بقدر ما كانت عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها مفاجأة كبرى فلسطينيا وإقليميا وعالميا، فقد شهدت قضايا فلسطين والأمة والكيان الصهيوني والعالم تحولات مهمة تاريخيا وإستراتيجيا، بعد أكثر من قرن من الصراع العربي الصهيوني، والكفاح الفلسطيني لأجل تحرير الأرض وإنهاء الاحتلال والمظلومية التاريخية، وما وقع منذ الحرب العالمية الأولي من ظلم فادح لشعب فلسطين وإهانة بالغة للأمة.
وبعض هذه التحولات كان نتيجة تراكم تاريخي لكفاح الأمة في سبيل النهوض والتحرر، بل هناك تحول أو ربما انهيار في نموذج إستراتيجية الكيان الاستيطاني التي كانت قائمة على الردع بأقصى وأقسى العنف والعدوان والمفاجأة وخوض المعارك على أرض الخصم (العرب). لكن “طوفان الأقصى” نقلت المعركة إلى عقر دار الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي ليس فقط جغرافيا بل أيضا ثقافيا وأخلاقيا وإنسانيا.
فقد شهد العالم صحوة كبرى تناصر قضية فلسطين، وسردية الحق الفلسطيني شملت العالم الثالث والجنوب العالمي وعواصم أوروبا وأميركا الشمالية، بل حتى مدنه الصغيرة. وهذا يطرح بقوة أسوأ كوابيس الصهاينة، وهو نزع الشرعية عن إسرائيل وترذيلها أخلاقيا، وخاصة لدى أجيال الغرب الشابة. فقد تصدر الحراكات والمظاهرات جيل جديد من اليهود في الغرب نشأ في عائلات صهيونية راسخة لكنه تمردوا على السردية الصهيونية لصالح سردية الحق والعدل.
ثورة الوعي
تمظهر الوعي الجديد في 3 مسارات: إستراتيجي أبرز عقم الحرب الإسرائيلية وعبثية الإبادة واتجاه الكيان الصهيوني نحو التفكك والأفول والانتحار وشرعية المقاومة، وقد عبّر عنه مؤرخون وأكاديميون ومحللون وعسكريون غربيون سابقون.
ومسار إنساني عبّر عنه سياسيون منتخبون ومنظمات حقوقية دولية وأممية وجمهور الشارع، إذ استبشع هؤلاء المحرقة الصهيونية في غزة وقارنوها مباشرة بالمحرقة النازية والممارسات الفاشية، وأدانوا الكيان الصهيوني أشد الإدانة، ووجد هذا دعما في قرارين لمحكمة العدل الدولية التي أوردت مظاهر الإبادة الجماعية والتحريض عليها من أعلى مستويات القرار والسلطة في الكيان الصهيوني.
لكن المسار الأهم هو الصدمة الثقافية التي أحدثتها ملحمة “طوفان الأقصى” وتداعياتها الإنسانية واسعة النطاق وثورة الوعي الجديد التي طالت كل شيء. فقد امتدت نحو التعرف على الإسلام، ودراسة القرآن الكريم، والبحث فيه عن قصة الإنسان ومصيره والغاية من حياته وإجابات عن أسئلة الوجود الكبرى.
وكذلك تَمثُل ما فيه من قيم الحق ومعايير العدل، والتماهي مع عدالة قضية فلسطين، ونبذ الإسلاموفوبيا والعنصرية والتوجهات العدوانية والثقافة الاستيطانية الإمبريالية تجاه العرب والمسلمين والجنوب العالمي، كما تنبئ بذلك مئات أو آلاف من مقاطع الفيديو ومنشورات منصة إكس وفيسبوك وغيرها.
وبعض هذه “الميديا” تظهر نساء ورجالا منهم اعتنقوا الإسلام ودخلوا في الهدى ودين الحق، يعرضون بإخلاص وتفان ما تعلموه من القرآن الكريم وقراءة مراجع الإسلام من قيم الحق ومعايير العدل وحقائق الوجود، ويقدمون العزاء لأهل غزة في مصابهم الفادح، ويوردون آيات من القرآن الكريم تثبيتًا لهم ويذكرونهم بالحكمة الإلهية في كل ما يجري.
