“الغوغائية” اليسارية حوّلت في اليومين الأخيرين جميع من يصطف مع الحق الفلسطيني في المقاومة إلى عنصر “فاشي رجع إلى أصله المعادي للسامية”.

أما معسكر أصدقاء فلسطين اليساري الراديكالي الذي احتضن طيلة سنوات أطروحات الاستشراق الجديد عن قِصر نظر منه، أو طمعا في الحصول على فُتات بعض الامتيازات من حلفائه في معسكر اليسار المعتدل المعروف بالتصهين، فقد كان التخبط والارتباك والحرج سيد الموقف عندهم منذ الساعات الأولى لعملية طوفان الأقصى تبعتها محاولة الخروج بموقف بكائي في انتظار الرد الإسرائيلي.

“أصدقاء فلسطين”

اللحظة الفلسطينية الكبيرة التي أفلتها “أصدقاء فلسطين” التاريخيون، قبض عليها باقتدار أليساندرو أورسيني، أستاذ علم الاجتماع المختص بالإرهاب الدولي، حين كتب على صفحته بفيسبوك دون مواربة أو محاولة استدرار دموع أحد أن نتنياهو يمارس إرهاب دولة وأنه لا بديل آخر أمام الفسطينيين سوى حمل السلاح.

الباحث البارز الذي أصبح منذ سنتين منبوذا في وسائل الإعلام الإيطالية بسبب تحليلاته السياسية التي لا تتوافق مع سردية التيار السائد التي ترعاها الصالونات اليسارية في إيطاليا، ذكر في حوار له يوم أمس على القناة الرابعة (التابعة لشبكة ميدياست اليمينية التي أسسها رئيس الوزراء الإيطالي الراحل سيلفيو بيرلوسكوني) أن “حياته المهنية تدمرت حرفيا” منذ فترة، وأنه يعاني من إجراءات انتقامية في الجامعة وضغوط رهيبة قد تدفعه عاجلا أو آجلا للبحث عن عمل خارج إيطاليا.

تصريحات أورسيني التي تلتقي مع تصريحات غواردي تُحيلنا لسؤال كبير يتعلق بالقدرة على إيصال الصورة الحقيقية لِما يحدث أمام الرأي العام الإيطالي في ضوء كل ما تتعرض له الأصوات المغردة خارج السرب من محاولات تضييق وخنق، وفي ظل عودة قوية للمنظومة الاستشراقية من الباب الخلفي.

أسماء جريئة

بعيدا عن الأنشطة والإصدارات الأكاديمية التي يحوم حولها الكثير من الشبهات فيما يخص القضايا العربية، من خلال مؤلفات ملغمة وملتقيات مفخخة، تظهر بالمقابل أسماء جريئة في المشهد الاعلامي، على غرار رومانا روبيو رئيسة تحرير النسخة الإيطالية من صحيفة “بالستاين كرونيكل”.

الصحفية الإيطالية التي يُحسب لها الانحياز التام للمقاومة الفلسطينية منذ الدقائق الأولى لـ”طوفان الأقصى”، يُعرف عنها أنها الصحفية الوحيدة في المشهد الإيطالي التي تعتمد السردية الفلسطينية النقية بعيدا عن أي محاولة لتلوينها بأيديولوجيات الموضة السائدة، وقد صدرت لروبيو مؤخرا ترجمة لكتاب الصحفي الفلسطيني رمزي بارود “الأرض الأخيرة”، وهي من الترجمات القليلة جدا التي لم توظّف سياسيا للطعن في مكونات الهوية الثقافية الفلسطينية والعربية في إيطاليا.

وتبقى للمفارقة، الأصوات غير المحسوبة على اليسار أو أصوات اليمين نفسها هي الأقدر على التأثير الإيجابي في الرأي العام الإيطالي حول القضايا العربية. وإذ تجدر الإشارة للصدى الذي تركه منشور فيتوريو زغاربي، وكيل وزارة الثقافة في حكومة ميلوني، الذي وصف الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في الرد على حماس بأنها إرهابية. والأمر هنا يتعلق بأحد أشهر نقاد الفن في إيطاليا وأكثرهم تأثيرا في الساحة الثقافية.

في المقابل، نجد اليسار الإيطالي الذي لا ينشر حاليا مثقفوه المتعصّبون أيديولوجيا سوى الجهل والسطحية على حد تعبير الشاعر الإيطالي دافيدي روندوني، يكشف عن وجهه الحقيقي بعد سعيه طيلة سنوات لتدجين الصوت العربي ومحاولة الاستئثار برسم صورة الفلسطيني وصياغة سرديات كاذبة عنه تَخضع لأيديولوجيا مكروهة شعبيا. وهي نفسها الأيديولوجيا التي دفعت الناخب الإيطالي قبل سنة لإعطاء صوته لليمين، والتي تحاول الآن تسويغ إبادة الشعب الفلسطيني ومقاومته بدعوى محاربة الفاشية.

فهل آن الأوان لفتح ملفات هؤلاء المستشرقين الجدد والكلام بالتفصيل عن الفظاعات الثقافية التي ارتكبوها في حق فلسطين والعالم العربي في السنوات الأخيرة؟ أو أن “طوفان الأقصى” سيدفع هؤلاء تلقائيا للتنحي جانبا مُخرجا للمشهد أسماء تمثل مفاجأة، تقف في صف الحق الفلسطيني، وقد تأتي من ضفاف غير متوقعة؟!

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *