“على المصطبة الرخامية أسفل جهاز تجفيف الأيدي لمحه منسيا في الزاوية، تجمّدت عيناه على ذلك الخاتم الفضي لبرهة. نادته تلك الزخارف الشرقية السوداء والفيروزية المنقوشة عليه بإتقان، وهوى قلبه عندما غمز له التنين (مثبت على الخاتم) بخبثِ من يقول: هيه.. أنت.. ألم تتذكرني؟”.
حدث ذلك في يوم خريفي كئيب من أيام عام 2017 في مطار بيروت، عندما لمح المصوّر الإسباني “لوكاس أورتيز بيريز” صدفة خاتم محبوبته الحلبية سلمى العطّار “المنقوش بزخارف تحكي حكايات عجبية لم يتوصل لوكاس إلى فهمها يوما”، وكان قد مضى أربع سنوات على آخر اتصال بينهما، وحوالي العقد على آخر لقاء جمعهما في مدينة حلب السورية.
هكذا، ومنذ الصفحات الأولى لروايتها “خاتم سُليمى”، المرشحة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ17 (2024)، تتخلى الروائية السورية ريما بالي عن المفردات الفجة للواقع مقحِمَةً قارئها في عالم سردي تنصهر فيه الحقيقة مع الخيال، ويختلط فيه الغرائبي بالواقعي؛ داعيةً إياه للتسليم بقوانين هذا العالم ومنطقه في محاولة لاكتشاف سر الخاتم العجيب المُلقى في مطار بيروت بينما لم تبرح صاحبته بيتها في مدينتها المنكوبة حلب.
أحجية هي عتبة القارئ إلى عالم ملغَّز بقصص شخوصه وأمكنته وطبيعة أزمنته، ففي عالمها المتخيَّل هذا تتجاوز الروائية الشكل التقليدي للحبكة، وتعمد إلى تكسير الزمن السردي بانتقالها غير المنظَّم بين عوالم الماضي والحاضر والحلم (المستقبل) لتعطي انطباعا بأنها زمن واحد؛ فيتقابل بذلك وعي الشخوص بلا وعيهم، وتنسجم التصورات والأحداث الغرائبية مع مشاعر ووقائع الحياة اليومية ليجد القارئ نفسه مع نهاية الرواية في حيرة من أمره، يتساءل ما إذا كان بطلها حيا يسرد حلما أم ميتا تستعادُ سيرته.
وقبل كل ذلك، فإن “خاتم سُليمى” سرد يتتبّع سيرة ومصائر مجموعة من الشخصيات التي عاشت في مدينة حلب السورية مطلع الألفية الثالثة قبل أن تحلّ الحرب لعنة عليها، ويُفرض الحصار على أهلها، وتتحوّل المدينة من واحة أدب وفن وصناعة وتراث إلى مكان شبحيّ مدمّر ومهجور.
الخاتم بين الحب الضائع وضياع المُلك
ينهض السرد في “خاتم سُليمى” بالتناص مع مرويات تراثية وتاريخية، وبمحاكاة أحداث واقعية شهدت عليها مدينة حلب. مرويات وأحداث تمكنت الروائية من توظيفها بشكل لافت في البناء السردي لحكايتها الغرائبية عن ثلاثية الحب التي جمعت بين بائعة التحف سلمى العطار أو “سيلين” كما سماها والدها، والموسيقار والمستشرق الإيطالي سيليفو كارولوني أو شمس الدين، والمصوّر الإسباني لوكاس أورتيز.
وتدور أحداث الرواية بين مدينتي حلب وطليطلة (توليدو) الإسبانية قبل سنوات معدودات من اندلاع الحرب السورية، حيث تتشابك بين هاتين المدينتين مصائر تلك الشخصيات الثلاث، التي تباينت في المنبت والثقافة والتطلعات ولكنها اجتمعت على عشق حلب، التي “تئن أسفل أنقاض الأحلام والفرص الضائعة”، وعلى مطاردة سحر الأشياء وخيالات الحب ورغائب الجسد التي شكلت محور الأحداث في الرواية.
