رحلة أوليا جلبي.. الحج الأوروبي المسيحي إلى القدس العثمانية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 10 دقيقة للقراءة

زار الرحالة الأهم في التاريخ العثماني أوليا جلبي بلاد الشام وفلسطين مرتين بمنتصف القرن الـ17 في العصر الكلاسيكي قبل حركة التحديث وعصر التنظيمات في الدولة العثمانية، وقد ضمّن تفاصيلهما في المجلدين الثالث والتاسع من عمله الموسوعي “سياحت نامه” المكون من عشرة مجلدات.

دأب أوليا جلبي (ولد في 1020 هـ/1611م بإسطنبول، وتوفي 1095 هـ/1684م) في رحلاته على وصف كل ناحية ارتحل إليها من حيث جغرافيتها وموقعها، وعدد نفوسها وقصورها ومدارسها وتكاياها وخاناتها ومساجدها وقبور شخصياتها التاريخية، وأي معالم تستوقف الرحالة.

اهتم أوليا جلبي كذلك بتسجيل حركة الإعمار بمختلف المناطق، وما شُيد من وقفيات ضخمة وأعمال البر والرفاه الاجتماعي التى قام بها السلاطين والأمراء والأميرات ورجال الدولة، الذين تنافسوا في إنشاء هذه المشروعات.

كانت مدينة القدس في زمان أوليا جلبي مقصدًا للحجاج الأوروبيين، كما كان الأمر في عصور الدول الإسلامية السابقة. وفي 1626 كانت الدولة (العثمانية) تتقاضى من كل حاج أوروبي 5 آقجات (قطع فضية) كرسم للدخول.

والقدس، أو بيت المقدس، مدينة مقدسة لدى الأديان الثلاث وأولى القبلتين، ومركز لواء في إيالة الشام. كانت في لواء القدس تشكيلات تيمار (فرسان الإقطاع العسكري).

ويبلغ راتب أمير اللواء أكثر من 257 ألف آقجة فضية، ومخصصات إمارة اللواء 20 ألف ليرة ذهبية، ويبلغ راتب قاضي القدس 500 آقجة يوميا، ومخصصات إدارة قضاء القدس 20 ألف ليرة ذهبية سنويا. وكان قضاء القدس المركزي كبيرا يتبعه ألف قرية.

مراسم الحج الأوروبي

تبلغ إيرادات الدولة سنويا من الحجاج الأوروبيين بين 20 و25 ألف ليرة ذهبية، ولا يعد الحاج حاجا ما لم يزر كنيسة القيامة، وأهم يوم مقدس للزيارة هو عيد الفصح (أو عيد البيض الأحمر)، الذي كان يشهد معظم الحج الأوروبي (المسيحي) آنذاك.

يفتتح كنيسة القيامة في عيد الفصح أمير لواء القدس، أو الملا قاضي القدس فقط، بالمراسم وقراءة الفاتحة وسط الاحتفال الديني المسيحي، وفي ظل تهليلات وصلوات البطاركة.

يقول أوليا جلبي إن افتتاح “مسلم” لأكبر مهرجان ديني مسيحي في العالم شيء غريب، لكنه كان يعني إشارة ضمنية للمسيحيين القادمين من جميع أرجاء العالم أن هذه الزيارة يمكن إجراؤها بكل حرية وأمان واطمئنان ونظام كامل بفضل الدولة العثمانية، وكي يتعلم الأوروبيون كيف يعاملون الذين لا يدينون بدينهم.

يزور كنيسة القيامة في ذلك اليوم عدد يتراوح بين 5 و10 آلاف زائر مسيحي، ويصبحون حجاجًا، ويعودون إلى أوروبا فرحين. يتقاضى قسيسو كنيسة القيامة الخراج من كل حاج، ما عدا المعوزين منهم، من 5 إلى 7 ليرات ذهبية.

يرافق الحرس العثماني الحجاج المسيحيين إلى بيت لحم، التي ولد بها السيد المسيح (عليه الصلاة والسلام) جنوبي القدس، وكذلك إلى المدينتين المقدستين الخليل والناصرة، ويرافقونهم عند العودة كذلك. والمسيحي الذي يزور تلك الأماكن، علاوة على كنيسة القيامة، يكون قد أدّى حجا كاملا.

