رحل اليوم الثلاثاء في العاصمة الأردنية عمّان الكاتب والأديب الأردني فخري قعوار، المولود عام 1945، بعد رحلة حافلة أسهم فيها بنصيب وافر في الحياة الأدبية والإعلامية والنقابية، كما كان برلمانيا متميزا ونائبا معارضا في تسعينيات القرن الماضي، اجتمعت على محبته النخبة والعامة، وكان قادرا بممارسته الصحفية الطويلة على تبسيط كتابته وتقريبها من الجمهور العام، واستثمار الأساليب الأدبية للتأثير في القراء، وقد تميز بتطوير أساليب السخرية المحكمة والتهكم الفني في إبداع القصة القصيرة والمقالة الصحفية، مما وفر لكتابته صورا متنوعة من الجاذبية والتشويق.
وتنقل في الكتابة بين الصحف الأردنية الكبرى، قبل حلول عصر المواقع الرقمية والإلكترونية، كما واصل تجربته الأدبية التي تركزت في حقل القصة القصيرة وكتابة المقالة في معظم سني عطائه. بالإضافة إلى ذلك، فهو أحد رموز رابطة الكتاب الأردنيين، وقد أسهم في تأسيسها منذ عام 1974، وترأسها لعدة دورات في تسعينيات القرن الماضي، كما أنه الأديب الأردني الوحيد الذي انتخب رئيسا للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
يعد الراحل فخري قعوار أحد أبرز أدباء جيل الستينيات وما يدعى بجيل “الأفق الجديد” في فلسطين والأردن نسبة إلى المجلة المقدسية التي نشر قصصه وكتاباته الأولى على صفحاتها، وواصل رحلته في الكتابة فانضم مبكرا إلى كتّاب المقالة في الصحافة الأردنية، وظل مساهما في هذا المجال حتى سنوات قريبة، كما تميز الراحل الكبير بجملة من السجايا القيادية والأخلاقية التي جعلت منه رمزا من رموز الحركة الثقافية والنقابية والإعلامية، وله بصمات لا تنسى في مختلف المجالات والاهتمامات التي انشغل بها.
أضواء على التجربة الأدبية
تتركّز تجربة الأديب فخري قعوار في مجال “القصة القصيرة”، فهي أبرز وجوه إبداعه وإنجازه الأدبي، على كثرة المجالات التي انشغل بها وأنجز فيها، لكن مركز حضوره الإبداعي هو “القصة القصيرة”، وقد دأب على نشر إنتاجه القصصي منذ بداية عقد الستينيات من القرن الماضي، وخصوصا في مجلة “الأفق الجديد” المقدسية (1961-1966) ومجلة “القصة” المصرية ومجلة “الأديب” اللبنانية، إلى جانب نشر قصصه في الصحف الأردنية والعربية.
وقد أسهم هذا الأمر في التعريف باسمه عند الأدباء والقراء العرب، قبل أن يظهر إنتاجه في كتب أو مجموعات منشورة، فالتفت إليه على سبيل المثال الأديب المصري محمد عبد الحليم عبد الله، وكتب عن إحدى قصصه. كما أسهم انطلاقه من المجلات العربية في وضع إنتاجه المبكر ضمن بدايات جيل الستينيات على المستوى العربي، ذلك الجيل الذي ساهم مساهمة فعالة في تطوير فن القصة القصيرة وفن الرواية، وفي تطويعهما للتعبير عن مشكلات المجتمعات العربية وهمومها.
بين الأدب والصحافة
ولم تتأخر بدايات قعوار “الصحفية” كثيرا عن بداياته القصصية، بل تداخلت معها من الناحية الزمانية، وتفاعلت معها من ناحية التأثير المتبادل بين حقلين متميزين ظلا حاضرين في شخصية الأديب الراحل. ويشمل هذا التأثير المتبادل مستوى الموضوعات والأساليب واللغة، فقد منحته الصحافة فرصة الإطلالة اليومية المواكبة المتصلة بقضايا الناس والمجتمع، وكثيرا ما نقل جوانب من ذلك إلى إنتاجه القصصي، أي إن الصحافة وفرت له كنزا من الموضوعات والشخصيات المتنوعة التي يصعب الاقتراب منها من دون هذه الفرصة السانحة، وقد صبغ هذا التأثير إنتاج قعوار بصفة المواجهة والمواكبة للقضايا الجديدة والمتجددة. وفي الجانب الأسلوبي أخذ قعوار من اللغة الصحفية ميلها إلى الإيصال والتفكير في القارئ، وحرصها على الوضوح وبعدها عن التعقيد والتقعر والافتعال.