ومع تقدّم السرد يغدو الخاتم السحري لسليمى الوشيجة الحيّة بين تاريخ حلب العريق بحرفها وصناعاتها وفنونها، وبين حاضرها المنكوب تحت ركام الأبنية المتهدمة، وعلى مستوى القصة فإن الخاتم بمثابة الرابط العجائبي بين حاضر الشخصيات وماضيها ومستقبلها، وبذلك يتحول الخاتم إلى بؤرة نصية تتوالد عنها الدلالات وتتشكّل في طريق تقاطعها وتكوينها النهائي للمدلولات الاجتماعية والسياسية والثقافية للعمل.
وبالعودة إلى أحداث الرواية، نجد أن سلمى تمتلك نسختين من الخاتم السحري المزخرف بنقش طبق الأصل عن النقش الذي يزيّن سور أحد أبواب حَلب القديمة، أهدت سلمى إحدى تلك النُسخ لشمس الدين (سيليفو كارولوني) وأطلقت عليها اسم “خاتم سليمان”، أما النسخة الأخرى فاحتفظت بها، وجعلتها لا تفارق بنصرها، وأسمتها “خاتم سُليمى”.
ولأن الأسطورة تروي عن خاتم النبي سليمان -عليه الصلاة والسلام- الذي يقود به الإنس والجان، ويتحدث بقدرته مع الحيوان، ويستقيم من خلاله ملكه ويثبِّت به عرشه، فقد نسَجَتْ سلمى أسطورتها عن “خاتم سليمان” خاصتها؛ فمنحت من خلاله لشمس الدين أسرار المُلك والمعرفة والحكمة المطلقة.
في حين ظل الخاتم الآخر “خاتم سليمى” لغزا محيرا، وشيئا سحريا، وحكاية ينتظر لوكاس أورتيز سماعها من سلمى التي شغلته بسره سنوات عديدة قبل أن يعثر على توأمه صدفة في مطار بيروت دون أن يجد أثرا لصاحبته.
ويحدد الخاتمان، بسحريتهما وانتقالهما بين الأصابع والأمكنة، معالم قصّة الحب التي جمعت سلمى وشمس الدين من جهة، وسلمى ولوكاس أورتيز من جهة أخرى؛ فينظمان السرد، وينتجان عنصر التشويق، ويجليان بواطن الشخوص ويسهمان في رسم المصائر المختلفة لأبطالنا.
فخاتم سليمان، بانتقاله الغرائبي إلى ذلك الركن العشوائي من مطار بيروت مفارقا إصبع شمس الدين، كان الشاهد على قصة حب عاصفة لم يكتب لها أن تستمر بين صاحبه وسلمى، أما على مستوى النص فكان هذا الخاتم المتروك مجازا لضياع المُلك في حلب المدينة العظيمة، وهلاك أهلها، ودمار عمرانها بعد موت سُليمانها (شمس الدين) تاركا المدينة التي عشقها مهجورة إلا من سلمى “ناطورة المفاتيح” التي بقيت تحرس أنقاضها.
الأحلام وشعرية اللهب
وعلى نهج الروائي الإسباني الشهير أنطونيو غالا في “مخطوطه القرمزي” تستأثر الأحلام باهتمام الروائية، فتفرد وحدات سردية بأكملها لأحلام لوكاس وكوابيسه التي تتناسل مولّدة حكايات متناثرة لا تحتكم إلى منطق.
فالحلم في “خاتم سليمى” يعصف بالزمان والمكان جاعلا من السرد مرآة للاوعي لوكاس، منقّبا في حاجاته ورغباته ومخاوفه، مستعرضا التشظي الداخلي للمصوّر الهائم بسلمى البعيدة مسافة بر وبحر، والتائه في دهاليز واقعه المنفِّر؛ فنراه يلجأ إلى أحلام النوم مستجديا واقعا أفضل يكون حب سلمى عنوانه العريض.
والأحلام هنا ليست نقلا لما هو واقعي، ولكنها رحلة في رحاب ما هو ممكن ضمن ذلك العالم السردي الافتراضي الذي تقترحه بالي على قارئها، داعية إياه للاستراحة قليلا من رتابة وتكرار ما هو منطقي وعقلاني، والخوض في غمار أحلام تثري مخيلته، وتطل بهِ على نصف حياة يقضيها الإنسان نائما.
