نابلس– في المشهد الأول من “نزيف التراب” تظهر معالم السجن الإسرائيلي، برج المراقبة والمجندة الحارسة، والأضواء والأسلاك الشائكة، وفي العمق أسفل منه تتناثر ذرات التراب فوق حفرة يقوم أسرى فلسطينيون بنبشها من داخل زنزانتهم في سجن عوفر الإسرائيلي قرب رام الله، لتتحول لطوق نجاة لهم بعدما تمكنوا من الفرار.
وبعد الهروب يواصل الأسرى الأربعة مسيرهم بعد أن ينقسموا لفريقين، فيتمكن الاحتلال من اعتقال اثنين منهم، بينما ينجح بلال (شخصية البطل) ورفيقه بالوصول إلى قريته “تل الصبر”، وهناك يخطف نفسه لوهلة لرؤية والدته قبل أن يقتحم الاحتلال القرية، ويدهم منزل عائلته، ومع ذلك يفر بلال هاربا لمقبرة القرية.
وفي المقبرة يدور اشتباك مسلح بين جنود الاحتلال وبلال ورفيقه الأسير وثالث انضم إليهم، فيقتل الاحتلال اثنين منهم، يُظن أن أحدهما بلال، ليتبين لاحقا أن بلال نجا من الموت بأعجوبة، بعدما أنقذته الخالة “أم عسكر” التي تؤوي المطاردين، وتطلق عليه تمويها اسم “عاصف”.
من وحي الواقع
ومن ثم يواصل بلال باسمه الجديد “عاصف” بعد أن أغلق الاحتلال ملفه الأمني بادعاء قتله، ورفاقه لا سيما ياسر القادم من مخيم جنين وجهاد ابن قريته “تل الصبر”، وتستمر رحلة الشباب بتجسيد الخط الوطني الفلسطيني بدون تناسي الخط الإنساني لكل واحد منهم.
وهكذا تتوالى أحداث “نزيف التراب” للمخرج الفلسطيني بشار النجار بتفاصيلها المختلفة وسرديتها الممتعة لتحكي فلسطين وقضيتها الوطنية بعمل درامي هو الأول من نوعه والوحيد فلسطينيا هذا العام، والذي تميز أيضا بفلسطينية إنتاجه وتصويره وتمثيله.
وثمة واقع حقيقي يجسده عمل النجار، لا تعكسه فقط سلاسة الأحداث وتنوعها، بل تقاربها مع المشهد الذي يعيشه الفلسطيني يوميا، فالهروب من سجون الاحتلال سطره 6 من الأسرى مطلع سبتمبر/أيلول 2021 بفرار 6 منهم من سجن جلبوع الإسرائيلي.
وشخصية بلال، التي تقوم عليها فكرة المسلسل، مستوحاة من قصة لمقاوم فلسطيني أنشدها الفنان الفلسطيني الراحل أبو عرب في أغنيته “يا يما في دقة (طرق) على بابنا، يا يما هاي (هذه) دقة أحبابنا”، وحتى أم عسكر، هي شخصية وطنية شكلت حاضنة للمطاردين إبان انتفاضة الأقصى عام 2000 بمنزلها بالبلدة القديمة بنابلس.
والمسلسل الذي جاء في 30 حلقة تلفزيونية مدة كل منها 40 دقيقة، وضم 50 ممثلا فلسطينيا وأكثر من 20 من الكادر الفني، يدور في خلد النجار منذ 4 سنوات، لكن كتابته وتصويره جاء بعد الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ لم تفلح محاولات النجار لإنتاج الجزء الثاني من مسلسله الذي قدمه العام الماضي “أم الياسمين”.
وواقعية المسلسل الذي أنتجته شركة “ريدي برودكشن” يراها النجار في محاولة خلق انتصار نفسي وحالة وعي وطني عبر تكريس وتجسيد المفاهيم الوطنية، ومن خلال تقديم ونسخ المشاهد الحقيقية داخل التصوير ما جعلها قريبة من المشاهد.
إنجاز بزمن قياسي
كما تأتي واقعية الفيلم من تعطش المجتمع الفلسطيني لدراما حقيقية تعكس صورته، في حين تعد هذه الدراما شكلا من أشكال النضال، وتنقل الرسالة الفلسطينية.