أما كتابته الصحفية فاستعارت الكثير من مكاسب موهبته القصصية، فبدت كتابة صحفية مثقفة لا تخلو من التأمل والعمق رغم يوميتها وسرعتها، كما لا تخلو من ربط اليومي بالأبدي، ولا من الاستدلال بالجزء على الكل، وهو منحى يوفره المنظور الأدبي الذي يميل إلى استخلاص العبر والكليات من الجزئيات والحوادث العابرة.
إطلالة على الإنتاج القصصي
وأما إنتاجه القصصي فيمكن إجماله على النحو التالي:
مجموعة “البرميل”: وهي تمثل قصصه المبكرة في عقد الستينيات من القرن الماضي، وظهرت قصصها في الصحف والمجلات قبل أن تجمع وتنشر متأخرة بعض الشيء عام 1982.
مجموعة “ثلاثة أصوات”: وهي مجموعة مشتركة مع المرحومين بدر عبد الحق وخليل السواحري، ونشرت عام 1972.
- مجموعة ” لماذا بكت سوزي كثيرا”: ونشرت عام 1973.
- مجموعة “ممنوع لعب الشطرنج”: ونشرت عام 1976.
- مجموعة “أنا البطريرك” ونشرت عام 1981.
- مجموعة “أيوب الفلسطيني” ونشرت عام 1989.
- مجموعة “درب الحبيب” ونشرت عام 1996.
- مجموعة “عزيز وعزيزة”: ونشرت عام 2009.
- مجموعة “رقصة الحياة”: ونشرت عام 2012 وتضم بداياته القصصية غير المنشورة مما كتبه قبل عام 1960، أي إنها تسبق مجموعة البرميل وتمثل معها الحلقة الأولى في هذه التجربة الغنية.
وربما تفيد هذه الكتابات مؤرخ الأدب الذي يبحث عن منحى التطور ويعنى بدراسة البدايات أكثر من القارئ العام الذي يريد ما آلت إليه الأمور لا ما كانت عليه.
أما المجموعة التي تحمل عنوان “حلم حارس ليلي” المنشورة في دار الآداب عام 1993 فمختارات من إنتاجه القصصي وليست مجموعة مستقلة عن مجموعاته التي ذكرناها آنفا.
وله كذلك رواية قصيرة “نوفيلا” تحمل عنوان: عنبر الطرشان، نشرت عام 1996. وفي إنتاجه “المقالي” الساخر والجاد كثير من القصص التي اختلطت بكتاباته الأدبية الصحفية، ولكن يمكن التعرف إليها بسهولة وضمّها إلى الإنتاج القصصي.
الأديب المفتون بالعدالة والتقدم
وللراحل قعوار كتاب معروف يحمل عنوان “ليالي الأنس” وهو أقرب إلى شهادة في التجربة من منظور صاحبها، ولكنه يقدم أضواء ساطعة على تطور الأدب القصصي، وتطور الحياة الأدبية والثقافية الأردنية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا يستغني عن هذا الكتاب من يريد أن يتعرف على هذه التجربة المميزة، وقد رصد في ذلك الكتاب مراحل تكوينه وثقافته وجملة المؤثرات التي نهضت بالدور الأبرز في توجيه كتابته وشخصيته الفكرية والثقافية. ولعل أبرز مفترق فكري لقعوار يتمثل في قوله: “فتنت بفكرة العدالة والتقدم، وانتصرت للعمال والفلاحين وسائر الكادحين الذين ترتبط جذوري بجذورهم، وأعجبت بالأممية والفكر العلمي”.
فهذا التأثر بالمناخ النضالي للاشتراكية أسهم في توجيه الكاتب إلى الأدب الواقعي المرتبط بالمجتمع وبالنظرة إليه وفق المبدأ الطبقي، وما يرافق ذلك ويتبعه من التعبير عن هموم الطبقات الكادحة والتعويل عليها في إحداث التغيير المنشود. وقد أدى هذا الإيمان إلى كسر هيمنة الرومانسية بأخيلتها وعواطفها الباكية، لصالح وعي جديد يضبط الانفعالات وينظر من منظار مختلف إلى قضايا الإنسان لا ليعطف عليه أو يبكي معه فحسب، بل ليثق به ويرى قوته الكامنة لو نال حصته من العدالة والحرية والوعي. وقد ظل هذا الوعي بمعناه النضالي المقاوم محركا أساسيا من محركات تجربة قعوار، مع تنوع الأشكال الفنية وتطور التجربة القصصية.