ولا تكتفي الروائية بالأحلام زادا لشعرية سردها، ولكن توقد اللهب من حول لوكاس ليضيء له درب الرؤى على بساط سحري علّمته سلمى كيف يتمدّد عليه لينفذ إلى عالم الأحلام.
وبهذا تتبع الروائية تصور فيلسوف الجمال الفرنسي غاستون باشلار بقوله إن اللهب “يخلّد حلما أوليا، ويمتلك حضورا عظيما من شأنه أن يفصلنا عن العالم الواقعي وينقلنا إلى عالم الحلم الناعس”.
وإلى جانب الأحلام واللهب، تحتل البُسط الحلبية الحيز الأكبر من فضاء الشعرية في الرواية، فنجدها حاضرة منذ البداية في لوحة الغلاف التي خصصتها الروائية لبساط مطرَّز بالزخارف النباتية والهندسية، مرورا بمهنة بطلتها سلمى التي تعمل في جمع وبيع التحف والبُسط الحلبية الأثرية، وصولا إلى بساط لوكاس السحري جلّاب الرؤى والأحلام.
وتشكّل البسط والشموع والخواتم والأحلام مفردات الشعرية في الرواية، لتعكس عبر مزيج من السحر والغرائبية والأصالة روح حلب مدينة الحب والشعر والخانات والسجاد والعطارة قبل أن تدمرها الحرب.
جماليات المكان
وتحتفي بالي بالجماليات الزاخرة لمدينتها حلب، فينتقل السرد كالكاميرا بين أمكنتها واصفا أدق مظاهرها العمرانية والتراثية، متجوّلا في أحيائها العريقة، ومتنقّلا بين ساحاتها وأزقتها وخاناتها، ناقلا كل تفاصيلها بما في ذلك الروائح المميزة لمحالها وحوانيتها حتى ليخال القارئ نفسه سائحا في الأسواق والخانات الأثرية والمطاعم والمقاهي العتيقة لحلب القديمة.
ولحلب القديمة في السرد وجهان؛ الأول وهو الخارجي المؤطر الذي تدور فيه أحداث القصة، أمّا الثاني فيبدو من خلال القيمة المعنوية والتاريخية للمدينة التي تنسج سلمى معها علاقة “لا تشيخ ولا تنام” جاعلة منها مزيجا من الواقع والخيال والسحر.
وحلب حاضنة الحدث الروائي، والمركز المكاني الذي تتشابك فيه أحلام وتطلعات ومصائر الشخوص؛ فتبقى الهاجس الرئيسي لأبطالنا حتى بعد مغادرتهم إياها هربا من الحرب.
وعلى الرغم من أن الحرب لا تحضر إلا في مشاهد معدودة ضمن “خاتم سليمى”، فإن القارئ يتحسَّس ظلالها بينما المدينة تفقد هويتها شيئا فشيئا بفعل القصف والسرقة التي طالت الأسواق القديمة ومنزل شمس الدين ومحل سلمى للتحف.
وتنجح بالي عبر نقلها صور الدمار في إقامة تقابل بين ماضي حلب العريق وحاضرها المنكوب، لتعكس عبث وقسوة الحرب وعمق الفجيعة التي خلفتها في نفوس شخصياتها؛ فتغادر سلمى حلب لحضور مراسم حرق جثمان شمس الدين الذي غادر حلب بدوره وهو على شفا الموت محزونا، بينما يبقى لوكاس في إسبانيا عاجزا عن الوصول إلى سلمى حتى بعد تسلله إلى حلب من معبر غير شرعي.
وتنغلق الرواية على حدث ضبابي لا يدرك القارئ معه ما إذا كان لوكاس حيا يحلم أو في غيبوبة أو ميتا، لتترك الكاتبة لقارئها حرية نسج النهاية لقصة حب منقوصة جمعت بين لوكاس أورتيز وسلمى.
وريما بالي هي كاتبة وروائية من مواليد مدينة حلب السورية، في رصيدها الأدبي أربعة أعمال روائية هي: “ميلاجرو” (2016) و”غدي الأزرق” (2018) و”خاتم سليمى” (2021)، و”ناي في التخت العربي” (2023).