وهذه المشاهد تجلت فيما جسده “عاصف” من الجانب الخاص في مقاومته، في حين يروي المسلسل ككل حياة قرية “تل الصبر” العامة، وهجمات المستوطنين واعتداءاتهم عليها وعلى مدرستها والتنغيص عليهم، وهو حال يعيشه الفلسطينيون يوميا في قراهم ومناطقهم.
ولأكثر من شهر اعتكف أسامة ملحس كاتب المسلسل لتأليفه، وخط تفاصيله، وهو الذي يكتب لأول مرة كما يقول في العمل الدرامي التلفزيوني الوطني، إذ كرس كتاباته السابقة للعمل المسرحي والدرامي الديني والاجتماعي.
ويقول الكاتب ملحس للجزيرة نت إن الصعوبة كانت بالتحدي بسرعة الكتابة واختيار فريق العمل وأماكن التصوير التي استهدفت 35 موقعا.
كما أن قوة العمل ليست بالضرورة أن تكون من صنع السيناريست أو الكاتب، بل عبر المخرج النجار الذي استطاع الإنجاز بزمن قياسي وتحويل الأفكار البسيطة لعمل “عظيم”، بحسب وصفه.
ويؤمن ملحس ككاتب “بأن المخرج بيده مفاتيح القوة والضعف بأي عمل درامي، ولكن المختصين يمكنهم أن يعلقوا ما إذا كان بإمكانهم أن يلتقطوا مواطن القوة في السيناريو والحوار، أما المشاهد العام، فيحكم من خلال المشهد بجماله أو عدمه”.
شروط إنتاج صعبة
ولكن هل مطلوب من الدراما أن تعكس الواقع؟ سؤال رد عليه الناقد الفني الفلسطيني سعيد أبو معلا بقوله إن الدراما قد تختار أحداثا من الواقع وتبني عليها معالجة درامية لتحقيق أهداف مرتبطة بالمجتمع، لكن بالسياق الفلسطيني بات مطلوبا منها الاهتمام بالواقع والالتفات له، لا سيما بظل تغييب الدراما العربية للمشهد الفلسطيني من بين عشرات المسلسلات المنتجة، وحتى للصراع الإسرائيلي العربي.
واليوم -يضيف أبو معلا للجزيرة نت- تكتسب القضية الفلسطينية أهمية أكثر في ظل ما تعيشه من حرب كادت تنهي شهرها السادس، “وهنا نرى أن النجار وعبر نزيف التراب أخلص تماما للواقع الفلسطيني، وسعى لمعالجته دراميا”.
وبرز ذلك بحسب أبو معلا في حضور البيئة والتفاصيل الفلسطينية ومفردات الحياة من المقبرة والشهداء والاستيطان والسلاح، وتعاطى مع ذلك بطريقة إبداعية، والأهم أن النجار برأي الناقد الفلسطيني صاحب مشروع درامي، ويناضل لإنتاج عمل ما، ضمن شروط إنتاج صعبة جدا في السياق الفلسطيني، وهذا يحسب له.
كما يحسب للعمل أنه يتماهى مع الحالة الفلسطينية العامة، وهذا “مبشر” كما يقول أبو معلا الذي أكد أن هناك إيمانا شخصيا من المخرج، ومن مجموعة من الممثلين بالعمل وإنجاحه.
ويعكس “نزيف التراب” قفزة نوعية مقارنة بالأعمال السابقة للنجار، فالمخرج ليس نفسه كاتب السيناريو، وهناك موسيقى تصويرية متقنة، وتطور في التمثيل، لكن وللحاجة “لعمل نوعي” كان لا بد من الاجتهاد أكثر في مساحة التمثيل.
ويقول أبو معلا “لا نتحدث عن مقاطع كوميدية، وإنما شخصيات تعيش صراعات ومواقف فكرية وسياسية”. ويضيف “لكن يبقى بالحسبان أنه وبظل حالة عامة من الخوف اليوم في تبني خطاب المقاومة، تجاوز المسلسل ذلك وعالجه دراميا”.