“ذكريات مكبوتة”.. 3 روائيين أردنيين يستذكرون الطفولة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

عمّان – المألوف أن الروايات على اختلاف بيئاتها تتناول قضايا متباينة، لكن أن ينبري روائيون أردنيون لتناول ذكرى الطفولة ويركزوا عليها في كتاباتهم؛ هو تجربة فريدة تستحق التأمل.

الدكتور زياد أبو لبن صاحب “أنفاس مكبوتة”، ومحمد العامري صاحب “شجرة الليف”، والدكتور محمد القواسمة صاحب “أصوات في المخيم ” و”شارع الثلاثين”، عادوا مجددا -في أعمالهم الأدبية- إلى ذكريات طفولتهم التي تبعث في الإنسان الحنين لحضن الأم الدافئ وأمنياتهم بأن “يعودوا أطفالا يتربعون في الطشت وينعمون بطقوس الاستحمام العبقة برائحة الأم”؛ وهذه قضية جديرة بالبحث والتمحيص.

ومن تلك الذكريات تبرز أسئلة تبحث عن إجابة؛ أبرزها لماذا يعود هؤلاء الروائيون للماضي، هل لجماله كما يبدو أم ربما لبشاعة الحاضر؛ كونهم جميعا لم يأكلوا في صغرهم بملاعق ذهبية بل كانت لهم حكايات مع شظف الحياة بدرجات متفاوتة؟

فهل يختزن هؤلاء صرخة مقموعة أو مخزّنة أو مشاعر مطمورة صاحبت مشوارهم الحياتي كندوب حانت اللحظة المناسبة للبوح بها؟

هذا ما نحاول اكتشافه في هذا التقرير.

أنفاس مكتومة

الدكتور زياد أبو لبن صاحب “أنفاس مكتومة وقصص أخرى” امتاز بسردية متماسكة وأمسك بشخوصه على مدى 119 قصة لكنه تركها تتحرك بحرية تامة ضمن تسلسل الأحداث بدون توجيه أو تدخل؛ فهي تتزين بواقعيتها في معاناتها مع الحياة بلغة سلسة وواضحة في عمل أدبي مميز لا يقدر القارئ على مغادرته .

فالبطلات منهن 11 فتاة بأسماء مختلفة والأم هي البطلة أو المحرك الرئيس، واعتبرها المراقبة لسلوكهن والموجهة لهن بصفتها الأكثر خبرة ودراية، واكتفى بمراقبة حركاتهن وكسر التابوهات المحرمة في مساحات ضيقة، فالزمان والمكان محدودان بحركة بطلاته.

زياد أبو لبن الأم مدرسة وبطلاتي صغيرات يواجهن ثقافة العيب( الجزيرة.jpg

وحول دور الأم يقول: “بالتأكيد الأم محرك رئيسي في القصص جميعها، فالأم المدرسة التي تربي وتُنشئ جيلا قادرا على مواجهة الحياة في انفتاحه على كل ما هو ممكن وغير ممكن، فهي تدرك سلوك أطفالها بالفطرة، وإن خبرت الحياة ومعتركها إلا أن نزوع الفطرة ينبهها على الخطر المحدق بالطفل من انحراف سلوكي بفعل ما تتيحه شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء التكنولوجي، ففي قصص “أنفاس مكتومة” هي المحرك الرئيس لأحداث القصص؛ بل هي مركزية تلك الأحداث”.

الآباء وأسئلة الأبناء

واعتبر أبو لبن أن الآباء يقعون بإحراج بائنٍ أمام أسئلة أبنائهم، خاصة أن الأسئلة تصدر عن طفولة بريئة وجريئة، فالأطفال هم أقوى على طرح الأسئلة الجريئة، هذه البراءة تتلوث حينما يكبرون وتصبح الأسئلة مصدر خوفهم في مواجهة ثقافة العيب أو في مواجهة الغيبيات، ولقلة وعي الآباء غير المتسلحين بالعلم يقفون عاجزين عن الإجابة عن أسئلة أطفالهم، وأحيانا يجيبونهم بإجابات فيها لبوس أو مُلبسة تثير في أذهانهم أسئلة أخرى فتبقى معلّقة، فيكبرون وتصغر الأسئلة، بحسب وصفه.

ويضيف موضحا: “عندما تعجز إحدى شخصيات القصة (سعاد الطفلة الصغيرة) أمام الموت الذي يزحف إلى أبيها ببطء، ومتسللا من خلال السرطان الذي يفتك بعظمه الهش، تكتب رسالة إلى الله لينقذهم من الجوع، وبكل براءة الطفولة تضع الرسالة على قبر أبيها ليوصلها إلى الله، كما حال الطفل “خليل” الذي يقترب من ماء البحر ويهمس “بدي ماما”، تلك الأم التي ماتت بمرض الكورونا… هؤلاء الأطفال يمتلكون وعيا كبيرا بالعالم، وعيا غير مزيف أو ملوث بخطايا الكبار”.