معالم في التجربة القصصية
وإذ نقرأ بعض مفردات هذه التجربة نجد أنها قد امتدت زمانا ومكانا، ونجد أن قصص قعوار قد عبرت عن القضايا الكبرى للإنسان العربي، وذلك عندما تناولت مفردات المقاومة والتحرر والنضال الاجتماعي، كما تناولت قضايا المرأة العربية والمشكلات التي واجهت نضالها في العمل والتعليم، وفي مواجهة الوعي الاجتماعي الذي أعاق مشاركتها وفاعليتها.
وما من قصة لقعوار إلا وتنتمي إلى فرع من فروع شجرة “المقاومة” و”النضال الاجتماعي” و”التحرر” من كل ما يعيق مسيرة الإنسان العربي سواء أكان وعيا زائفا، أم كان عائقا سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا، فقصص أديبنا امتازت بمواكبتها ومواجهتها لتلك القضايا الحادة والحارة التي شغلت المجتمع العربي وأثرت في مسيرته، وهو من هذه الزاوية من المنتمين لمدرسة: الفن للمجتمع وللناس، من دون أن ينسى أو يتجاوز اشتراطات الفن والجمال.
ولقد اتسعت مدونته القصصية لعوالم ومناخات وشخصيات شديدة التنوع، فكان في كل مرحلة من مراحل تجربته يضيف إلى رصيده الفني والموضوعي، ويجدد في أسلوب كتابته وفي صياغته القصصية من دون أن يخرج على تلك الرؤية “النضالية” وعلى الانحياز للكادحين والبسطاء، فهو مع “العامة” ضد “الخاصة”، ومع “الجمهور” في مواجهة “النخبة”، ومع “البساطة” في مواجهة “التعقيد”، ومع “الهامش” ضد “المتن”، بل تتسع كتابته القصصية لكثير من سمات “الثقافة الجماهيرية والشعبية” وتتغذى على كثير من مكوناتها، بعد تصفيتها ومعالجتها استنادا إلى الوعي الواقعي الذي انطلق منه واستند إليه في تفهمه قضايا مجتمعه وأمته.
في البدء كانت الواقعية
ولو أردنا أن نرسم مسارا لرحلة قعوار القصصية لجعلنا “الواقعية” في مقدمة هذا المسار، ففي قصص الستينيات من القرن الماضي نجد المعالجة الواقعية بسماتها الفارقة التي كانت تيارا جديدا في مواجهة تيارات الرومانسية العاطفية قبل ذلك، ولا شك أن للنكبة الفلسطينية التي هزت الوعي العربي دورا كبيرا في تسريع وتيرة الواقعية، وفي تراجع الرومانسية التي كانت وليدة الوعي البرجوازي السابق على النكبة، لكن الحاجة لاختمار التجربة ونضجها أخّرت الأمر قرابة عقد من الزمان، أما الخمسينيات فلم تشهد سوى صيغ مضاعفة من البكاء على الفردوس المفقود كما نجد في قصص معروفة لمحمود سيف الدين الإيراني وعيسى الناعوري وغيرهما.
أما المنحى الواقعي فلا نكاد نجد له ريادة مبكرة باستثناء بعض كتابات عارف العزوني ونجاتي صدقي ومن بعدهما أمين فارس ملحس. ويمكن أن نربط واقعية قعوار وأبناء جيله من قصاصي الأفق الجديد، من مثل خليل السواحري وصبحي شحروري وماجد أبو شرار ومحمود شقير على سبيل المثال، بجذور أولى عند نجاتي صدقي الذي آمن مبكرا بالاشتراكية وتعلم الروسية وسافر إلى الاتحاد السوفياتي وكتب عن أعلام الأدب الروسي عدة كتب.
ومن ناحية التأثيرات، فإن واقعيته مرتبطة بهزة النكبة والحاجة إلى وعي جديد يتجاوز الوعي الرومانسي الذي لا يقدم حلا ولا يعين في مواجهة الواقع الجديد الذي خلفته. كما ترتبط بما خلفته ثورة يوليو/تموز 1952 من ناحية صعود المد القومي، وتبني بعض المبادئ الاشتراكية وإلغاء امتيازات الإقطاع والبرجوازية، وظهور مناخات ثقافية ونقدية مساندة لهذه التحولات.
ولقد ارتبطت الواقعية عند قعوار وأبناء جيله بسمات واضحة من مثل: بروز الوعي الطبقي، وقسمة العالم إلى قسمين، والانحياز مسبقا إلى فئة دون أخرى، كما نجد الحرص على تصوير البيئات والشخصيات بشيء من التفاصيل الواقعية مما حرص عليه كتاب هذا اللون في الأدب العربي والأجنبي، فالقصة تبنى من تفاصيل واقعية ويومية محددة، والاعتماد الأساسي على مبدأ الاختيار لا الاختلاق.
ويظهر أصحاب العمل والأغنياء بصورة المستغلين على نحو نمطي، فجزار الحي في قصة “بخار الماء الساخن” يستغل فتحية وزوجها مقابل منحهما لحما مجانيا، في صورة مقايضة قاسية لا تستمر طويلا. وعندما تضطر “غندورة” بطلة قصة “البرميل” إلى العمل بسبب فقر أسرتها تجد نفسها في مواجهة “عفيف” صاحب العمل الذي يحمل اسما على غير مسمى، فهو يستغل العاملات ويعتدي جنسيا عليهن، في صورة بشعة من صور الاستغلال في عالم المال والأعمال.
وتتكرر هذه الرؤية في قصة “حكاية إبريق الزيت”، إذ يحاول الغني إبراهيم استغلال المرأة الأرملة، عارضا عليها الزواج بقصد السيطرة على قطعة أرض تركها زوجها المتوفى، لكن الدائرة لا تكتمل بسبب وعي المرأة بشرك الاستغلال، فترفض الزواج وتحافظ على ابنها وأرضها الصغيرة. وفي قصة “الحب أزرق” تكتشف الزوجة قيمة زوجها الفقير وهي ترى الرجل الغني الزائف يحاول مغازلتها والتقرب منها، فلا تنجح خططه إلا في تنبيهها إلى أن غنى المال قد يترافق مع فقر مدقع في الروح والنفس، ولا يكفي ليكون المرء غنيا في إنسانيته وعطائه وأخلاقه.
لماذا بكت سوزي كثيرا
وفي مجموعته الثانية “لماذا بكت سوزي كثيرا” استأنف الكاتب رحلته الواقعية مع الانفتاح على مناخ إضافي يتمثل في “الحكاية الشعبية” والمناخات ذات الصلة بالوعي الشعبي، ولكن ما ينبغي التنبيه عليه أن الكاتب لا يستسلم للوعي الشعبي المستعار، وإنما يعيد معالجته ويحوّره ويوجهه نحو ما يتوافق مع رؤيته ومعالجته، ومن أمثلة ذلك قصة “مغارة السنديانة” التي تعالج بعض أوهام الريف وعالم القرية، إذ يؤمن الناس أو بعضهم بفكرة الأشباح والأرواح الشريرة، وتكشف القصة عن سذاجة مثل هذه المعتقدات بطريقة مسلية بسيطة.
وفي المجموعة نفسها تقدم قعوار خطوات واضحة نحو الاهتمام بالشكل الفني وتجريب أشكال جديدة من مثل: استخدام الهوامش السردية المتممة للمتن القصصي كما في قصة “المكوك”، وهي فكرة تجريبية تنتمي إلى مسار القصة “المكتوبة”، أي بوصفها نصا مكتوبا يمكن للقارئ أن ينتقل بين متنه وهوامشه، والأمر الثاني أن فكرة الهامش أقرب إلى المبدأ البحثي، فكأن القصة قد تجاوزت حدودها “الحكائية” ليمكنها أن تتسم ببعض صفات الكتابة المعرفية والبحثية.
ونجد أيضا في المجموعة نفسها بدايات لاهتمامات أخرى بالشكل القصصي وبتجريب إمكاناته واختبار آفاقه، ومنها ظهور شكل “القصة القصيرة جدا” في كتابة قعوار، وهو شكل جديد في الكتابة العربية أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وظهر هذا في القصص المعنونة بـ”إضافات لسفر الرؤيا” وتضم عشر قصص قصيرة جدا تبدو متأثرة بنكسة يونيو/حزيران وبما تبعها من تأثيرات وتحولات، مكتوبة بلغة شعرية مكثفة موحية، يحل فيها التجريد مكان التفصيل، ويحل فيها التلميح بدلا من التصريح، وتتجه القصة إلى الإفادة من طاقات الشعر ومن طبيعته التلخيصية التجريدية.
وكذلك تمثل القصة التي حملت المجموعة اسمها “لماذا بكت سوزي كثيرا”، تجربة جديدة تؤشر على اهتمام قعوار بالانفتاح على التجريب القصصي، فيجرب هنا بناء قصة متسلسلة أقرب إلى ما يسمى بالمتوالية القصصية أو الحلقات القصصية، ويظهر هذا في استعمال العناوين الفرعية التي تقسم القصة إلى قصص فرعية تستقل عن القصص الأخرى وتتصل بها من ناحية أخرى.
كما يظهر في القصة محاولة الإفادة من إمكانات الطباعة عبر استعمال “البنط” الأسود لبعض الجمل والمقاطع من باب التشديد عليها، وهذا مظهر من مظاهر توجيه القراءة السردية عبر شكل الطباعة وحجم الخط، وينتمي هذا الملحظ إلى ما يدخل في باب “جغرافيا النص” بوصفه نصا مكتوبا، وليس سردا شفويا. وله علاقة أيضا بتقنيات الطباعة الصحفية وببعض تجارب الأدب العالمي (وليم فوكنر على سبيل المثال) والأدب العربي (غسان كنفاني مثلا).
وتشير قصة “ثرثرة على مقهى الكوكب” إلى حضور عنصر “المكان” عند قعوار، ولا تخلو من لمسات عجائبية جزئية، كما تذكرنا بحضور “المقهى” في جانب واضح من إنتاجه القصصي. وفي مستوى الشكل نجد القصة تتجه إلى توسيع مساحة “الحوار” الذي ينبثق من مبدأ “الثرثرة” في المقهى ووجود أصدقاء يتحدثون أو يتحاورون، وتمثل هذه القصة أيضا جذرا من جذور القصص الحوارية الكثيرة في تجربة قعوار، وتشف أيضا عن “الفكرة الديمقراطية” التي طالما دافع عنها قعوار وناضل من أجلها، ونعد “الحوار” الصريح والضمني أبرز الصيغ الفنية المعبرة عن ديمقراطية الحياة وديمقراطية الفن معا.
خطوات في القصة التعبيرية والرمزية
لقد انفتحت تجربة الأديب قعوار على مناخات وتقنيات متعددة رؤية وموضوعيا وأسلوبيا، ورغم ما كررناه من وفائها النادر للمبدأ الإنساني النضالي، فإن ذلك أخذ صيغة منفتحة لم تنغلق أيديولوجيا أو فكريا، ولم تمتنع عن الحوار مع غيرها من التجارب، ولذلك اتسعت مظاهر التجريب، وظهرت خبرة القاص ومهارته في صياغة قصص تتركب من تقنيات ومستويات سردية متعددة في مجموعاته المتتابعة.
ويمكن أن نعد مجموعة “ممنوع لعب الشطرنج” مرحلة أخرى تتمم ما بدأه في المجموعة السابقة لها من ناحية التوسع في كتابة القصة التعبيرية، التي تنفتح على الشعر وتتغذى من مواد متنوعة، وتتخفف من مظاهر الواقعية التقليدية، فتتخلى عن تسمية الشخصيات، وتميل إلى التجريد، وإلى مظاهر تعبيرية متعددة كاستخدام الرمز والقناع، سواء بصيغة توظيف التراث أو بصيغ أخرى متعددة. كما تنفتح في رجوعها إلى رمزية ابن المقفع من خلال تمثيل هموم البشر ومشكلاتهم في صيغة عالم الحيوان وإمكانية تحويله إلى شبكة رمزية تنهض بعبء التمثيل السردي الذي يقدم الرسالة بصيغة تعبيرية موحية، كما يقدم رسالته في القالب السردي الممتع المشوق.
ويمكن التذكير بتجربة الأديب العربي السوري زكريا تامر الذي أسهم إسهاما واضحا في مجال القصة التعبيرية وشجع نجاحه الكثير من القصاصين العرب على أن يجربوا التقنيات التي نبه إليها واستخدمها في قصصه المعروفة.