طقوس افتتاح كنيسة القيامة

تعدّ كنيسة القيامة أكثر الكنائس قداسة، وتقف وحدة عسكرية عثمانية أمام الكنيسة على مدار الساعة، وهي مستعدة لتنفيذ أوامر البطريرك؛ إذ يتجمع أمام الكنيسة باستمرار جمع غفير من الحجاج القادمين من كل أنحاء العالم.

وقد لا يفهم أحدهم لغة الآخر، ومن المحتمل أن يتهور أحد هؤلاء الزوار، أو يتشاجر في سبيل الحصول على قطعة صغيرة جدا من أحجار الكنيسة. لذا فإن أمير القدس أو قاضيها يمكنه فك ختم باب الكنيسة مرة واحدة في السنة يوم عيد الفصح، ويعاد بعدها الختم مرة أخرى بعد انتهاء الحج، ولا يُسمح بدخولها مرة أخرى حتى عيد الفصح التالي.

ويختلي بداخل الكنيسة 300 راهب، ويغلق عليهم الباب، ويدخل إليهم طعامهم وشرابهم كل يوم من فتحة في الباب مخصصة لذلك الغرض، والراهب الكاثوليكي أو غير الكاثوليكي الذي يعتكف سنة داخل كنيسة القيامة يحصل على رتبة عظيمة.

في أيام الحج، يتجمع داخل وخارج الكنيسة نحو 20 ألف شخص، ولكي يفض ختم بابها في غير أوقات الحج (عيد الفصح)، لا بد من الموافقة الشخصية لوالي الشام (بكلربك أو فريق)، ولا يملك أمير لواء القدس (السنجق بك) تلك الصلاحية.

آخر أمر أُعطي قبل 23 عاما من زيارة أوليا جلبي، جاء من والي الشام زيلة لي جاووش زاده محمد باشا، حيث رغب الباشا عندما حضر لتفتيش القدس في زيارة الكنيسة. وبعد انتهاء الزيارة، جدد قاضي القدس ختم الباب فورا، لأن بداخل الكنيسة خزينة هائلة من التحف والكنوز.

فقد أرسل ملوك أوروبا المسيحية كافة منذ عصور طويلة أشياء ثمينة جدا. فالثريات والقناديل التي يعود تاريخها إلى ألف عام تدهش البصر، ولا يمكن مشاهدة ذلك في أي كنيسة أخرى. وتحرص الدولة العثمانية تماما على عدم خروج أو تهريب أي شيء من الكنيسة إلى الخارج.

وفي تعداد السكان الذي أجري عام 1648، كان عدد سكان المدينة 45 ألف نسمة، لكن عدد السكان يزداد بطبيعة الحال إذا ما أضيف إليهم عدد الزوار.

كنيسة المهد

تقع مدينة بيت لحم على مقربة من القدس وإلى الجنوب منها، وهي ناحية في القضاء المركزي للقدس، بها 200 دار، والشائع أن نبي الله عيسى (عليه الصلاة والسلام) قد ولد بها، لذا فإنها تكون مزدحمة بالمسيحيين القادمين من أمصار العالم المختلفة، ويعودون إلى القدس في اليوم ذاته بعد إتمام زيارتهم؛ إذ لا توجد فيها أماكن للمبيت.

يهبط الزائر إلى الكهف الذي سميت القصبة باسمه (بيت لحم) عبر سلم مكون من 12 درجة، وللكهف ثلاث زوايا، ويستوعب 100 شخص فقط بصعوبة، حيث يشاهد مهد عيسى (عليه الصلاة والسلام) من الحجر الأحمر، ومحل جلوسه من المرمر الأبيض، وقد جُعِل الكهف على شكل كنيسة.

وقد أنفق السلطان محمد خان (الرابع) قبل عدة سنوات من رحلة أوليا جلبي، أي حوالي منتصف القرن السابع عشر، مبالغ كبيرة لهذه القصبة، واستشار علماء المسيحيين في هذا الشأن، وبذلك زالت صعوبة الزيارة. مسلمون كثيرون كذلك يَؤمونها لغرض الزيارة، فالمسلمون يؤمنون بكل الأنبياء.

تستغرق الرحلة على طريق القدس-الخليل 7 ساعات، وقد شيّد السلطان مراد الرابع في منتصف هذا الطريق قلعة لتأمين مرور الحجاج المسيحيين بأمان، وتسمى “قلعة مرادية”، والمنطقة عبارة عن ناحية تحتوي على مدافع، وحامية مؤلفة من 90 جنديا.