وختم حديثه للجزيرة نت قائلا إن “قصص المجموعة تبقى الأكثر جراءة في طرح ثقافة العيب عند الأطفال، جاءت بأسلوب يحمل جماليات اللغة بكل ما تحمله اللغة الشعرية، وهي قصص تحمل رؤية جديدة لعالم الصغار أو الفتيان، وتنهض بهذا العالم المسكون بالخوف”.

حمّام الجمعة عذاب قسري

وبأسلوبه السلس ولغته الرشيقة وحسه الإنساني في نتاجه الإبداعي يتجول الدكتور محمد القواسمة في أروقة الفقر والبؤس؛ ففي روايته “أصوات في المخيم” التي صدرت في جزأين “النشور” و”الحشر”، تقوم الأم بدور مهم في بناء ‏الرواية التي تتحدث عن الحياة في المخيمات الفلسطينية والمشاهد التي تعبر عن بؤس الحياة وما كان يحدث في يوم الجمعة عادة، عندما كانت تقوم الأم بعملية تحميم أولادها.

وتقدم ‏الرواية وفق القواسمة تفاصيل هذه العملية المضنية لها ولابنها الذي تقوم ‎‏بتحميمه، فصالح بطل الرواية ‏كان يحسب ألف حساب لهذا اليوم، ويحاول أن يهرب ويخلق معاذيره كي ينجو من العذاب القسري الذي يتعرض له ويهرب إلى الشارع ولكن إلى أين؟ تنطلق أمه ‏خلفه وتأتي به إلى المطبخ الذي تتم فيه عادة أعمال كثيرة من طهي وغسيل ومذاكرة واستحمام.‏‎ ‎

ويرى القواسمة أن صورة الاستحمام التي تظهر تدل على أن الإنسان يستطيع أن يتكيف مع البؤس والفقر ‏والعذاب وأن يصنع الفرح من أبسط الأعمال، أما مظاهر القسوة التي تظهر تعامل ‏الأم مع طفلها في أثناء عملية التحميم فهي انعكاس لبؤس الحياة.

“شجرة الليف”.. تسريد للذاكرة ‏

وتوصف رواية “شجرة الليف” الصادرة عن فضاءات للنشر، بـ170 صفحة، التي أطلق عليها محمد العامري “تسريد الذاكرة”؛ بأنها “جردة لذاكرته” ومجموعة من المقاطع الطفولية المكتوبة بلغة شعرية تصور حياة طفل كما لو أنه يكتب بالكاميرا، حيث كان “حمام الجمعة” طقسا خاصا وعذابات خاصة، فأمه تتعامل مع جسده كما تتعامل مع الأواني النحاسية المنزلية، إذ تسخن المياه على بابور الكاز والبطل صابون أبو مفتاحين النابلسي، “شيء حاد وخشن يجرف ظهري.. كنت أحاول الهروب.. أشبه بمعتقل تحت وطأة الليفة”، والليفة من شجرة الليف التي تزرع أمام البيت وكأنها من أهله لكنها لا تؤكل.

محمد العامري يصف حمام الجمعة بأنه إعتقال قسري(الجزيرة.jpg

كما توثق الرواية -حسب العامري- ذكريات طفل عايش المشاغبات الطلابية وأحداث المنطقة بسردية مزينة بالصور الحياتية كجلب الماء مع جدته، وتدوّن علاقاته مع رفاق الصبا والجيران الذين هم أبطال “شجرة الليف”، وتصور ما سماه رعشة الشلال والأفراح القروية وحفلات الختان التي وصفها العامري بأنها حفلة إعدام لثوري لا يخشى الإعدام.

الطفولة وتلوين الطيور

وفي حديثه للجزيرة نت يقول العامري “الطفولة هي مؤونة أو خزان من الذكريات اللذيذة التي اتكأ عليها في السرد والشعر والأشياء البكر التي لم تلوث بعد، وأعتقد جازما أن ذاكرة الطفل عبارة عن كاميرا غير مشوشة تمتلك من القوة الصارخة التي لا يمكن أن تنسى”.

وقال إنه عايش في طفولته “أحداثا وذكريات؛ منها الغرائبي كتلوين الطيور.. كنت وأخي علي نصطاد الطيور ونلونها ونعيد إطلاق سراحها وكل منّا يعرف طيوره، ولا تلبث أن تعود بغير ألوانها لتقف على شجرة العنب (الدالية)”.

