بموقعها المميز بين البحر المتوسط وتلال الجبل الأخضر احتضنت مدينة درنة العريقة ولمئات السنين رفات 73 صحابيا وتابعيا، كانوا جنودا وقادة ضمن الجيش الذي نشر الإسلام في بلاد المغرب الكبير، قبل أن تجرف سيول العاصفة “دانيال” معالما بالمدينة ومنها المقبرة التاريخية وتلحق أضرارا جسيمة بالمسجد المحاذي لها.
ضربت “دانيال” شرق ليبيا ودرنة -التي تلقب بسليلة الماء- بشكل خاص، وقتلت آلاف البشر، ولم يمتد تأثيرها على الأحياء فحسب وإنما أصابت رفات الأموات الذين رقدوا تحت ترابها لمئات السنين.
درنة التي يقطنها نحو 120 ألف نسمة، يصفها بعض المؤرخين بخزانة التاريخ الليبي، ودليل لحمتها ووحدتها، وتشهد مقبرة الصحابة فيها على احتضانها الليبيين، من قبائل الشرق والغرياني والتاجوري، والمسلاتي والمصراتي والفزاني، بل واحتضنت المصري والتونسي والبرناوي (من قبائل البرنو العربية) والقريتلي (ليبيون أصولهم من جزيرة كريت) وساهم تنوعهم في تميز المدينة التي تعاقبت عليها حضارات مختلفة من الإغريق والروم مرورا بالفتح الإسلامي، وليس انتهاءً بدورها الحيوي بالحقبة العثمانية وتحديداً فترة حكم الأسرة القره مانلية أوائل القرن الـ 17.
مدينة الصحابة
درنة التي حظيت بشواهد تاريخية بارزة لعدة حضارات مرت بها، كان من أبرزها مقبرة الصحابة التي تضم رفات 73 صحابيا وتابعيا، أبرزهم “زهير بن قيس البلوي” الملقّب بأمير برقة الشجاع، ومساعداه “أبو منصور الفارسي” و”عبد الله بن بر القيسي” من قادة الجيش الإسلامي في المغرب الكبير ممن استشهدوا في معارك ضد الرومان تلك المنطقة.
وفي عهد الحكم العثماني لليبيا أنشئت المقبرة ببناء أضرحة للقادة الثلاثة على مدخل إحدى المغارات المحاذية لوادي درنة، إضافة إلى رفات 70 تابعيا، وذلك في القرن الـ 11 الهجري، وأطلق عليها مقبرة محمد بك نسبةً إلى الحاكم العثماني بليبيا، قبل أن تشيع بين الليبيين باسم مقبرة الصحابة، وتتحوّل إلى مكان ذي قدسية لدى ساكني مدينة درنة.
مقبرة ومسجد للصحابة
سنة 1970 بادر أهالي درنة ببناء مسجد حمل اسم “مسجد الصحابة” على جزء من المقبرة التاريخية، ليكون صرحا يميّز المدينة، واستمرّ العمل في المسجد حتى 1975، تاريخ افتتاح المسجد، بتمويل من سكان المدينة، وأصبح أكبر مسجد في المدينة وأحد أكبر مساجد ليبيا.
وتحوّل المسجد سريعا بعد تأسيسه إلى مركز ثقافي وعلمي في مدينة درنة، فقد كان يزوره كلّ وافد إلى المدينة، حتى من المسؤولين والأمراء. وأضحى ملتقى اجتماعيا يجمع كل أطياف المدينة من كل الشرائح، حيث تقام جنائزهم وتعازيهم في صالة المناسبات المخصصة بالمسجد، لأنه يتوسط المدينة، وقريب من أهم أسواقها، وهو سوق الخضار، أو كما يعرف بسوق الصحابة.
تطرف وحرائق وفيضانات
بعد ثورة فبراير/شباط 2011 تعرضت المقبرة إلى حريق نتج عن انفجار مولد للطاقة الكهربائية، لتلتهم النيران جزءا من المقبرة قبل أن يسيطر عليها فريق الدفاع المدني، ويمنع تمدده إلى مسجد الصحابة المجاور للمقبرة التي تعرضت للتجريف بفعل فيضان مشابه قبل 64 عاما، إلا أن الأمر لم يتوقف عند الكوارث الطبيعية كما يؤكد الأستاذ بجامعة محمد بن علي السنوسي الإسلامية عبد المنعم الشوماني.
الشوماني المختص في الحركات المتطرفة تحدث -للجزيرة نت- عن مقاومة درنة المستمرة لكل محاولات “سلب رمزية وجود أضرحة الصحابة” وتحدث عن “محاولات الجماعات المتطرفة طمسها من خلال تفجير الأضرحة”. لكنه يصف درنة بالقوية ويشيد بقدرة أهلها على إعادة ترميم المقبرة كل مرة يرى أن المدينة بحاجة إلى الوقوف بجانبها لهول الكارثة.
خزانة التاريخ
ردا على التحذير من كارثة بيئية بسبب الجثث المتحللة، يقول أسامة بن هامل الكاتب والباحث في تاريخ المساجد والزوايا والأضرحة “قبور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و70 تابعيا، لا تنبعث منها إلا روائح عطر مضمخة بنسائم الجمال والحب والوفاء، حتى باتت أرضها لا تنبت إلا الياسمين، أما ردهاتها وجنباتها فهي أكبر خزانة من الوثائق الأثرية والأنثروبولوجية للتاريخ الليبي غير المكتوب”.