وتصل التعبيرية إلى حدودها القصوى في قصة “شجرة معرفة الخير والشر” عندما توظف حكاية الخطيئة الأولى بمرجعيتها الإنجيلية إلى حد كبير، ويعمد القاص إلى التعديل والتحوير في تفاصيل القصة وأحداثها لتتسع القصة الرمزية لمعاني الحرية وحق المعرفة، مبتعدا عن تفاصيل الواقعية وظلالها، وصولا إلى صيغة تجريدية تجعل منها قصة رمزية بامتياز، تعالج قضية الإنسان في وجوده وفي حدود إمكاناته وطموحاته.
وواصل الكاتب مذهبه “التعبيري” في تجاربه وأعماله اللاحقة من ناحية حضور اللمسات الرمزية والغرائبية والعجائبية، واللجوء لمنطق الأحلام والكوابيس، ومن ناحية شعرية القصة عبر لغتها الإيحائية، وعبر مبدأ التجريد والتركيز على العنصر اللغوي.
تتسع القصة في هذا الاتجاه للابتعاد مسافة كافية عن المعقول لصالح اللامعقول، ويحضر عنصر الانزياح أو العدول -بمفهومه الأسلوبي- عندما تعدل القصة عن الممكن الواقعي لصالح الطاقة التعبيرية الكامنة في الصياغة القصصية المبتدعة، والعبرة في الدلالة النهائية التي توصلها القصة من خلال ابتداع أبنية جديدة ليست مجتزأة من الواقع أو مختارة من أحوال محددة، وإنما هي مبتدعة ومشتقة من إمكانات المخيلة.
فقصة “الأم” مثلا تعبر عن فكرة “الجوع الكافر” وتتخذ من الغرائبية والكابوسية أسلوبا لمثل هذا التعبير، وذلك عندما لا تجد الأم شيئا تطعمه لطفلها، فتعمد إلى قطع ثديها لتطعمه وتسكت جوعه، معبرة في كابوسيتها عن مدى حنان الأم، وكفر الجوع وقسوته، إنها غير واقعية من ناحية مادتها ولكنها في دلالتها تقع في صميم الواقعية، وهذا هو الجديد في تجربة الواقعية التعبيرية بما تتيحه من انفتاح إمكانات المخيلة واتساعها للتعبير الموحي بدلا من التعبير المباشر.
قصص الحيوان أو كليلة ودمنة
وأما القصص التي تنتمي إلى مدرسة “كليلة ودمنة” الجديدة فتتمثل قصص حيوانات مثل الحصان والكلب والثور والجمل وغيرها، مستفيدة من رمزية الحيوان ومن المدلولات المرتبطة به، لكن الأمر المختلف بين ابن المقفع وقعوار يكمن في جدية الأول وسخرية الثاني، فترد هذه الصور القصصية عند قعوار في قالب من السخرية الدالة التي ميزت جانبا واسعا من أدبه وكتاباته. ويتصل بهذا اللون من القصص التعبيري حضور صورة الغابة في طائفة من القصص، تعبيرا عن مبدأ الوحشة والاستيحاش ونقصان البعد الإنساني في عالمنا الراهن.
ومما برز أيضا في هذه التجربة التعبيرية مقدرة الكاتب على بناء المفارقة بأساليب متعددة، منها اللجوء للمحاكاة الساخرة عبر تفخيم اللغة وتضخيمها أو عبر تقليد اللغات وتمثيلها تمثيلا قصديا ساخرا. ويشير هذا المنحى إلى تقدير دور اللغة وتعظيم شأنها في القصة القصيرة التي لم تعد تكتفي بالحبكة وعناصرها المألوفة وإنما غدت اللغة بطلا آخر لا يقل دوره عن غيره من العناصر والمكونات القصصية.
وأخيرا، فإن تجربة الراحل الكبير فخري قعوار في القصة والأدب والصحافة والحياة البرلمانية والنقابية تجربة لامعة مضيئة من تجاربنا العربية المعاصرة، وتستحق أن تروى وأن تستعاد بوصفها تجربة رائد من رواد الأدب ومعلم من معلّمي الصحافة على مدى تجاوز خمسة عقود من العطاء والالتزام.
يغيب فخري قعوار غيابة كل حي، فلا مفر من الموت، ولا اعتراض عليه، ولكن العزاء يبقى فيما خلّفه من كتابات وبصمات تضمن له البقاء والخلود في قلوب أحبائه وتلاميذه وقرائه إلى زمن طويل.