ولا مبالغة في القول إن هذه الحراكات والمظاهرات والنشاطات تمثل نواة لموجة تحرر سياسي وتغيير اجتماعي واقتصادي جديد، يتصدى للرجعية الغربية واحتكار الثروة والسلطة والفساد السياسي والظلم الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي، نحو آفاق العدل والتراحم والإنسانية، وقد يتغير وجه الغرب الاستعماري الاستيطاني المسيطر على العالم منذ قرون.
ولم تقتصر هذه الحراكات على استنكار الإبادة والدمار والتجويع، والمطالبة بوقف إطلاق النار لإنقاذ أرواح المدنيين ومنازلهم، فقد تجاوزت ذلك كما تجاوزت أكذوبة “حل الدولتين” بكل سماجتها وفجاجتها إلى المطالبة الصريحة بما نسيه ربما كثيرون في المنطقة العربية “فلسطين حرة” من النهر إلى البحر.
بل إن المعارضين جذريا في الغرب لإسرائيل والمشروع الاستيطاني الصهيوني يتوزعون بين جيل الناجين من المحرقة النازية وجيل أبنائهم وأحفادهم، وتراهم جنبا إلى جنب في احتجاجات أسبوعية وازنة يتصدرها حاخامات يهود معادون للصهيونية، يؤكدون أن الصهيونية حركة عنصرية توسعية، ويقترحون تفكيك المشروع الصهيوني حلا وحيدا للصراع.
وجاء طوفان الأقصى في لحظة غياب المعنى والغاية وإفلاس قيمي واختزال معرفي وتجريف أخلاقي هائل وإفساد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، يشهدها العالم تحت سيطرة ثقافة إمبريالية رأسمالية وسلطة فاشية ومنظومتها المعرفية المادية وعلمانية بالغة التطرف، بينما تعاني البشرية فراغًا روحيًا وأخلاقيًا وتتطلع إلى استعادة القيم النبيلة والمثل العليا وتبحث عن قضية حق وعدل وضمير حر لتتبناها وتناضل من أجلها، بل وتبحث عن إجابات عن أسئلة الوجود الإنساني الكبرى: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟
ثقافة المقاومة
ولم تكن هناك قضية يتجلى فيها الحق جليًا والباطل صريحًا كما هي قضية فلسطين التي تنطوي على أبشع ما في العالم من ظلم وعدوان وأنبل ما في العالم من حق ونضال وتحرر من ربقة الاحتلال والاستيطان.
ومن أكثر ما لفت شعوب العالم، إلى عدالة قضية فلسطين، ثقافة المقاومة والصمود الأسطوري والثبات على الأرض والاستعصاء على الانهيار والتماسك الاجتماعي والتضامن الصلب بين مختلف شرائح المجتمع كما شهده العالم لدى أهالي قطاع غزة.
وفي كل مرة ينهض الناجون الخارجون من تحت أنقاض غارات ومجازر الاحتلال، والذين لا يزال الشهداء من أهلهم تحت الركام، ليجددوا إيمانهم وعهدهم مع الخالق سبحانه وتعالى، ويحمدوه ويفوضوا أمرهم إليه، ويحتسبوا كل الألم والفقدان والنزوح عنده رغم ألم المصاب وخراب الديار والدمار الشامل، ويؤكدوا إصرارهم على المقاومة وتشبثهم بأنقاض منازلهم ورفض التهجير و”الترانسفير”. واحتلت قصص وأسماء وشخوص كثر من هؤلاء الضحايا، أحياء وشهداء، أطفالا ونساء وكبارا، مواقع هامة في وجدان الملايين شرقا وغربا، وشغلت ذروة اهتمام وسائط التواصل الاجتماعي عالميا.
ومن مشاهد هذه المجازر، اقتبس أطفال غزة لعبة جديدة: يمثلون مشاهد استخراج الشهداء وإنقاذ الجرحى من تحت الأنقاض، ثم يحملون أحدهم، الذي يقوم بدور الشهيد على نعش رمزي ليشيعوا جنازته، وليفاجئهم بعد خطوات بصيحته ونهوضه من الفناء، وجلوسه على النعش رافعا يديه، لتكون تلك خاتمة اللعبة!