ويتابع: “كما عايشت في سن الخامسة معركة الكرامة، حيث كان جيش الكيان الصهيوني يقصفنا بالصواريخ والقنابل في الأغوار الشمالية كونها كانت قواعد للفدائيين الفلسطينيين وأجبرنا على الرحيل إلى بلدة الصريح قرب مدينة إربد عروس الشمال”.

ويواصل سرد ذكرياته: “وفي شمال المملكة شاهدت لأول مرة البئر.. هذه المفردة لم تكن موجودة في بلدتي “القليعات”، حيث الينابيع والشلالات.. وأول مرة لي داخل البئر كانت أكثر المشاهد رعبا لأن قاعه مرآة سوداء.. بدأت أتحسس تقاليد جديدة تختلف تماما عن الأغوار الشمالية.. ولمّا كانت طفولتي زراعية ارتبطت بالنهر والشلال الساقط من سد “زقلاب” كأنه رغوة من الصابون الأبيض نستحم بها غالبا في نهاية الأسبوع”.

ما زلت أشم رائحة الطفولة

ويقول: “حتى اللحظة أهبط للأغوار الشمالية للقاء أمي، وحين تحضنني رغم هذا العمر أشم رائحة حليب الطفولة، وذلك الطفل الصغير في حضنها وأحاول دائما أن أستفز ذاكرتها لتحدثني عن تلك المفارقات لتقول “رأيتك قبل الولادة”، وهذه الحكاية تشغلني حتى اللحظة، وتزيد “وأنا حامل بك وصفتك للجارات بدقة متناهية وخصلة شعر تختلف عن لون شعري.. رأيتك تقف على قبة مقام سعد بن أبي وقاص وتقرأ من كتاب كبير”، وحين ولدتني كانت الصفات نفسها، فذبح أبي “عقيقة” ولبّس المقام قماشا أخضر، فهرع أهل القرية وأخذوا قطعا من القماش كأساور وقلادات، من باب التبريك”.

ويضيف: “هذه الحادثة تشتغل في ذاكرتي بكثير من التساؤلات عن علاقة الأم بجنينها، وهي صورة لم يكشفها العلم بعد، فمن الممكن أن تحس الأم بحركاته لكن أمي عرفت شكلي قبل أن تراني”.

“وأود القول إن القرى تمتلك ذكريات سحرية واقعية لم تكتب بالشكل الصحيح بعد، فمثلا كانت جدتي خبيرة في قنص طير “البوم”.. تقطع ريشه وتضعه في المكحلة ثم تكحل عيون البوم، وتضع طوقا من الخرز الصغير في عنقه وتمتم بكلام لم أفهمه وتطيره باتجاه الشمس لكي تتقي شرّه، لأن هذا الطائر في الموروث العربي يرمي للشؤم”.

الأم وطن

وعلى صعيد متصل يرى الناقد والشاعر راشد عيسى أن الأم خارج معنى النساء، “فهي وطنك الذي لا يطلب جواز سفر ولا ضرائب.. إنه يطلب منك الإقامة ليستمتع بمنحك الحنان والمحبة والكائن الوحيد الذي يعطيك مهجة قلبه ولا يتوقع منك شكرا أو رد معروف”.

راشد عيسى الأم وطن لا يطلب جواز سفر ولا ضرائب (الجزيرة.jpg

وفسّر عيسى للجزيرة نت قائلا: “لذلك تناول الأدباء في مختلف بلاد الدنيا ثيمة الأم تناولا مقدسا منزها عن رغبات دنيوية، ولعّل ظاهرة استدعاء الطفولة في الأدب أعظم دليل على “تعالق” الابن بأمه تعالقا سرمديا، فالأمومة تعني الحرية التي لا تعادلها حرية”.

وأضاف: “عندما لعب الشتات بالراحل محمود درويش صرخ بنبضات فؤاده الجريح: أحن إلى خبز أمي ولمسة أمي وقهوة أمي، إنه الحنين للأمن العاطفي والغذائي، وكذلك في أغلب الروايات العربية والعالمية نجد ظاهرة التوجع بسبب الابتعاد عن الأم، فهي المصدر الأول للطمأنينة وما سواها مشكوك فيه وقابل للخداع”.

ويردف: “نحن نرنو للزمكان الطفولي خوفا من الموت واستياء من متاعب الرشد والوعي.. نريد أن نظل أطفالا منذورين للعب والأحلام والجهل فحضن الأم هو الذي نطمئن لوفائه المطلق، لذلك نصبو إليه كلما كبرنا”.

ووصف راشد عيسى الأم بفردوس الفراديس وسط صحراء الآمال الخائبة، وقال “حتى أعظم السلاطين حين تغم عليه الهموم يتذكر حضن أمه”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *