اشتهرت مصر القديمة بمسلاتها الشاهقة التي كانت محل اهتمام كبير وصل إلى حد التقديس في عصور ما قبل الأسرات (حوالي 4000-3500 قبل الميلاد).
وصارت المسلات كثيرة العدد في المملكة الحديثة (1550 -1077 قبل الميلاد) حيث كانت تتصدر كل معبد مسلتين ذاتا قمم هرمية مذهبة، ثم أقيمت مسلات مفردة على محور كل معبد، وكانت تلك المسلات تذكاراً لعبادة الشمس التي عرفتها مصر القديمة قبل آلاف السنين.
وانتشرت المسلات في مدن مصر القديمة نقلاً عن مدينة هليوبوليس (شرق القاهرة حاليا) وقد نحتت من حجر الغرانيت الأحمر، وكان قطعها يتم في محاجر أسوان (جنوب مصر) ثم تنقل عبر نهر النيل إلى الأقصر وغيرها من مدن مصر التاريخية.
وقد نحتت المسلات من حجر الغرانيت، وكان الغرانيت الوردي أكثر استخداماً للمسلات من الأشهب.
وبحسب المصادر، فإن وزن المسلة يبلغ عدة مئات من الأطنان، وأما أضخم المسلات فبقيت غير مكتملة الصنع في محجرها بأسوان (جنوبي مصر) وتزن أكثر من ألف طن.
معمار جمالي
والمسلة عنصر معماري ذو 4 أضلاع، تنتهي بقمة هرمية تقوم على قاعدة مستقلة قد يسجل عليها نص، وتزين بتماثيل القردة التي تهلل لأشعة الشمس. وتنقش جوانب المسلة الأربعة بمناظر ونصوص تتعلق بالملك صاحبها، وبالآلهة التي كرست لها المسلة.
وأراد المصري أن يحقق بالمسلة مجموعة من الأهداف، منها أنها عنصر معماري جمالي يقع على يمين ويسار مدخل المعبد، ويبدو سابحاً في الفضاء يربط بين السماء والأرض، ثم هي نصب تذكاري يخلد ذكرى صاحبه في علاقته بالآلهة.
وتحظى المسلات المصرية القديمة -التي نُقلت من معابد مصر القديمة لتُزيّن بعض الميادين في عدد من مدن العالم- بحضور كبير في المصادر العربية والأجنبية وكتب الآثاريين وعلماء المصريات.
الرحلة الكبرى للمسلة
وفي كتابه “الرحلة الكبرى للمسلة” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الذي ترجمته زينب الكردي، ويحكي الروائي والصحفي الفرنسي روبرت سوليه (المولود بالقاهرة 1946) كيف قام فريق فرنسي بنقل مسلة الملك رمسيس الثاني من موقعها الأصلي، أمام صرح معبد الأقصر الأثري، إلى فرنسا حيث استقرت بميدان الكونكورد في باريس.
ويكشف “سوليه” في كتابه كيف تم اقتلاع المسلة الضخمة من موقعها في المعبد ونقلها إلى باخرة حملت اسم “الأقصر” ويقدم وصفا لما بذل من جهود من أجل إتمام عملية النقل، وكيف أن مرض الكوليرا هاجم عدداً من أعضاء الفريق الفرنسي الذي قام بنقل المسلة.
ويشير كتاب “معجم الحضارة المصرية القديمة” لعلماء المصريات جورج بوزنر وسيرج سونرون وجان يويوت وأ. أ. إدواردز و ف. ل. ليونيهن، وترجمة سيد أمين، إلى أن المسلات المصرية القديمة نُقلت إلى خارج البلاد في جميع العصور. فقد نقل آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية أشوربانيبال اثنتين منها إلى نينوى في العراق حاليا.
ونقل الأباطرة الرومان كثيراً منها إلى روما والقسطنطينية، وحذت الدول الحديثة حذو هؤلاء خلال القرن الـ19، حيث نجد مسلات مصرية في الكثير من البلدان مثل إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
وبحسب الجمعية المصرية للتنمية السياحية والأثرية، فإنه يوجد عدد من المسلات صغيرة الحجم في عدد من المتاحف العالمية، ويوجد داخل مصر 13 مسلة، في حين تمكن المجلس الأعلى للآثار المصرية من ترميم بعضها وإعادتها إلى الصورة التي كانت عليها قبل آلاف السنين.
بقايا الحضارة القديمة
يقول عالم المصريات المصري، الراحل الدكتور عبد الحليم نورالدين، إن المسلات تعد علامة بارزة من علامات الحضارة المصرية القديمة، ويشير إلى أنه إذا كانت الأهرامات على سبيل المثال تعتبر إنجازا هندسياً ومعمارياً، فإن المسلات تُعد إبداعاً متميزاً لكونها قطعة واحدة من حجر الغرانيت الوردي أو غيره، إضافة إلى طريقة قطعها ونقلها وإقامتها، وبقاء بعضها شامخا يواجه كل الظروف الطبيعية والبشرية.
وبحسب سلسلة محاضرات نشرتها مكتبة الإسكندرية، وألقيت ضمن المواسم الثقافية الأثرية التي تنظمها بمشاركة كبار علماء المصريات، فإن للمسلات دلالات دينية، حيث كانت أحد الرموز البدائية المقدسة في مصر القديمة، والتي ربما بدأ الناس في التاريخ المبكر يقيمونها للآلهة رع في هليوبوليس على شكل عمود بسيط يربط بينهم وبين هذه الآلهة. ثم تطور هذا الشكل ليتخذ شكل الجسم ذا الأضلاع الأربعة، والذي ينتهي بقمة هرمية.
وتُبيّن بعض المصادر أن المسلة ترمز إلى أشعة الشمس الهابطة من السماء ممثلة في قمتها الهرمية.
وربط بعض علماء الآثار بين المسلة والآلهة “أتوم” أحد أهم المعبودات لدى قدماء المصريين، والذي يرمز لنشأة الكون، كما أن هناك علاقة بين المسلة والمعبود رع على اعتبار أن قرص الشمس أقدم رمز لهذا المعبود قد صور على قمة مسلة، كما ذهب بعض علماء المصريات إلى الربط بين المسلة والقمر، وأن استخدام المسلات كان مع بداية تبلور الفكر الديني وبداية ظهور عقيدة الشمس في مصر القديمة.
ومن أبرز ما تدل عليه المصادر الدور الديني للمسلة ذلك الطقس الذي كان يصاحب إقامة المسلة، والذي يعرف بطقس “إقامة مسلتين للآلهة”.
وظهر هذا الطقس منذ الدولة الحديثة، واستمر طوال العصر الفرعوني والعصرين اليوناني الروماني. وهناك بعض الأمثلة من الدولة الحديثة، أهمها ذلك المنظر المصور على جدران المقصورة الحمراء للملكة حتشبسوت في الكرنك، الذي يصور مع النص المصاحب لإقامة مسلتين من قبل هذه الملكة لأبيها الآلهة “أمون”.
ولا تزال إحدى هاتين المسلتين باقية كاملة، في حين سقطت الثانية ولا يزال يقوم جزء منها على القاعدة، كما أن هناك جزءا من القمة عند البحيرة المقدسة بمعابد الكرنك في مدينة الأقصر التاريخية بصعيد مصر.
وشهدت منطقة أبو صير (في محافظة الجيزة) قديما بناء مجموعة من معابد الشمس التي كرسها ملوك الأسرة الخامسة لعبادة آلهة الشمس، وكانت المسلة عنصرا رئيسيا في هذه المعابد على اعتبار ما للمسلة من علاقة قوية بآلهة الشمس في مصر القديمة.