وكأنما هذا العنفوان الفلسطيني يولد وينهض دائما من رماد المحرقة الصهيونية بعد كل مجزرة مما يتجاوز 2800 مجزرة ارتكبها الاحتلال الهمجي منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لقد فاقت مجازر الصهيونية المحرقة النازية في وحشيتها وحقارتها وانعدام مبرراتها وأكاذيبها.
العدو الأخضر
لا شك أن أعلى مستويات المنظومة الغربية ومؤسساتها الحاكمة تدرك أن حالة الفراغ الروحي والأخلاقي والقيمي في الغرب ترشح بشكل منطقي الإسلام بديلا حقيقيا لملء هذا الفراغ ومنهلا تستلهمه تيارات التمرد الاجتماعي الغربي على الظلم والحيف والفساد والاستغلال الإمبريالي الرأسمالي للإنسان، بعد أن كان اليسار والفكر الاشتراكي هو البديل المرشح منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب الباردة.
ولذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومنظومته الاشتراكية وحلف وارسو، أواخر الثمانينيات الماضية، سارعت الدوائر الغربية المتنفذة من المجمع الصناعي العسكري والدولة العميقة ومراكز الأبحاث واللوبيات وغيرها إلى اقتراح العدو الأخضر (الإسلام) بديلا عن العدو الأحمر (الشيوعية).
وانطلقت حملة غربية عارمة (أميركية المركز) لترذيل الإسلام وحصاره بتمويلات سخية وجيوش الباحثين والإعلاميين ومؤتمرات جامعة ومراكز دراسات ومساحات إعلامية واسعة لترويج هذه الحملة والحيلولة بين العالم وبين روح الإسلام وتصوراته وفكره ورؤيته الكونية.
وتفاقم الأمر أكثر بعد هجمات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/أيلول 2001، فانتقلت الحملة إلى مستويات هائلة: إعلان “الحرب (العالمية) على الإرهاب” لتشمل استئصال الإسلام محليا بالقوانين الفاشية واصطياد الضحايا في قضايا إرهاب، وغزو واحتلال أفغانستان ثم العراق، وإطلاق “الفوضى الخلاقة” ومشروع الشرق الأوسط الكبير ومسالخ التعذيب في معتقلات “غوانتانامو” وغيره. وانطلقت حروب وحملات أخرى للهيمنة على العالم الإسلامي بزعم “نشر الديمقراطية”.
وقد حاول الرئيس الأميركي جورج بوش الابن و”المحافظون الجدد” رمي الإسلام بالفاشية وترويج مصطلح “الفاشية الإسلامية”! كما أنشؤوا قواعد بيانات هائلة للإرهاب، شملت ملايين المسلمين والشخصيات الإسلامية حول العالم، لمحاكمتهم وتجميد أصولهم ومنع سفرهم، بل وإنزالهم من الطائرات المتجهة إلى أميركا ولو كانوا مواطنين أميركيين.
وكانت تلك المرحلة بحق “عصر التشهير بالعرب والمسلمين” كما سماها المفكر الراحل جلال أحمد أمين، وكان الهدف إغلاق العالم تماما ومطاردة الإسلام والمسلمين في كل مكان.
وفي ضوء ما سبق، جاءت ملحمة “طوفان الأقصى” والصدمة الثقافية في الغرب والعالم لتكون الرد التاريخي على إرث “الحرب على الإرهاب” وموجة إسلاموفوبيا اليمين المتطرف الأوروبي والتي أطلقت بدورها ردود فعل عنصرية وكراهية على تعاطف الشارع في الغرب مع فلسطين.
وتمثل هذه التجربة مرحلة فريدة في سياق التصدي الثقافي لمنظومة الهيمنة الإمبريالية على العالم، وكسرت بعض حلقاتها، وألهمت جماهير غفيرة في الغرب آفاقا إنسانية وروحية وأخلاقية جديدة “بعز عزيز أو ذل ذليل” ولو كره الكارهون.
- الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.