بن هامل يؤكد للجزيرة نت أن من أهم تلك الوثائق قبور الصحابة الثلاثة، ومغارة تحوي قبور 70 تابعيا، استشهدوا في معركة على ضفة الوادي الشرقية أثناء حملات الفتح الإسلامي للمنطقة، ودفنوا بذات البقعة التي استشهدوا فيها، وعليهم أقام أهل درنة قباب وأضرحة الوفاء، ولاحقا مسجد وزاوية تحولا إلى أهم معالم الثقافة ومراكز العلم في المدينة.
وفي غياب أي تصريح من الجهات الرسمية الليبية، بخصوص المعلم التاريخي الشهير، أعلنت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو” -في بيان– استعدادها لترميم وصيانة المواقع الأثرية المتضررة من إعصار “دانيال” الذي ضرب عددا من مدن شرقي ليبيا ودرنة بشكل خاص وتسبب في فيضانات عارمة وسقوط الضحايا.
وأكدت المنظمة -التي تتخذ من العاصمة المغربية مقرا- رغبتها بالتعاون مع الجهات الليبية المختصة في “ترميم وصيانة وتقييم الأضرار التي لحقت ببعض المواقع الأثرية الليبية”.
“دانيال” يهدد الهوية
مثقفو ليبيا -ومن بينهم الأكاديمي الشوماني- يرون أن اسم درنة ارتبط بأضرحة الصحابة ومسجدها الذي سمي نسبة لهم “بل إننا نادرا ما نجد درناويا يقول لك: أنا من درنة دون أن يلحقها بجملة بلاد الصحابة” فإعادة الحياة لدرنة وإعمارها مرتبط بعودة الصحابة لها وعودة رونق مسجدها لسابق عهده، كما يؤكد الشوماني.
ويرى الشوماني أن درنة -التي قاومت وبكل بسالة تغيير معالمها التاريخية- تحتاج اليوم من يدافع عن هويتها “فدرنة اليوم ليست درنة الأمس، وعلى الجهات المعنية سواء الدولية أو المحلية العمل على إبقاء رمز درنة، وعدم السماح لمن يريدون نزع هويتها من استغلال ما جرى لتغيير ملامحها فلا يمكننا وصف درنة سوى أنها بلاد الصحابة”.
الوحيدة في أفريقيا
بل إن الكاتب بن هامل يذهب إلى أبعد من ذلك قائلا “لا يعرف في تاريخ كل القارة الأفريقية بلدة أو مدينة حوت 3 من قبور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم و70 تابعيا إلا مدينة درنة” رغم انتشار قبور الصحابة بشكل واسع في كل مناطق وأنحاء الشمال الأفريقي حيث دخلت الجيوش الإسلامية الفاتحة وصولا إلى الأندلس.
وأشار إلى أن “ما يميز درنة الحب والوفاء الكبيرين اللذين حملهما أهل المدينة على مر 14 قرنا، فتواترت حولهم القصص والكرامات التي تحمل في مضمونها تكاثفا وتزايدا في التعلق بهم”.
فحب أهل درنة للصحابة والتابعين دفعهم إلى تسمية أعرق الأحياء بأسمائهم، فالحي المجاور لأضرحتهم هو حي “بومنصور” نسبة لأحد الصحابة الثلاثة، وهو الصحابي أبو منصور الفارسي، قاضي الجيش الفاتح، كما لم يتوقف أهل المدينة عن تسمية أولادهم باسم “زهير” نسبة لقائد الجيش، وصاحب أبرز الأضرحة الثلاثة، الصحابي زهير بن قيس البلوي.
ويسترسل بن هامل “أما الصحابي الثالث فهو عبد الله بن بر القيسي، وله علاقة أوثق بأهل المدينة إذ يسمونه سيدي الزوام لحكاية ترجع لمرويات قديمة متواترة تقول إن أهل المدينة كانوا يسمعون صوتا كالأنين يصدر من قبره الشريف، صوت يشبه صوت الذاكر في خشوعه واستغراقه مع ربه في خلوته”.
ولا تمثل قبور الصحابة الثلاثة والمغارة التي تحوي 70 تابعيا، مجرد قبور للعبرة والتذكر والتبرك فقط، كما يقول بن هامل “فهي شواهد أثرية تؤكد ما تتحدث عنه مصادر التاريخ من أحداث شهدتها المنطقة إبان الفتح الإسلامي، بل لو اعتنت أقسام التاريخ والآثار بالجامعات بدراسة ما حولها وتحتها لاستخرجت المزيد من التفاصيل المهمة”.
وإلى جانب الأضرحة الثلاثة تقع المقبرة التي شكلت شواهد قبورها سجلا حافلا بالعشرات من علماء وأدباء وشعراء ومثقفي المدينة عبر تاريخها الطويل، منهم الشيخ المؤرخ أحمد القطعاني الذي تحدث في كتاباته عن تلك الأضرحة وقبابها التي بنيت بعض تفاصيلها وفق طراز أندلسي، مما يكشف عن فترة تاريخية مهمة في تاريخ المدينة عندما “فتحت أحضانها لاستقبال الأندلسيين الفارين من انتهاكات محاكم التفتيش الصليبية، فبادلوا أهلها حبا بحب ووضعوا بصماتهم في ذلك من خلال تلك الزخارف والنقوش الأندلسية التي جللت بقباب وأضرحة صحابتها” كما يختم بن هامل.