أوقاف القدس ومعالمها

كان في القدس آنذاك 700 وقف، ولها ناظر مسؤول أمام أفندي (قاضي) القدس. والقدس من فتوحات السلطان سليم، وقد شيد قلعتها القائمة آنذاك الصدر الأعظم العثماني، لالا مصطفى باشا.

القلعة محاطة بسور طوله 7050 ذراعا، وتحتوي على 4040 منفذا للسلاح، وقبة جامع رستم باشا، ويوجد بداخل السور 1110 من الدور، وجامع، وعدة مساجد، وقصور وسرايات، وجميعها مبنية بالحجر.

والمسجد الأقصى من أعظم المساجد قدسية لدى المسلمين، وكان يحتوي آنذاك على مئات السجادات والثريات الثمينة جدا، وبه 7 آلاف قنديل وأشياء ثمينة أخرى، كلها هدايا من سلاطين الأيوبيين والمماليك والعثمانيين.

بلغ عدد المساجد والجوامع في القدس آنذاك 240، وأكثرها مبان صغيرة، فالمسجد الأقصى كبير بدرجة تستوعب أهالي القدس برمتهم. وفي القدس كذلك 71 مدرسة، و40 مكتب تعليم، و70 تكية، و6 خانات، و3 مطابخ عامة للمحتاجين، و18 حنفية ماء مشيدة (چشمة)، و70 حوضا وفسقية، وشادروان (ميضأة أو حوض مسقف تحيط به صنابير عديدة للوضوء).

وكان فيها 2045 دكانا، و4 حمامات عامة جميلة. وقد شيّد السلطان سليمان خان 18 حنفية (چشمة)، وكسا جميع أرصفة شوارع المدينة وأزقتها بالحجر الأبيض المصقول. وكان في المدينة معبدان لليهود، وكنيستان غريغوريتان، و3 كنائس أرثوذكسية.

وقد صلى عمر (رضي الله عنه) الذي فتح القدس، في المحراب الواقع في الجهة الشرقية من الأقصى، وكان يتولى خدمة المسجد الأقصى في ذلك العهد 800 شخص.

يصعد الخطيب يوم الجمعة على المنبر متقلداً سيف عمر (رضي الله عنه)، ويتلو الخطبة باسم حضرة البادشاه (السلطان) خليفة الكرة الأرضية (بالتركية: خليفة روي زمين). وللمذاهب الأربعة 4 خطباء، يعتلون المنبر للخطابة بالتناوب. كان للمسجد 50 مؤذنا، وقس على ذلك بقية القائمين بالخدمات الأخرى.

الإعمار العثماني للقدس

شيّد السلطان سليمان القانوني مسجد الصخرة الموجودة في طرف المسجد الأقصى بالأموال التي حصل عليها من حصته الشرعية من غنائم غزوات بلغراد وموهاج. قام المعمار العثماني الأشهر سنان ببناء المسجد حسبما وجهه البادشاه بنفسه، واستعمل المرمر الأبيض.

حضر المعمار سنان من إسطنبول إلى القدس خصيصا لهذا الغرض، وقد أشرف الصدر الأعظم لالا مصطفى باشا على البناء، وقد كسي عمود الذؤابة الوسطى في القبة، البالغ طوله 12 ذراعا، بطبقة سميكة جدا من الذهب، وكان يرى لمعانه من الأرض، وأقيمت أعمدته الـ12 من مرمر السوماكي (الملون)، وكان سجاده من الحرير بمثابة ثروة كبيرة.

“صخرة الله” عبارة عن صخرة بيضاء محاطة بسياج طوله 100 ذراع، وبسبب وجود القبة فوقها سُمي مسجد “قبة الصخرة”. إن هذه الساحة المقدسة التي بدأ بناءها عمر (رضي الله عنه) وأتمها سليمان القانوني، تسمى الحرم الشريف. كان يحظر دخول غير المسلمين فيها، كما هو الحال في مكة والمدينة ومقر البردة الشريفة (بالتركية خرقة سعادت) في قصر طوب قابو بإسطنبول، ومقام أبي أيوب الأنصاري في إسطنبول أيضا.

كان السلطان سليمان قد صرف من حصته الشرعية في الغنائم ألف كيسة ذهب لكل من مكة والمدينة والقدس، ويعادل مجموعها 3 آلاف كيسة رومية (عثمانية)، أي 750 ألف سكة أو ليرة ذهبية.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *